فى سوريا .. الفراشات لا يحرقها لهيب الحرب

الأفلام التى نشبت فيها الحروب على الشاشة لا تحصى، وقد اخترت لكم واحدًا منها فى ترحالى اليوم، فتعالوا معى نرتحل بين دروب سوريا المفروشة بأشجار الياسمين التى مازال يكتب المحاربون

 على أوراقها بدمائهم دفاعا عن الوطن، وبحر ايجة الذى امتلأ بالفارين من نار الحرب ليبتلع ليس فقط أجسادهم بل وأحلامهم أيضا، ومن بين من نجوا كانتا يسرا وسارة الماردينى، اللتان سبحتا ضد التيار ملفوفتين بحبل يسحبان زورقا مطاطيا مليئا بالفارين من جهنم الحرب، لنتتبعهما فى أماكن أخرى كثيرة من وجه الكرة الأرضية، هذا الوجه الذى طالما جرحته حكايا الحب والحرب والموت وأضيئ أحياناً بالانتصار للأحلام.

تعالوا نرحل مع المخرجة "سالى الحسينى" وغيرها من صانعى هذا الفيلم إلى ساحات الوعى بقضية لاجئى بلداننا العربية ضحية الربيع العربى والحروب الطائفية والإرهاب، ففى حكايا فرارهم وركوبهم الموت وسلامهم، تجارب كثيرة تلقى الضوء على قضايا وطن يبحث عن السلام، وبشر يدفعون فاتورة حرب لم يخضوها يوما.

فيلم "السباحتان" ذات الطابع الإنسانى والنفحة الوطنية الرائعة، يروى حكاية شقيقتين يسرا وسارة ماردينى، ومن خلالهما يؤرخ لكفاح الشعب السورى وحروبه من أجل البقاء، والتى ما زالت مستمرة، شاركا الحسينى وجاك ثورن كتابة رائعتها هذه مستلهمين الحكاية عن القصة الحقيقية ليسرا وسارة ماردينى "ناتالى ومنال عيسى اللتان لعبتا الأدوار هما شقيقتان واقعيا" هربتا بالفعل من الحرب فى سوريا، فى حالة يسرا، كان الهدف المنافسة فى الألعاب الأوليمبية الصيفية لعام 2016 فى ريو دى جان وتحقيق النصر لوطنها.

إنه عام 2011 فى إحدى ضواحى مدينة دمشق بسوريا.. مشهد رائع لغروب الشمس وشقيقتان تسبحان وسط حوض السباحة.. يلتف  حوله بشر من كل الأعمار على خلفية  موسيقى البوب، المكان محاط بالجبال وتظهر أشجار النخيل من حين لآخر فى المشهد، حتى تكاد تشعر بأنك فى جزء من أوروبا فيما يغمرك شعور بالأسى وتتساءل  هل يمكن أن تعود الحياة إلى طبيعتها فى هذا البلد الجميل؟

بعد أربع سنوات، رقصت الفتاتان فى حفلة على السطوح بصحبة ابن عمهما نزار (أحمد مالك).. يتحول الضحك إلى كآبة وهم يشاهدون الصواريخ تنفجر فى ضواحى المدينة.. سوريا الآن متورطة بالكامل فى حرب أهلية وحشية علموا أن صديقًا آخر قد قُتل. تقترب سارة من والدها بفكرة صادمة ضرورة الهجرة، إذا تمكنوا من الوصول إلى ألمانيا، فإن خطة لم شمل الأسرة ستسمح لهم جميعًا بمغادرة سوريا. نزار سيرافقهم فى الرحلة تاركا كل أحلامه. إنها الطريقة الوحيدة التى ستحقق بها يسرا القاصر طموحاتها الأوليمبية.

يسخر الأب من فكرة ترك بناته ترحل، ولكن كل شىء يتغير حينما يتم قصف حمام السباحة أثناء التدريب، يقترض عزت كل ما فى وسعه لتسهيل الرحلة، سارة ويسرا ونزار يغادرون عائلتهم المبللة بالدموع فى رحلة إلى اسطنبول، تحذر شركة الطيران من أن أى شخص يسرق سترات النجاة سيُحاكم. لم يكن بإمكان الفتيات توقع الرحلة المرعبة والشاقة التى تنتظرهن داخل زورق مطاطى مكتظ بالمهاجرين يعبر من الساحل التركى إلى "جزيرة ليسبوس"، أمرا لا يمكن تصوره، توقف محرك زورقهم المكتظ فى المياه الهائجة فى طريقه فى عرض المتوسط، وقذف الأمواج بالزورق من جانب إلى آخر، أمر جعل الأختين تدركان أنهما بحاجة إلى تقليل الوزن على متن القارب، تضطرا لتولى زمام الأمور بأنفسهما. تتخلص يسرا من ميداليات السباحة الثمينة التى حصلت عليها، وتنضم إلى سارة فى القفز من فوق المركب، وربط حبل حول نفسها وربطه بالقارب. ثم تسبحان لأكثر من ثلاث ساعات ونصف الساعة فيما نحن نلهث خلفهما إلى أن يصلا الى الشاطئ.

