د.محمد عبد المطلب: تمنيت أن أكون شاعرا

أحد أهم أعلام النقد الأدبي في مصر، وهب حياته للنقد والأدب والبلاغة، وأصدر العديد والعديد من الكتب في الشعر والسرد والبلاغة والمناهج الأدبية، كان طول عمره مشغولا

أحد أهم أعلام النقد الأدبي في مصر، وهب حياته للنقد والأدب والبلاغة، وأصدر العديد والعديد من الكتب في الشعر والسرد والبلاغة والمناهج الأدبية، كان طول عمره مشغولا بإعادة الاعتبار للبلاغة العربية، وإثبات صلاحيتها للتعامل مع النص الحديث، كما انشغل في الوقت ذاته بالمناهج النقدية الوافدة وتأصيلها، والبحث عن علاقتها بالنقد والبلاغة العربيتين. إنه الدكتور محمد عبد المطلب الذي حصل مؤخرا على جائزة الملك فيصل العالمية في الآداب، عن منجزه في نقد الشعر، خاصة أنه انشغل طويلا بمتابعة النص الشعري الحديث، وأصدر عددا من الكتب عن قصيدة النثر، فكان هو الناقد الأهم لهذه القصيدة في مصر والوطن العربي، منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، في الوقت الذي كانت فيه قصيدة منبوذة ويتم إقصاؤها طوال الوقت، فكانت معاينته لها، وإضاءته لنصوصها مغامرة كبرى وسباحة ضد التيار. كما وضع بصمة خاصة في محيطه الأكاديمي، حيث تتلمذ على يديه العديد من الباحثين، الذي أصبح الكثير منهم أساتذة كبار يشار لهم، فهم خريجو مدرسة محمد عبد المطلب، أيا كانت الجامعات التي ينتمون لها.. عن مشروعه النقدي والبلاغي ورؤيته في المشهد الثقافي والأدبي الراهن كان لنا معه هذا الحوار.

 

لك منجز طويل مع قصيدة النثر بالدراسة والمتابعة وقت أن كانت مرفوضة.. فألم يكن لديك تخوفات من التصدي لمعاينة نص منبوذ وقتها؟

