نزار قباني..تعايش الخيال والتاريخ

تمرُّ هذه الأيام الذكرى الثامنة عشرة شاعر الرفض والتمرد"نزار قباني"(1923- 1998)الذي يُعدُّ أحد طلائع الحداثة الشعرية العربية الذين حرصوا على تجريب أشكال تعبيرية

تمرُّ هذه الأيام الذكرى الثامنة عشرة  شاعر الرفض والتمرد"نزار قباني"(1923- 1998)الذي يُعدُّ أحد طلائع الحداثة الشعرية العربية الذين حرصوا على تجريب أشكال تعبيرية جديدة،وتأسيس قيم جمالية تعمد إلى إعادة التوازن بين الإنسان والطبيعة،المادة والمخيلة،الحياة والفن،مُنطلقًا من الوعي المرهف باللغة وجمالياتها،وجماليات الشعر.لذلك شكَّلت حداثته نقطة مراجعة نقدية،ومساءلة فلسفية،ترى العالم في حالة دينامية غير متجوهرة،تضعنا أمام حقائق غير متوقعة،معتمدًا على رؤيته التأويلية الذاتية.وبذلك أعاد الشعر إلى نفسه،إلى الطفل الكامن في أعماقه،حريصًا على تقديم الغياب ذاته،بقدرته على الحلم،ومعايشة الحياة بالحواس،وما نتخيله لأنفسنا في المتعدد الإنساني القائم بين الكينونة والوجود،هاتفًا مع شاعرنا القديم:

أعيدوا صباحي فهوعند الكواعبِ  وردوا رقادي فهو لحظ الحبائبِ

  إليَّ لعمري قصد كل عجيبة       كأني عجيب في عيون العجائبِ  مُقدِّمًا صورة أنموذجية لفنان عُرف دومًا بالتزامه الإنساني،مُعبِّرًا عن انطلاق الروح وتحررها عبر التجربة الملموسة للإنسان في خياراته الواضحة والمُحدَّدة،باحثًا عن نقاط تماس داخل أحلام الناس وتوقهم إلى الحب والحرية،من خلال موقف جِذري من مجمل التناقضات والمواضعات الاجتماعية والسياسية السائدة،ناسجًا بنيته الشعرية من جدل التاريخ المرتبط بالحاضر،والحاضر المنفتح على المستقبل،مُخاطبًا الحواس بلغة الحدس والمخاطرة،مُزاوجًا الخاص بالعام..الذاكرة الفردية بالذاكرة الجمعية..المكان بالزمن..الجسد بالحياة.

يقول"نزار قباني"في قصيدته"يوميات امرأة لامبالية"(1968):

على كراستي الزرقاء..أستلقي بحرية

وأبسط فوقها ساقيَّ في فرح وعفوية

أمشّط فوقها شعري

وأرمي كل أثوابي الحريرية

أنام..أُفيق..عاريةً

أسير..أسير حافيةً

على صفحات أوراقي السماوية..

على كراستي الزرقاء..

أسترخي على كيفي..

وأهرب من أفاعي الجنس

والإرهابِ..

والخوفِ..

وأصرخ ملء حنجرتي

أنا امرأة..أنا امرأة

أنا إنسانة حيَّة..

أيا مدن التوابيت الرخاميَّة

على كراستي الزرقاء..

تسقط كل أقنعتي الحضارية..

إلى أن يقول:

أريد أفرُّ من ظلي

وأهرب من عناويني..

أريد أفرُّ من شرق الخرافة والثعابينِ..

من الخلفاءِ..

والأمراءِ..

من كل السلاطينِ..

أريد أحبُّ..مثل طيور تشرينِ..

أيا شرق المشانق والسكاكينِ..

وبذلك رسم لنا"نزار قباني"الحرية بلا ضفاف..حرية الناس والوطن والفنان..فكان ومازال صرخة"لا"الرافضة لكل ظلم وطغيان وقمع..صرخة"لا"الطامحة إلى تغيير العالم والإنسان،وتأسيس حياتنا على الإبداع والمغايرة والاختلاف،متطلعًا إلى فسحة مستقبلية تُشكِّل قطيعة فنيَّة مع كل شعر مُدجَّن..زائف..تقليدي،أو كل أدب لا يعمل على تحرير الفاعليَّة الإنسانية من شروطها الكابحة.

