سامح الجباس يكشف حياة أحد مؤسسى الجمعيات السرية فى لبنان

على الرغم من أننا لا يمكن أن نلوم الروائى  أى روائى  على اختياره مادة تاريخية معينة كى يكتب عنها سرده التخييلى، إلا أننا نستطيع ـ فى المقابل ـ

 أن نسأل لماذا اختار هذا الموضوع بالذات ليكتب عنه فى هذا التوقيت بالذات؟.. ومهما كانت إجابتنا عن السؤال فهى تعتبر نوعاً من القراءة التى لا تُلزم الكاتب، ولا يمكن ـ فى الوقت نفسه ـ أن يلومنا أحدٌ عليها، فى ظل إيماننا الذى لا يلين بأنه "لا تاريخ بدون قصّ".

لقد أسعدنا الحظ بقراءة رواية سامح الجباس الجديدة "رابطة كارهى سليم العشى" الصادرة مؤخرًا عن "دار العين للنشر"، ونرى أنه من الضرورى للكتابة عنها أن نحاول التفرقة أولا بين نوعين من كتّاب الرواية التاريخية، الأول هو الكاتب الذى يبنى روايته على مادة تاريخية جاهزة لأنه يحتاج إلى مادة حكائية فقط، والثانى هو الكاتب الذى لا تهمه المادة التاريخية، ولكن يعنيه تقديم رؤية خاصة عن الإنسان وأحواله وقضاياه، وأعتقد أن سامح الجباس ـ لحسن الحظ ـ ينتمى إلى الروائى من النوع الثانى:

على كثرة ما راكمت المكتبة العربية من روايات تاريخية أو روايات تتوسل "التخييل التاريخى"، تبدو "رابطة كارهى سليم العشى" عملا جديدا ومختلفا من عدة زوايا:

أولاً: لأنها تحكى حياة شخصية ملغزة وشبه مجهولة هو "سليم العشى"، وهى الحياة التى أثارت الجدل قبل ثمانين عاما، ولاتزال قادرة على إثارته إلى اليوم، لأنه عاش ممتهنا مهنة "الساحر"، قبل أن يتحول إلى "عالم روحانى" ويُسمى نفسه "الدكتور داهش"، وقبل أن يؤسس ديانة "الداهشية"، ما يعنى أن شخصية البطل فى الرواية هى  شئنا أم أبينا ـ جزء من واقعنا المعاش منتصف القرن العشرين، ما جعل الرواية تبدو كأنها تبحث عن حقيقة تاريخية ضائعة وسط مجتمع تأسس ـ أصلا ـ على الخرافة والسحر والألاعيب.

ثانيا: لأنها رواية تكشف عن ذلك الأفق الضيّق الذى تدور فيه أفكار الإصلاح الدينى فى بلادنا، عن ذلك الخيال الذى تمتع به البطل، منتقلا هكذا بمنتهى الخفة من ثوب الساحر  إلى "عباءة النبوة"، كمن يبدل ملابسه ساعة عصارى أو يغير طريقته فى الملبس من "الكاجوال" إلى "الكلاسيك"، فى بلاد من عاداتها أن تصدق الأنبياء.

ثالثا: لأن الرواية تقدم رؤية تفصيلية لحياة واحد من مؤسسى الجمعيات السرية اللبنانية فى القرن العشرين، وقد عرفت الإنسانية تلك الجمعيات دائما وفى كل بلاد العالم تقريبا باعتبارها أحد وجوه الولع الإنسانى البدائى بالمجهول، حيث ارتبطت تلك الجمعيات كظاهرة بالفترات التى تسود فيها الاضطرابات الاجتماعية وما يستتبعها من طغيان واستبداد وتخلف، ونحن نصدق أن هذه الجمعيات السرية تكون غالبا مؤامرة مطبوعة بالطابع الأرستقراطى، على نحو ما عبر الراحل على أدهم فى كتاب "الجمعيات السرية"، خصوصا أن هذه السمة "الطابع الأرستقراطى" تنطبق حرفيا على قصة "داهش".