الناقد الصحيح يمتلك ذوقين، ذوقه خاص وذوقه العام، فأنا لي ذوقي الخاص وأستمتع عندما أقرأ المتنبي أو أقرأ امرأ القيس أو أبا تمام، لكن بذوقي العام علي أن أقرأ كل ما يوجد في الواقع الأدبي وأقيمه وأحلله وأكشف خصوصيته، هذا هو الناقد الحق لا يحكم ذوقه الخاص في الأدب العام وأنا بهذا الفهم وجدت أن قصيدة النثر أصبحت كالثورة أو كالحريق الذي انتشر في العالم العربي كيف يمكن لأي ناقد أن يهمل ظاهرة أدبية بهذه الكثافة وهذا العمق، والحق أن أول من فتح ذائقتي على قصيدة النثر هو الشاعر رفعت سلام، لأن قراءتي له كشفت لي عن أن شعراء قصيدة النثر لا تنطبق عليهم التهمة التي ألصقها بهم الآخرون وهي أنهم لا يعرفون العروض ولا يعرفون التراث ولا يعرفون الشعر فقالوا ما يخرج عن كل هذه التقاليد، قراءتي للشاعر رفعت سلام ولحلمي سالم وغيرهما من الشعراء أثبتت أنهم كتبوا القصيدة التفعيلية، بل والقصيدة العمودية، إذن هم على دراية بالشعر العربي وبموسيقى الشعر العربي وتاريخ الشعر العربي، فأقدموا على قصيدة النثر بناء على توجه فني أو تجريبي عندهم وهذا حقهم، والشعرية العربية منذ أن ظهرت وحتى يومنا هذا وهي تواجه هذه التجارب. لا تتصور أن الحداثة قاصرة على عصرنا الحاضر، فالحداثة ظهرت في العصر الأموي، وسمي جرير والفرزدق شعراء الحداثة، وسمي بشار وأبي نواس شعراء الحداثة، فكأن مصطلح الحداثة ليس جديدا، ورفض هؤلاء الشعراء رفضا كبيرا، إذن مسألة الرفض والقبول مصاحبة للشعرية العربية منذ أن ظهرت وحتى يومنا هذا، وقيل لأبي تمام: لم لا تقول ما يفهم؟ وهناك رواية رواها المرزباني أدق: لم لا تقول ما يعرف؟ فهو مفهوم ولكنه ليس معروفا عندهم، وهذا يدل على أن الوعي الثقافي كان منتشرا في المجتمع القديم، وحتى عندما ظهر شوقي وحافظ كان الهجوم عليهما كاسحا، وعندما ظهر الرومانسيون كانوا يهاجمون الكلاسيكيين الذين يهاجمونهم بدورهم، وعندما ظهر الواقعيون كانوا يهاجمون الرومانسيين والكلاسيكيين، وهؤلاء كانوا يردون عليهم بهجوم مضاد، إذن مسألة الهجوم والهجوم المضاد مسألة منتشرة، والحقيقة كان لشعراء قصيدة الناس وجهة نظر، أو عذرهم، فمن حقهم أن يجربوا وأن يغامروا، كما هي طبيعة الإبداع، فالإبداع الذي لا يجرب ولا يغامر يموت. من سبقوهم، أصحاب القصيدة الإحيائية مثلا، غامروا باستحداث الشعر الملحمي، والتجربة الذاتية عند الشاعر الكلاسيكي الأول، محمود سامي البارودي، فهذا الحس الذاتي لم يكن منتشرا في القصيدة العربية، وشوقي الذي استحدث شعر الأطفال والشعر المسرحي، إذن الإحيائيون لهم مغامرتهم. والرومانسيون غامروا العقاد والمازني وشكري وغيرهم وأدخلوا ذاتية الشعر، والواقعيون تخلصوا من البحر واتجهوا للتفعيلة. الحداثيون أو السبعينيون لم يجدوا أمامهم مساحة للمغامرة، فهجروا الوزن، وكانت وجهة نظرهم أن الوزن ليس هدفا في ذاته، الوزن أداة، الإيقاع أداة، وأنا من حقي أن أستخدم الأداة التي تناسبني، فإذا كان الجاهليون ومن بعدهم استخدموا العروض كأداة إيقاعية، وتبعهم في ذلك الإحيائيون والرومانسيون، فإن الواقعيين استخدموا التفعيلة، الإيقاع الذي يناسب شعريتهم، كذلك شعراء قصيدة النثر وجدوا أن الإيقاع العروضي لا يناسب طبيعتهم الشعرية فهجروه إلى نسق جديد وأعتقد أنه نسق إيقاعي أيضا رغما عنه. فدراسات كثيرة أقمتها على شعرية رفعت سلام وحلمي سالم وغيرهما من الشعراء ووجدت أنهم يستخدمون الحرف بشكل إيقاعي لا تقل كثافته الإيقاعية عن العروض الشعري. إذن هم لهم فلسفتهم ومنهجهم