لهذا انطلق صوت"نزار قباني"الشعري مُؤكِّدًا ذاته القلقة المتحرِّرة،ووعيه بأولوية أسئلة الحياة،واختبارها في ضوء المعيش العاري،وأسَّس مدارًا شعريًّا أبحر من خلاله داخل حياتنا المعاصرة،مُستقطرًا روحها،دارسًا بُناها الاجتماعية،وتطورها المُعوَّق بفعل علاقاتها الكولونيالية،داعيًا إلى إعادة قراءة تاريخنا في ضوء جديد؛لنتحرَّر ونُحرِّره من قيوده المُكبِّلة له.يقول"نزارقباني":"كل لغة هي- بحد ذاتها- خيانة.والتجربة الشعرية بعد انتقالها إلى الورقة،أصغر بكثير من التجربة الداخلية التي يعيشها الشاعر.لذلك أشعر بخيبة كبيرة أمام قصائدي المنتهية"- الأعمال النثرية الكاملة،ج7. لذا رفض"نزار"كل معيارية قَبْلية،أو مرجعية متعالية،مستمدًّا كينونته من الصيرورة،وشرعيته من ماهيَّة العصر ومساوقة كل جديد،ومن إرادة التحرر من كل إكراه موضوعي- سياسيًّا كان أو اجتماعيًّا أودينيًّا أو ثقافيًّا- عاملًا على أيلولة اللحظة الحاضرة إلى زمن جديد يجعل قانون التبدل والحركة علامة فارقة تشي بالمغامرة صوب المجهول،ومناهضة كل سلطة ماضوية تأخذه بعيدًا عن شرطه الإنساني،ولعل ذلك ما عناه بقوله:"بهذه اللغة الثالثة،نحن نكتب اليوم..وعلى هذه اللغة الثالثة،يعتمد الشعر العربي الحديث في التعبير عن نفسه..إن اللغة الثالثة تُحاول أن تجعل القاموس في خدمة الحياة والإنسان،وتبذل ما في وسعها؛لتجعل درس اللغة العربية في مدارسنا مكان نزهة،لا ساحة تعذيب تُحاول أن تُعيد الثقة المفقودة بين كلامنا الملفوظ،وكلامنا المكتوب،وتُنهي حالة التناقض بين أصواتنا وبين حناجرنا"،على نحو ما جاء في كتابه"قصتي مع الشعر".

لذلك تمتد شجرة نسب"نزار قباني" الشعري إلى:المتنبي وابن الرومي وبشار بن برد والحلاج ولسان الدين بن الخطيب وابن هانئ الأندلسي وابن عمار ودعبل الخزاعي وصالح بن عبد القدوس وسواهم الذين قضوْا بسبب مناهضتهم للأوتوقراطية والثيوقراطية،وتحطيم أسوار العالم القديم؛الأمر الذي حدا به إلى تبني مفهوم للشعر،ينهض على موقف محدّد من السلطة،وممارساتها الاستبدادية والمُحافِظة،رافضًا مهادنتها والتحالف معها،مُرسِّخًا استقلاله الفكري والأخلاقي،حريصًا على تبيان وجوه انغلاقها وركودها ومعاداتها للعلم والعقلانية والديمقراطية،داعيًا إلى بناء عالم جديد يقوم على الحرية والوعي النقدي،كما نلحظه مثلًا في قصيدة"قرص الأسبرين"التي يقول فيها:

إياكَ أن تقرأ حرفًا من كتابات العربْ

فحربهم إشاعة وسيفهم خشبْ

وعشقهم خيانة ووعدهم كذبْ

إياكَ أن تسمع حرفًا من خطابات العربْ

فكلهم نحوٌ وصرفٌ وأدبْ

ليس في معاجم الأقوام

قومٌ اسمهم عربْ.

أو في قصيدته الشهيرة"هوامش على دفتر النكسة":

أنعي لكم،يا أصدقائي،اللغة القديمة

والكتب القديمة

أنعي لكم..

كلامنا المثقوب،كالأحذية القديمة..

ومفردات العهر،والهجاء،والشتيمة

أنعي لكم،أنعي لكم

نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة

يا وطني الحزين

حوَّلتني بلحظة

من شاعر يكتب الحبَّ والحنين

لشاعر يكتب بالسكين.