الداهشية، لمن لا يعرف، هى عقيدة أو مذهب نُسب إلى "الدكتور داهش"، يعترف بما أُنزل على الأنبياء والمرسلين، ويحترم جميع العقائد الدينية التى أوحى بها الله على أيدى رسله، ولكنه لا يعترف ببعض الطقوس الدينية المسيحية كعبادة الصور الدينية، والاحتفاظ بالأيقونات والمتاجرة بها، وينكر صكوك الغفران، والقيام بالتبخير أمام الهيكل والتمتمة والتعزيم.

لا يمكن أن نغفل قرب المسافة بين حروف كلمتى "داهش" مؤسس الديانة "الداهشية" و"داعش" التى تشير إلى تنظيم إرهابى تأسس بأموال أمريكية فى سوريا والعراق 2014 رافعا راية إسلامية كاذبة، وما أقرب المسافة بين أفكار "الديانة الداهشية" و"التنظيم الإرهابى" فى بعض القضايا ومنها الموقف من المرأة، التى هى  عند الدواهش والدواعش ـ أصل كل الشرور ومنبع كل الخطايا، على الرغم من أننا نقر بالفوارق الهائلة بين دعوة "داهش" التسامحية والمؤمنة بجميع الأديان، وإجرام "داعش" الدموى تجاه كل ما هو غير سلفى، حتى لو كان ينتمى إلى صحيح الإسلام.

ما أريد قوله هو أن اختيار سامح الجباس لشخصية "دكتور داهش" موضوعا لروايته لا يمكن نزعه من سياقه السياسى والاجتماعى، وأنا سأتعامل مع الحكاية الإطار لا بوصفها حقيقة يرويها المؤلف، بل هى حقيقة يرويها السارد الذى يحمل اسم المؤلف لكنه يختلف بقدرٍ أو بآخر عندى عن سامح الجباس، مهما كان حريصا على تحرى الدقة فى كتابة التاريخ، وبالتالى فإن هذا الشاب الفلسطينى المسيحى "سليم العشى" الذى يعمل ساحرا وذاع صيته وأشار إليه "جبرا إبراهيم جبرا" فى سيرته الذاتية الخالدة "البئر الأولى"، بوصفه واحدا من أصدقاء الطفولة فى "بيت لحم" مطلع القرن العشرين، "سليم العشى" أصبح ساحرا مشهورا، هو اختيار مقصود من الكاتب سامح الجباس، الذى رأى فى معالجة قصة حياة هذا الرجل ـ ولاشك ـ ما يمكن أن يؤشر إلى ملمح ثقافى مُهمل، علما بأن هذا الملمح بالذات ـ أقصد السحر والسحرةـ كان سببا فى معاناة الإنسان العربى عبر مراحل مختلفة من تاريخنا الثقافى الطويل.

 الحكاية الإطار

هكذا نجحت الرواية "رابطة كارهى سليم العشى" فى أن تجمع بين نمطين من أنماط كتابة الرواية، الأول هو نمط "الرواية التاريخية" التى تقوم على سرد وقائع وأحداث جرت فى الماضى متتبعة فى سردها التسلسل الزمنى الطبيعى، والثانى هو نمط الرواية التى تتخذ من التاريخ فضاء لها، مستخدما بذلك أدوات الخطاب التخييلى ومفرداته، فقد وضع "قصة حياة الدكتور داهش" بالكامل داخل الحكاية الإطار، والتى افتتح بها الرواية حول قصة اختفاء الكاتب الذى يدعى "سامح" بين عامى 2013 و2015، من الوسط الثقافى المصرى، يقول مطلع الرواية:

"فى عام 2012 نشرتُ روايتى "كريسماس القاهرة" بعد فوزها بجائزة إحسان عبد القدوس فى الرواية. ومنذ ذلك الحين وحتى 2015 اختفيتُ من الوسط الثقافى، لم أنشر روايات، لم أحضر ندوات. فى هذين العامين، حدث لى أمر ما، لم يكن مصرحا لى بالكتابة عنه، والآن زال هذا العائق، وكان لابد أن أحكى سبب اختفائى: أعرف أن ما سأحكيه ربما يثير جدلا كبيرا، أو سخطا، لكن لابد لى من البوح بما حدث، فليصدقنى أو يكذبنى من يريد".