ومن حقهم أن يغامروا، وقد تابعتهم وقدمت كتاب "النص المشكل" في آخر التسعينيات، وحاولت أن أؤصل هذه القصيدة، قصيدة النثر، وأن أجد لها ركائز تراثية، لأنني مؤمن أن كل جديد هو ابن للقديم، حتى لو اختلف عنه تماما، وقدمت نماذج نثر الصوفيين للحلاج وغيره مما يعطي إيحاء أن هناك حقيقة نثرية قريبة من الشعر، بل أثبت أن العربي القديم يمتلك عقيدة أنك يمكن أن تعبر عن الشعر بالنثر، عندما اتهموا القرآن الكريم أنه شعر، ومعروف أن القرآن ليس موزونا ولا مقفى، فلم يكن العربي القديم ساذجا، عندما قال هذه التهمة، لكنه يدرك أنك يمكن أن تقول الشعر بصيغة نثرية، وتابعت جهود شعراء قصيدة النثر إلى نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين، والمؤسف أن الأجيال التالية لهم لم تتعلم من جيل السبعينيات ومن تلاهم، لم يعرفوا أن قصيدة النثر لها مواصفات وخواص، ليس من بينها أن تتحول القصيدة إلى مجرد سرد أو إلى ومضة، فالومضة هذه لا تحتمل الفكر والعاطفة والإحساس، فأنت تريد أن تعبر عن فكرة في ذهنك أو إحساس تعيشه، لا يمكن أن تعبر عنه في سطر أو سطرين، قد يأتي هذا عفوا مرة أو مرتين، لكن أن تنشأ دواوين كاملة لمثل هذه الومضات، فمعناه أنك تتحول إلى زمن التوقيعات القديم في التراث العربي، أو زمن الأمثال والحكم في التراث العربي، إنما الذي يؤسفني أن قصيدة النثر في المرحلة الأخيرة سيطر عليها السرد بشكل كلي وجزئي، وإهمال المخيلة تماما، والإيغال في الحياة اليومية الواقعية. فشعراء قصيدة النثر عندما ينزلون إلى الواقع يستطيعون بمقدرتهم الفنية أن يرفعوه إلى أفق الشعرية، كنت أقرأ قاسم حداد أو رفعت سلام أو حلمي سالم أو محمد آدم وأظن أن ما يقولونه كلام موزون من شعريته الجميلة، لكن ما أقرأه الآن من قصائد النثر ذكرني بمقولة للدكتور عبد القادر القط رحمه الله عندما صدر كتابي "النص المشكل"، إذ قال لي: "يا محمد سوف تندم يوما على هذا الكتاب. لأنك بهذا تفتح الباب لغير الموهوبين، أنت الآن تتكلم عن الموهوبين الذين قدموا قصيدة نثر حقيقية، لكن هذا سيشجع من لا يمتلك الموهبة ولا الخبرة ولا اللغة على كتابة قصيدة النثر"، والحقيقة أن معظم ما يكتب من قصائد النثر في العالم العربي الآن على هذا النحو، وأنا أعد دراسة الآن عن "الأدب الرقمي"، آخر قصيدة قرأتها لواحدة تكتب الأدب الرقمي تقول: "خرجت بالليل ولن أعود بالنهار" والإعجابات التي توالت على هذا الجملة بوصفها قصيدة نثر غير عادية، وتعليقات من نوعية: "أنت أميرة اللغة وأميرة الكلمة وفجرت عيون المعني" وطبعا مائة بالمائة أصدقاؤها هم الذين يكتبون هذه التعليقات، فالبعض يتصور أن المفارقة أصبحت هي الشعر، كان الدكتور القط في جلساتنا الصباحية في آلامفتريون، يقول ساخرا "أنا أستطيع أن أكتب قصيدة النثر الآن بالطريقة التي تكتب بها قصائدة النثر التي تعتمد على المفارقة فأقول: كان الصباح باردا، وأنا أشرب الشاي الساخن، فارتجفت من البرد، ثم تدفأ جسمي"، فالشعراء الذين يكتبون بهذه الطريقة لم يقرأوا فلسفة قصيدة النثر، ولا الهدف منها ولا منجزات شعرائها في العالم العربي، ولو قرأوا ذلك ما كتبوا. والأدهى هو وصول قصيدة النثر إلى شعر العامية، وأصبحت (سلام عليكم، وصباح الخير قصيدة) فلابد أن نعرف أن شعر العامية فن له أصول وقواعد ولابد أن نحترم هذا الشعر لأنه فن أدبي جميل، شعراء العامية كلهم وما أنجزوه يدل على أن هذا الشعر له قيمته واحترامه، لكن أن يتحول إلى قصيدة النثر فالقليل منه هو الذي يكون جيدا.