لهذا حين دفع بقصيدته هذه"هوامش على دفتر النكسة"إلى مجلة"الآداب اللبنانية"لنشرها،لم يكنْ متأكدًا أن "سهيل إدريس سينشرها.فخط سهيل إدريس القومي،خط متفائل،وأحلامه العربية مُشْرَبة- دائمًا- باللون الوردي.لكن حين جاء سهيل إدريس إلى مكتبي ذات صباح،وقرأتُ له القصيدة،صرخ كطائر ينزف:أنشرُها..أنشرُها.قلتُ لسهيل:إن القصيدة من نوع العبوات الناسفة التي قد تحرق مجلته،أو تُعرِّضها للإغلاق أو المصادرة،وإنني لا أريد أن أُورِّطه،وأكون سببًا في تدمير المجلة.نظر إليَّ"سهيل"بعينيْن حزينتيْن تجمعت فيهما كل أمطار الدنيا،وكل أشجار الخريف المنكسرة،وقال بنبرة يمتزج فيها الألم الكبير بالصدق الكبير:إذا كان حزيران قد دمَّر كل أحلامنا الجميلة،وأحرق الأخضر واليابس،فلماذا تبقى "الآداب"خارج منطقة الدمار والحرائق؟هاتِ القصيدة..وأعطيته القصيدة..وصدقت توقعاته وتوقعاتي؛إذ صودرت المجلة،وأُحرقت أعدادها في أكثر من مدينة عربية.وجلسنا في بيروت،سهيل وأنا،نتفرج على ألسنة النار،ونرثي لهذا الوطن الذي لم تعلمه الهزيمة،أن يفتح أبوابه للشمس وللحقيقة".

وبذلك راح"نزار قباني"يُسائل الواقع عبر شروطه السسيولوجية والتاريخية،مُعرِّجًا على لحظات تراجعه الحضارية المظلمة،داعيًا الإنسان إلى تحطيم الحواجز الموجودة بينه وبين ذاته؛للوصول إلى فسحة المعنى.وبذلك تصير الأنا لديه آخر،عبر البنية الحوارية الثنائية للحياة،مُكتشفة ذاتها ومعنى تجربتها،غير قادرة على الاستناد إلى يقينية مطلقة؛ولعل ذلك ما يُفسِّر لنا هذه اللغة الشاعرية الجسورة التي تُخلخل الواقع السكوني الذي يُعيد إنتاج نفسه.لذا قال بوضوح في كتابه الذي دوَّن فيه سيرته الذاتية"قصتي مع الشعر":"إن القصيدة ليست إناء رومانيًّا أو فينيقيًّا من الفخار،تنتهي مهمتنا بقراءة الكتابة المحفورة عليه.القصيدة ليست مادة منتهية،ليست زمنًا ميتًا،إنها جسر ممدود على كل الأزمنة".

لكن ثَمَّة وشائج قربى لا تنفصم تربط شعر"نزار قباني" بالشاعر والقاص والسيناريست الفرنسي"جاك بريفير"(1900- 1977) من حيث الحفر في اليومي والتجربة الإنسانية،والحفاوة بالحياة وبساطتها،واعتماد لغة الشارع والمهمشين،حتى إن الناقد والمترجم"رضوان السائحي"لاحظ أوجه شبه عديدة بين قصيدة"جاك بريفير""فطور الصباح"التي يضمها ديوانه"كلمات"(1946)،وقصيدة"نزار قباني""مع جريدة"(1956) التي غنتها المطربة"ماجدة الرومي"،في استخدام آلية التكرار،والتعبير بالصورة،والسرد،لحكاية بسيطة تعتمد على مشاهدات مألوفة،تدور حول لامبالاة رجل وحركاته الهادئة حيال امرأة تتابعه،ولا يُلقي لها بالًا،وإن جاءت العاطفة متأججة..عارمة في قصيدة"نزار قباني"،وفاترة أو صامتة في قصيدة"جاك بريفير"،وهو ما يتضح من عالم القصيدتيْن وتقنيتيْهما.تقول كلمات قصيدة"فطور الصباح":

وجبة الفطور

صبَّ القهوة

في الفنجان

صبَّ الحليب

في فنجان القهوة

وضع السكر

في القهوة بالحليب

حرَّك..