أريد أن أتوقف أولاً عند تاريخ العمل على هذه الرواية، حيث بدأ فيها خلال أحلك أعوام المصريين على الإطلاق، وهى أعوام الفوضى التى تخلفها الثورات الشعبية عادة، والتى عاشتها القاهرة كواحدة من عواصم الربيع العربى، فقد ترك الكاتب "سامح" عمله طبيبا للتوّ فى إحدى شركات الأدوية بعد ثورة يناير 2011، ووسط الفوضى والإفلاس وصله إيميل من مركز ثقافى مقره نيويورك يعرض عليه منحة مدفوعة الأجر لكتابة رواية عن موضوع يحدده المركز، ولا يشترط سوى التفرغ الكامل وسيكون المبلغ مجزيا، يشمل العرض انتقال الكاتب للإقامة فى بيروت لعدة شهور، لكى يتعرف على تفاصيل حياة الرجل الذى سيكتب عنه، هنا نعرف أن الموضوع يتناول حياة ساحر فلسطينى يدعى سليم موسى العشى، "الرجل العجيب محير عقول كبار علماء أوروبا، المنوم المغناطيسى والعالم الروحانى بتجاربه العلمية الخارقة للطبيعة"، بحسب توصيف إحدى صحف عقد الأربعينيات من القرن العشرين لـ"الدكتور داهش".

وإذا كانت فكرة الرواية قد فرضها "المركز الثقافى" الذى يتخذ من نيويورك مقرا له، فنحن لا نستطيع أن نتجاهل هنا أمرين: الأول هو أن سليم العشى أمضى جزءا من حياته فى الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يموت فيها، والثانى هو أن الحفاظ على الأفكار الروحانية "المغرقة فى المثالية" وتبنى نماذج مدعى النبوة والتكريس لهم هو اهتمام أمريكى راسخ وقديم دون شك، ولنا فى تبنى مؤسسى التيارات الإسلامية فى العقدين الأخيرين أسوة حسنة، من أسامة بن لادن مؤسس "تنظيم القاعدة" الذى تعاون مع الأمريكان ضد السوفييت فى آسيا، قبل أن ينقلب عليهم لاحقا، إلى أبوبكر البغدادى، مؤسس تنظيم "داعش"، وقد ماتا "بن لادن والبغدادى" إثر غارتين أمريكيتين، بعدما أدّيا ما كان عليهما من أدوار للرأسمالية العالمية التى صنعتهما.

وبينما يبقى المؤرخ أسير الحدث لغة ومنهجا، يمتلك الكاتب أو الروائى حرية واسعة فى ارتكاب الخيال الذى يحرك به شخوصه وفق ما تمليه رؤيته وحاجات الخطاب المسرود، هنا يبنى الكاتب روايته على خمسة أصوات من محبى "الدكتور داهش"، كلهم يروى بضمير الأنا حكايته مع الرجل الذى آمن برسالته، والرواة هم ماجدا حداد، وشقيقتها زينا وأمهما مارى حداد وجورج خبصا وحليم دموس وغازى براكس والمؤمن الأول بالداهشية يوسف الحاج، كل هؤلاء من الذين آمنوا برسالة داهش وكلهم يروى مأساة الرجل وصراعاته مع السلطة وقدراته الخارقة فى جلب الأموال والأوراق الضائعة والمفقودة وقدراته على التقمص ودخول عالم الروحانيات عبر وسيط روحى هى شقيقته انطوانيت.

 ضياع فلسطين

مثلما نتوقع من رواية تتقصى التاريخ تحكى الرواية عن جوانب من العقل الخرافى العربى مطلع القرن العشرين، حيث تبدو معجزات الساحر الذى فتن الناس ـ الآن وبعد ثمانين عاما ـ وكأنها نوع من النكات الساذجة، أو كأنها جزء من ميراث الخرافة الذى لم يكتب من قبل فى رواية، وإن كنا طالعنا بعض مفرداته فى أفلام السينما المصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين.