قرأت ليسري حسان ديوانه الأول، ولا أذكر اسمه الآن للأسف، وأعجبني جدا دخل عقلي لأسباب شخصية أيضا، فقد أحسست أنه يتكلم عني، وهو يتكلم عن ذكريات طفولته وعلاقته بوالده فجاء الإعجاب من أنني أحسست أنني يسري حسان في هذا الديوان، وهذا ما ضاعف تمتعي به، لكن هناك شعراء عامية جيدين جدا.

كتبك كلها عن شعر الفصحى ولا توجد كتب عن العامية فهل هذا موقف جمالي أو أيديولوجي من شعر العامية؟

يضحك ويقول: معك، أنا تربيتي اللغوية ربطتني بالشعر الفصحى وذائقتي تعلقت بالفصحى فكان خروجي منه للعامية يحتاج إلى مجاهدة ومناضلة وبحكم الذائقة العامة التي تحدثت عنها في البداية كان يجب أن أقرأ الشعر العامي، وكتبت دراسة مطولة عن ديوان صلاح جاهين "الرباعيات" وموجودة في كتابي "الأعلام الذهبية" وأثبت أن أكثر من 80% من كلمات هذا الديوان فصيحة وليست عامية، وبدأت في كتاب عن شعر العامية وانتهيت من نصفه ولم أنته منه بسبب مشاغل كثيرة. فقد ربطت نفسي بمقالات في صحف مصرية وعربية، ومؤتمرات وندوات شغلتني رغم إنني جمعت المادة، وأتمنى أن يكون هذا الكتاب هو ختام كتبي، أن أكتب عن قصيدة العامية لأن سيد حجاب يعجبني إلى درجة هائلة، وديوانه "قبل الطوفان الجاي"يمثل نبوءة بكل ما حدث في العالم العربي، ومثله رواية محمد سلماوي " أجنحة الفراشة". هناك كتب كثيرة قالت إنها تنبأت، لكن هذين الكتابين يعيشان إلى جواري بشكل دائم تقريبا.

والمشكلة أنني بدايتي بلاغية، الماجستير والدكتوراه كانت في البلاغة، وفي البلاغة واجهت آراء الأساتذة الكبار مثل الشيخ الخولي وشوقي ضيف وغيرهم من النقاد الذين قالوا إن البلاغة العربية انتهت وعلم قد احترق لم يعد صالحا لمواجهة لنص الجديد، لكن عندما قرأت البلاغة بنفسي وعاينتها معاينة صحيحة، اكتشفت أن هذه الآراء ظالمة للبلاغة العربية وكان علي أن أثبت صلاحيتها تطبيقيا وإجرائيا، ما هو أنسب النصوص لإثبات هذا الكلام؟ كان النص الشعري، وأقدمت على الشعر الحداثي وما بعد الحداثي، لأؤكد من خلال تحليله بلاغيا أن البلاغة العربية صالحة لهذا الشعر، فأقدمت على تأليف كتب بلاغية في الشعر مثل "قراءات أسلوبية في الشعر الحديثة"، و"بناء الأسلوب في شعر الحداثة" وغيرها من الكتب التي أثبت بها أن هذه البلاغة مازالت صالحة للتعامل مع النص الشعري.

هل تقصد أن هذه الكتب كان الهدف منها أصلا إثبات صلاحية البلاغة العربية أصلا؟

طبعا هي كتب البلاغة وتقريبا أنجزت في هذا حوالي اثنا عشر كتابا، ثم اتجهت إلى قصيدة النثر فأنجزت ثلاثة كتب، "النص المشكل"، و"شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاق" و"استنطاق الخطاب الشعري عند رفعت سلام"، وأعتقد أنه لا يوجد ناقد عربي كتب كتابا عن قصيدة النثر غيري، كلهم كتبوا مقالات عنها، لكن لا يوجد أحد منهم خصص ثلاثة كتب لقصيدة النثر.

رباعيات صلاح جاهين عبارة عن ومضات وقصائد قصيرة.. فلماذا تنتقد قصائد الشباب في قصيدة النثر بمنطق أنها ومضات؟