بملعقة صغيرة

شرب القهوة بالحليب

ووضع الفنجان

دون أن يُكلّمني

أشعل سيجارة

صنع دوائر

من الدُّخان

نفض الرماد

في المرمدة.

أما قصيدة"مع جريدة"فتقول:

مع جريدة

أخرج من معطفه الجريدة..

وعلبة الثقابِ

ودون أن يلاحظ اضطرابي..

ودونما اهتمامِ

تناول السكر من أمامي..

ذوَّب في الفنجان قطعتيْن

ذوَّبني..ذوَّب قطعتيْن

وبعد لحظتيْن

ودون أن يراني

ويعرف الشوق الذي اعتراني..

تناول المعطف من أمامي

وغاب في الزحامِ

مُخلِّفًا وراءه..الجريدة

وحيدةً

مثلي أنا..وحيدة.

لهذا يُفتش"نزار قباني"عن لحظته الحياتية التي يعيشها بكل كثافتها وقلقها وحريتها؛بوصفها لحظة متحولة ومتجددة؛فنحسُّ بعمق التطلعات والرغبات والمشاعر،عبر رحلة محفوفة بالأخطار،تُحيط بها الغواية،والسعي إلى مكاشفة الوجود،والإصغاء إلى ندائه السري.لذلك قال للشاعرة الفلسطينية"فدوى طوقان"(1917- 2003) ردًّا على رسالة بعثت بها إليه عن طريق"مجلة الآداب اللبنانية"،وذلك في10/11/1956:"لا تلتفتي إلى أقزام الالتزام.فهم أتفه من أن يتركوا أثرًا على هذه الأرض.إنني في سوريا أقف وحدي في وجه من يُريدون أن ينتفعوا حتى بطيب الزنبق،بورقه الأبيض.أنا لا أزال أصيح في وجه هؤلاء:أنتم أكلة الزنبق..وما أضيق الدنيا عندما تستحيل إلى مخبز لا تعبق منه سوى رائحة الطحين"،ثم أضاف:"إن مذهبي الفني كان واضحًا منذ بدأت.ولاأزال أقول بجعل الجمال بمنأى عن الملابسات الزمنية والمذهبية.الفن لا يمكن أن يكون أجيرًا لأحد.حاكمًا كان أو مجتمعًا أو عقيدة.وكفانا يا فدوى أن ثلاثة أرباع شعرنا القديم.كانت تزلفًا..واستجداء..ومسح جوخ".و"نزار قباني"هنا يثير قضية"الواقعية الاشتراكية"التي شاعت في بلادنا إبَّان الخمسينيات والستينيات في مناخ الحرب الباردة وتصاعد المدِّ الوطني التحرري ضد الهيمنة  الإمبريالية،الأمريكية منها بخاصة،على شعوب العالم الثالث،عاكسة في الفنون النضال من أجل الاشتراكية،وإن كانت أصول المصطلح ذاته تعود إلى عام 1932،بوحي من مقالة القائد البُلشفي التاريخي"فلاديمير إيليتش لينين"المعروفة باسم"حول تنظيم الحزب وأدب الحزب"المنشورة عام 1902،مؤكِّدة على الواجب الاجتماعي،وأدب الحقيقة،والوعي الطبقي،ودور الجماهير الإيجابي،أو الأبطال الإيجابيين في الكفاح ضد الرأسمالية المستغِلة.غير أن ما ينعاه"نزار قباني"على"الواقعية الاشتراكية"في هذا السياق،ويُحذّر"فدوى طوقان"منه،أن يتحول الأدب والفن إلى بُوقيْن إعلامييْن دعائييْن لشعارات سياسية أو تعليمات حزبية بيروقراطية،تنأى بالشعرعن طبيعته في سعيه إلى الجوهر،أو إلى الروح،أو بحث الشاعر"عن شيء خاص به،لا يشاركه فيه أحد؛لأنه عن طريق ذلك البحث،يُريد أن يبلغ معناه هو بالذات"على نحو ما يذهب الشاعر الفرنسي"بول كلوديل".وراح"نزار"يُثمِّن قصائد"فدوى طوقان"الأخيرة بحسبانها"مغامرات قلمية جَبُن أمامها كثيرات من المؤمنات بما نُسميه في شرقنا"حياء"،وهو ليس سوى خطيئة تخاف أن تفتح فمها..خطيئة مصابة بالكساح لا تملك أن تتقدم..ولا تملك أن تتأخر"،ولفت نظرها إلى حيوية القبض في شعرها"على هذا الغناء الصافي الحرّ إلَّا من الدفق الأصيل والتعبير السيِّد"على حد قوله.ولعله يُلمح هنا إلى قصائد مجموعتيْها الشعريتيْن المتميزتيْن"وجدتها"و"أعطنا حبًّا":