نقل لنا سامح الجباس صورة من تصورات الرجل الروحانية عن الحياة فى القمر مثلا، أو عن بشر فضائيين، فبدت تصوراته فى قمة السذاجة بالنسبة لمواطن العصر الحالى، بعدما وصل الإنسان إلى القمر وباتت كل الأفكار الهلامية عن حركة الأفلاك والفضاء جزءا أصيلا من تراث الجهل الإنسانى، الذى ارتبط فى ثقافتنا العربية بنوع من الدين من دون أن نعرف السبب، وأظن أن السؤال الأهم الذى يخرج به القارئ من رواية حياة "الدكتور داهش" هو: لماذا فى ثقافتنا العربية فقط يتحول الساحر إلى نبى ليصبح صاحب رسالة وهاديا للناس، بينما يبقى الساحر ساحرا فى كل الثقافات الأخرى، وينال الاحترام والتقدير من ممارسته لهذه المهنة فقط؟

ما لم أفهمه فى هذه الرواية حقا هو المبالغة فى الحديث عن تأثير "دكتور داهش" على أفكار كثير من كبار كتابنا: توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف السباعى ويوسف إدريس، وهو ما اجتهد الكاتب لكى يثبته عبر سطور الرواية من خلال مقارنته بين أفكار بعض أعمالهم الإبداعية خصوصا التى تتعلق بالتقمص الروحى وأفكار الحلول أو بالحديث مع الموتى وبعض كتابات "داهش"، خصوصا حين زار الأخير مصر عام 1971، ويريدنا الكاتب أن نعتقد أنه ترك أثرا على روائى يقرأ بالعربية والإنجليزية مثل نجيب محفوظ أو مسرحى فى قيمة توفيق الحكيم أو قاص بقدرات يوسف إدريس، وهو أمر نستبعده تماما، ونعتبره غير مقبول منطقيا، لأن تجربة كل هؤلاء الإبداعية كانت قد تبلورت تماما قبل مجيء داهش وقبل ظهور كتاباته محدودة القيمة والتأثير.

ولو أننا نتقصى التاريخ حقا ونريد أن نلقى الضوء فعلا على حكاية رجل مثير للدهشة والتساؤلات الروحانية مثل "داهش"، كان من الممكن فى رواية أخرى، أن نقرأ حياة المواطن الفلسطينى "سليم موسى العشى" الذى أعلن فى العاصمة اللبنانية بيروت عن تأسيس دين باسم "الداهشية"، مارس 1942، وأمضى عمره فى لبنان حاملا الجنسية اللبنانية التى حرم منها لفترة، على الرغم من أن كل مواطنى فلسطين تأثروا بالحدث الرهيب الذى أضاع بلادهم بعد ستة أعوام من إعلان تأسيس "الداهشية"، حين سقطت فلسطين العربية فى قبضة العصابات الإسرائيلية، وكانت لحظة إعلان قيام دولة إسرائيل 14 مايو 1948 كارثة لمواطنى العالمين العربى والإسلامى، لكنه لم يكن يمثل شيئا للدكتور"داهش" على ما يبدو، حيث انشغل سليم العشى مثل أى ساحر بالألعاب الروحية والتفانين والنبوءات والتوقعات المرئية فى حيوات أتباعه ومريديه، من دون أن تهتز فى جسده شعرة واحدة لضياع البلد الذى ترعرع فيه، فلسطين.

Katen Doe

محمود خيرالله

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

د. نسمة يوسف إدريس تتحدث عن أمير القصة القصيرة
إبراهيم عبد العزيز يقرأ علي مسامع نجيب محفوظ ملخصا للصحف

المزيد من ثقافة

مزايا استخدام VPN في التسويق الالكتروني

يتطلب البقاء في صدارة عالم التسويق الرقمي جرعة من الابتكار وإدراكًا دائمًا لأحدث التطورات التقنية. ومع اعتماد استراتيجيات تستند إلى...

"النيل الثقافية" تحتفل بالذكرى الـ52 لوفاة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين

تحيي قناة النيل الثقافية الذكري الثانية والخمسين لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين اليوم الثلاثاء الموافق ٢٨ اكتوبر ٢٠٢٥.

أخطاء شائعة عند شراء المراتب والمفروشات وكيف تتجنبها مع العييري

اختيار مرتبة جديدة ليس قرارًا عاديًا كما قد يبدو للوهلة الأولى، فالمرتبة التي تنام عليها ليست مجرد أثاث عادي، بل...

قصة مصورة - عجلة المدرسة

هذا الصندوق الصغیر یکفی کی تجلس بداخله ست البنات ملكة متوجة في رداء المدرسة، ملتصقة بحقيبتها التي اختارت أن تكون...


تحقيقات وحوارات

فيديو.. غزة من "الحصار إلى الانتصار" بلغة الفن في "أتيليه" القاهرة بوطن السلام
  • السبت، 01 نوفمبر 2025 06:50 م