هذا القصائد لا تضم بها فكر ولا عاطفة. كل رباعية عند جاهين فكرة كاملة وفلسفة كاملة، إنما هذه الأشياء تجدها مفارقة وفقط، على طريقة "جاء الليل بعد النهار" ويعتبر هذه مفارقة، فالقصيدة تحتاج إلى قضية مطروحة، لكن رباعية عند جاهين تطرح قضية وجودية، و"كمان مش كل واحد صلاح جاهين"، ولا كل شخص المتنبي، وليس كل شخص امرأ القيس، ولا كل شاعر رفعت سلام أو حلمي سالم أو عبد المنعم رمضان، وللأسف هؤلاء الشعراء أيضا توقفوا، نادرا ما يصدر لهم ديوان، آخر ديوان أصدره رفعت سلام منذ فترة كبيرة، وحلمي سالم توفاه الله، وعبدالمنعم رمضان توقف تقريبا، وفتحي عبد الله أيضا توقف، محمد فريد أبو سعده اتجه للمسرح، فالجيل الكبير من شعراء قصيدة النثر شبه متوقفين، وتركوا المساحة للجيل الذي لم ينضج بعد ليقدم قصيدة نثر مهتزة، فنادرا ما تأتيني قصيدة نثر حقيقية وأتمتع وأنا أقرأها، لأن صاحبها يفتقد الموهبة الحقيقية، إنما هذا الجيل الأول أقرأ دواوينهم وأتمتع بما يكتبونه لأنني أعيش معهم تجربة من أخطر ما يمكن. وعلى كل حال، الآن بكل أسف، نادرا ما تأتيني قصيدة جيدة، سواء قصيد النثر أو التفعيلة أو العمودية، فأنا لا أعرف ما الذي أصاب الشعراء حتى يقدمون أشياء بعيدة عن جوهر الشعر نفسه؟ هل المنافسة الطاغية من الفنون الأخرى كالمسرح والتليفزيون والسينما والتليفزيون هي السبب؟ ربما، لكنني مازلت على يقين أن الشعر سيظل هو الذاكرة العربية أو كما يقال "ديوان العرب"، لأن كل ما قرأته من إبداعات أدبية في تصوير الإنسان تعجز عن الدخول إلى أعماقي إلى عن طريق الشعر، وهناك بيت شعر قاله طرفه في العصر الجاهلي

رأيت القوافي يتلجن موالجا            تضيق عنها أن تولجها الإبر

الشعر يدخل المنطقة التي تعجز الإبر عن الدخول فيها، هذا الكلام قيل في العصر الجاهلي، وما زال يصدق حتى يومنا هذا، حتى إنك تقرأ عند نجيب محفوظ وهو يصور الواقع والشخوص تصويرا رائعا، فإذا أراد أن يتعمق في  شخصية تجد لغته أصبحت شعرا، لذلك هو الذي نادى بعقد مؤتمر للشعر، بعدما قيل أن الرواية هي ديوان العرب، وبناء على كلامه أقيم أول مهرجان للشعر، لأنه أدرك أن الشعر له مكانته في الثقافة العربية وأنه أعرق أجناس الأدب في الثقافة العربية، ومن أسباب سعادتي بجائزة فيصل أنها جاءتني في الجنس الإبداعي الذي أحببته لأنني كنت طوال عمري أتمنى أن أكون شاعرا، لكنني لا أمتلك الموهبة، ولم أقل طوال حياتي بيتا واحدا من الشعر، لأنني أعجز عن قوله، فاستعضت عن ذلك بدراسة الشعر، ثم جاءتني من البلد التي ظهر فيها الشعر، فقد ظهر في الجزيرة العربية، فيقال عنه الشعر العربي، فهذه الأسباب جعلتني أسعد بهذه الجائزة التي توجت جهدي في دراسة الشعر، لأنك أحيانا تحتاج لمن يقول لك "أحسنت"، فهذه هي المقولة التي جاءتني وإن كانت ذكرتني بالدكتور القط عندما حصل عليها في الثمانينيات فذهبت وهنأته، فقال لي: "يا محمد، جاءتني هذه الجائزة كما لو كانت لعبة كنت أتمناها وأنا طفل فجاءتني وأنا كبير، وربما لو جاءت وأنا في سن الأربعين أو الخمسين من عمري كان صداها سيكون اكبر من ذلك بكثير"، لكن الحمد لله أنها جاءت تتويجا لهذا العمل والجهد، وبعض المآخذ التي أخذها البعض عليّ أن توجهي التراثي غلب علي، ولم يفهم من قالوا ذلك أن إقبالي على التراث ليس من أجل التراث في حد ذاته وإنما لأكتشف فيه ما يمكن أن يكون صالحا لهذا الزمان، وآخر مذهب نقدي ارتبطت به وطبقته هو النقد الثقافي، وارتبطت به لأنه يمتد بجذور عميقة جدا لثقافتنا العربية، وقد ذهلت وأنا أعيد قراءة كتاب "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي، واكتشفت أن هذا الناقد الذي عاش في القرن الثالث الهجري هو أول من فكر في دراسة الشعر دراسة ثقافية، حتى إنه قال جملة مدهشة، قال "الشعر صناعة وثقافة، يعرفها أهل العلم كسائر أصناف الصناعات، منها ما تثقفه العين، منها ما تثقفه الأذن، منها ما يثقفه اللسان، منها ما تثقفه اليد" هذا الكلام قيل في القرن الثالث الهجري، كأن الشعر هو ثقافة الوجود كله والحياة كلها، ودرس الشعراء العرب القدامى بالنسبة لبيئتهم البدوية، بالنسبة لتراثهم الثقافي، بالنسبة لموضوعاتهم الشعرية، بالنسبة لزمنهم التاريخي، هذا كلام قيل في القرن الثاني الهجري، فكيف أهمل أنا هذا هذه الدراسة. لابد أن أقول إن أول من فتح أذهاننا على النقد الثقافي هو التراث العربي، فابن طباطبا العلوي يقول بالنص في كتابه "عيار الشعر" في القرن الثالث الهجري كلاما تظن أنه كتب اليوم: "إذا استعصت عليك صورة لم تفهما أو معنى لم تفهمه. نقر خلفه قد تجد خبيئة تفسرها لك" أنت تقرأ نصوص امرئ القيس يقول:

وما طرفت عيناك إلا لتضربي           بسهميك في أعشار قلبي المقتل

بالنقد الثقافي فهو رجل يبحث عن أكبر شيء مؤثر في حياته، السهم، فاستخدمه، فلم يكن عنده صواريخ ولا طائرات، فالنقد الثقافي يكاد يعيد الثقة لجهود القدماء العرب في قراءة النص الشعري، من هنا كانت قراءتي للتراث وإقبالي عليه. والآن بعد ما بعد الحداثة تقول بـ"الانعكاس"، وليس هو الانعكاس عند الاجتماعيين التي تقول إن النص انعكاس للواقع الاجتماعي، ولكن بمفهوم أن كل جديد انعكاس للقديم، هذا آخر منجزات بعد ما بعد الحداثة القادم من أمريكا، ومن المدهش أنه يتوافق مع ابن قتيبة في القرن الثالث الهجري الذي يقول "كل قديم كان حديثا في عصره، ولا جديد لمن لا قديم له" هذا الذي في صدرناه القرن الثالث يعاد إلينا في القرن الحادي والعشرين مرة أخرى، فهذه بضاعتنا ردت إلينا.


Katen Doe

خاص - مجلة الشعر

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

wave
بشير عياد الذي أعرفه ..
تكوين جديد 14 شاعرا في فضاء شعر العامية
(هو الذي كتب على الطين)  ملف عن التجارب الشعرية الجديدة في العراق
مقبرة مجهولة لشاعر عظيم

المزيد من ملفات شعرية

wave
بشير عياد الذي أعرفه ..

نهاية العالم أن يموت كل جميل .. أن نصحو ذات صباح ولا نجد الذين نحبهم .. نهاية العالم أن نفقد...

د.محمد عبد المطلب: تمنيت أن أكون شاعرا

أحد أهم أعلام النقد الأدبي في مصر، وهب حياته للنقد والأدب والبلاغة، وأصدر العديد والعديد من الكتب في الشعر والسرد...

تكوين جديد 14 شاعرا في فضاء شعر العامية

لاشك أن شعر العاميه المصرية هو الرافد الشعري الأقرب إلى الوجدان الشعبي , فبرغم مروره بمراحل تطور مختلفة منذ ظهوره...

(هو الذي كتب على الطين) ملف عن التجارب الشعرية الجديدة في العراق

هو الذي كتب على الطين فشهق الحرف نورا و حضارة هو المولود من رحم نخلة على ضفاف الفراتين هو الباحث...