أعطنا حبًّا،فبالحب كنوز الخير فينا

تتفجَّر

وأغانينا ستخضَرُّ على الحب وتُزهر

وستنهلُّ عطاءً

وثراءً

وخصوبة

أعطنا حبًّا فنبني العالم المنهار فينا

من جديد

ونُعيد

فرحة الخصب لدنيانا الجديبة.

لكن آراء"نزار قباني"هذه،لا تعني بحال التخلي عن الواقع ومعضلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛بحثًا عن الألق الساكن أو مطلق الفرادة وحدها،وصولًا إلى عالم تتحقق فيه فردية الفرد،بل كان شديد الحذر من تحوّل الأدب إلى وسيلة لنشر الأفكارالسياسية،وكون"الكلمات ليست سوى أفعال"حسب مقولة"جان بول سارتر"الذائعة في الستينيات؛تلك التي بمقدورها أن تُنتج تغييرًا اجتماعيًّا وتاريخيًّا.الالتزام الوحيد لدى"نزار قباني هو أن يكون المتخيل والتاريخ أمريْن متعايشيْن،من دون أن يفتئت أحدهما على الآخر؛ذلك أننا لا نكتب لكي نروي الحياة،وإنما لكي نحوِّلها،مُضيفين إليها شيئًا ما؛ف"الخيال هو ما يسمح للرجال والنساء بأن يتخطوْا حدود حالتهم البشرية التي دائمًا ما تفتقر في الواقع- على عكس الخيال- إلى المرونة اللازمة"كما يذهب الكاتب البيروني العالمي"ماريو بارجاس يوسَّا".لذا بادر"نزار قباني"في رسالته التالية إلى"فدوى طوقان"في 14/1/1961إلى القول:"واقعيتكِ خلال السنوات الأخيرة شيء أصفِّق له أنا شخصيًّا..فأنا- كما تعلمين- مع الكلمات النابعة من لحمنا..وتجربتنا..ومزق شراييننا..وضدّ كل ما هو ضبابي دُخانيّ..ضدّ العمارات الذهنية المبنية من الوهم والغيبوبة".وبذلك استطاع"نزار قباني"أن يُقدِّم لنا بعضًا من وجوه واقعه المعيش.. المتنوع،مُتقلبًا على جمر المسافة الموزَّعة بين التصريح والتلميح..بين الإشارة والدلالة،عامدًا إلى فضح البنية الاجتماعية المهترئة،المُعَمَّدة بالتناقضات،مُزيحًا النقاب عن جوانبها المحجوبة والمُعتمة في تعبيرها عن خوائها الروحي،وتوق إنسانها المُسْتلب إلى الانعتاق والتحرُّر.لذلك لم يَنِ يؤكِّد في غير موضع ومكان،على أن الكتابة لديه" هي إحداث خلخلة في نظام الأشياء وترتيبها..هي كسر قشرة الكون وتفتيتها".وبذلك لا يطرح"نزار قباني"في شعره علاقته مع الواقع فحسب،بل يطرح السؤال أيضًا عن وهمية هذا الواقع،وتفكك الذات الفردية فيه نفسيًّا،ومأزقها الوجودي،فضلًا عن تفكك اللغة التواصلية بين أفراده؛وصولًا إلى العلاقة مع الموت انطلاقًا من التفكير في الحياة اليومية.لهذا سار بقصيدته مسارب متلونة؛حينًا بالجموح وانعطافات العوالم المكبوتة في الذات الإنسانية؛وحينًا آخر بانتهاك الحجب والقواعد الأخلاقية واللغوية؛حتى يتحقق التوحد الكامل بين الكلمات والأشياء والطبيعة، ولم تقف حربه العَوان مع أعداء الحياة والإنسان عند حدٍّ،على نحو ما نراه في هجوه للأنظمة الريعية الطفيلية المسئولة عن تجريف التطور الاجتماعي العربي،وإنشاء مجتمع استهلاكي مُشوَّه يتسم بضعف المشاعر الوطنية،وفقدان الإرادة في مواجهة العدو الأمريكي الإسرائيلي،كما في قصيدة"الحب والبترول":