 ولكن رحلة الشقاء لم تنته، أصبح الهروب من الشرطة، والتسول للحصول على كوب ماء، والتجمع مع المهاجرين الآخرين من أجناس مختلفة بحثًا عن مأوى أمرًا يحدث يوميًا.. لا أحد يهتم من أين أتوا أو لماذا؟ لقد كانوا مجرد "لاجئين" غير مرغوب فيهم، لا تعنى معاناتهم وحياتهم شيئًا لأى أحد. كان المهربون الملاذ الوحيد لهم لمواصلة الرحلة. والأسوأ من ذلك، أن كونهما شابتين وجذابتين جعلهما أهدافًا للعنف الجنسى. هذه المشاهد مفجعة، لقد كان عليهما أن يعيشا ويقاتلا وينجحا. كان الهدف أكبر من أن يتخلا عنه.

فى الساعة الأخيرة، نحن فى برلين حيث تمكنت يسرا من إقناع مدرب سباحة محلى سفين (ماتياس شفايغوفر) بأن يتولى تدريبها والمشاركة فى أولمبياد اللاجئين. يستقر الفيلم بعد ذلك فى حكاية  الاحتفال بفوز البطلة وكل ما تغلبت عليه يسرا للوصول باسم بلدها المنكوب بالحرب إلى العالمية، حيث لم يعد بوسعك إلا أن تبتهج لهاتين الأختين الرائعتين، ومعركتهما من أجل البقاء وتحقيق المستحيل.

السيناريو الذى شاركت فى كتابته الحسينى لا يخفف من الخطر أو المصاعب التى واجهتها الأختان فى رحلتهما إلى ألمانيا ممزجا بين الواقع المأسوى اللاتى تعيشانه وبين الأمل فى الغد، فالشقيقتان تتجادلان، وترتكبان أخطاء، وهما قاسيتان للغاية على نفسيهما، لكن هذا جزء يجعل قصتهما مقنعة للغاية. لقد كانتا مراهقتين عاديتين دافئتين محباتين للحياة، أُلقى بهما فى ظروف خارقة للعادة .

وبينما يركز فيلم "السباحتان" فى معظمه على رحلة الشابتين وابن عمهما، فإنه يوسع أحيانًا نطاق القصة الشخصية العاطفية ليركز على الأزمة الإنسانية الأوسع التى تواجه المهاجرين حتى يومنا هذا. يزيد الإحساس بتلك الأزمة ألوان الفيلم النابضة بالحياة فقد غمرنا المصور السينمائى "كريستوفر روس" من خلال لقطاته الجوية إحساسًا بحجم المأساة، ليس فقط فى بحر إيجه؛ ولكن أيضًا بتصويره ضخامة أزمة المهاجرين من خلال مشاهد غاية فى الروعة، مثل عندما تصلان الأختان ورفاقهما إلى جزيرة يونانية مر بها عدد لا يحصى من اللاجئين من قبلهم، يسيرون فى واد من سترات النجاة الصفراء الزاهية المهملة. ترصد الكاميرا بحر من سترات النجاة كإشارة إلى مدى اتساع هذه الأزمة.

 فى مشهد آخر، تصطدم الأختان بمنتجع شاطئى من خلال التظاهر باللباس المكشوف والتصرف مثل الأوروبيين، حتى يتمكنان من التسلل من خلال الموظفين والزائرين المطمئنين للاستحمام. إن مرتادى الشواطئ الغافلين لا يعرفون شيئًا عن مخيم اللاجئين الذى يبعد مسافة قصيرة سيرًا على الأقدام. الشقيقتان ونزار يقضون يومًا مشمسًا يذكرهم بحياتهم التى فقدوها فى الحرب الأهلية السورية..

وهكذا.. فإن رواية الحسينى التى تتجسد فيها النزعة الإنسانية الواعية لقصة الأختين ماردينى، هى تكريم كبير لهما، من جانب يسرا للمنافسة فى الألعاب الأوليمبية، ومن جانب سارة هى مساعدة جميع اللاجئين الذين يأتون من بعدهم. بل إنها تكريم لملايين اللاجئين الذين خاطروا بكل شيء للوصول الى بر الأمان، وتذكير بأن العديد من قصصهم لا تزال مستمرة، كذلك هو نوع من الأفلام الرياضية الملهمة التى تدور حول أكثر من مجرد رياضى أو لعبة كبيرة. فالسباحتان يدور حول قضية أكبر بكثير من الألعاب الأوليمبية، من خلال قصة شخصية حقيقية مما يؤرخ لها ويجعلها  قضية رأى عام عالمى.. ولكن هل يستيقظ ضمير العالم؟

نبضبة مسافرة

إن العدالة غير موجودة فى العالم. «نيقولاى جوجول»

Katen Doe

وفاء عوض

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

wave

المزيد من أقلام

wave
بعد مرور عام على مولده ..لماذا يحرم المصريون من مشاهدة أفلام عبدالوهاب

بقلم: أحمد عثمان مما لا شك فيه أن محمد عبد الوهاب كان يمثل ردنا أساسيا في الحياة الثقافية للمصريين, فهو...

بكل صراحة - تحية للشهداء النبلاء

لو يقتلون مثلما قتلت لو يعرفون أن يموتو.. مثلما فعلت

كلام × كلام - ميلاد أقطاب عالمية جديدة

مفاجآت وتغيرات عالمية كانت تترقبها الساحة الدولية منذ أعوام وخاصة بعد بزوغ نجم روسيا عسكريا والصين صناعيا

كلام × كلام - ميلاد أقطاب عالمية جديدة

مفاجآت وتغيرات عالمية كانت تترقبها الساحة الدولية منذ أعوام وخاصة بعد بزوغ نجم روسيا عسكريا والصين صناعيا