لكَ البترول..فاعصره على قدمي خليلاتك

كهوف الليل في باريس..قد قتلتْ مروءاتك

على أقدام مومسة هناك..دفنت ثاراتك

فبعتَ القدس..بعتَ الله..بعتَ رماد أمواتك

تنام..كأنما المأساة ليست بعض مأساتك

متى تفهم؟

متى يستيقظ الإنسان في ذاتك؟

أو في فضحه هشاشة بنيات قيادة  الثورة العربية التنظيمية والسياسية والمؤسسية التي أدت إلى هزيمة الخامس من يونية عام 1967بحكم تكوينها الطبقي والإيديولوجي والسياسي البرجوازي الصغير،كما في قصيدة"هوامش على دفتر النكسة":

يا سيدي السلطانْ

لقد خسرت الحرب مرتيْن

لأن نصف شعبنا..ليس له لسانْ

ما قيمة الشعب الذي ليس له لسانْ؟

لأن نصف شعبنا..

محاصر كالنمل والجرذانْ..

في داخل الجدرانْ..

لو أحد يمنحني الأمانْ

من عسكر السلطانْ..

قلتُ له:لقد خسرتَ الحربَ مرتيْن..

لأنك انفصلتَ عن قضية الإنسانْ..

أو في كشفه طبيعة الكيان الصهيوني الكولونيالي الاستئصالي العنصري،كما في قصيدة"قصة راشيل شوارزنبرغ":

فليذكر الصغار..

العرب الصغار حيث يوجدون

مَنْ وُلدوا منهم،ومَنْ سيولدون

قصة إرهابية مجندة

يدعونها (راشيل)

حَلَّت محلَّ أمي المُمَدَّدة

في أرض بيارتنا الخضراء في الجليل

أمي أنا الذبيحة المستشهدة..

وليذكر الصغار..

حكاية الأرض التي ضيَّعها الكبار..

والأمم المتحدة..

أو في احتفائه بالقيم الوطنية النضالية كفعل مقاومة وتحدٍّ للاستعمار،ودفاع عن حق الشعب في تقرير مصيره بنفسه،كما في قصيدة"جميلة بو حيرد":

الاسم:جميلة بو حيرد

تاريخ:ترويه بلادي

يحفظه بعدي أولادي

تاريخ امرأة من وطني

جلدت مقصلة الجلَّادِ..

امرأة دوَّختِ الشمسا

جرحت أبعاد الأبعادِ..

ثائرة من جبل الأطلسْ

يذكرها الليلكُ والنَّرجسْ

يذكرها..زهر الكبَّادِ..

ما أصغر(جان دارك) فرنسا

في جانب (جان دارك) بلادي..

أو في تضامنه مع الشعب المصري إبَّان العدوان الثلاثي على بلاده عام 1956؛إثر تأميم الرئيس جمال عبد الناصر شركة قناة السويس البريطانية- الفرنسية التي كانت تُدير القناة في 26من يولية عام 1956،كما في قصيدة"رسالة جندي في جبهة السويس":

يا والدي!

هذه الحروف الثائرةْ

تأتي إليك من السويسْ

تأتي إليك من السويس الصابرةْ

إني أراها يا أبي،من خندقي،سفن اللصوصْ

محشودة عند المضيقْ

هل عاد قُطَّاع الطريقْ

يتسلقون جدارنا..

ويُهددون بقاءنا..؟

فبلاد آبائي حريقْ.

وعلى هذا النحو،راوحَ"نزار قباني"بين التقليد والتطابق من جهة، وبين التجديد والتطويرمن جهة أخرى،مُزاوجًا بين الواقعي والخيالي،لم يستنفدْ شكلًا فنيًّا بعينه،ولم يُعادِ اتجاهًا ما لصالح اتجاه آخر،بل جرَّب كل ضروب الكتابة ومعطياتها،مُحافظًا على غنائيته بجَرْسها العالي،ونبرتها الاحتفائية الإنشادية،مُعوِّلًا على"طاقة الحرف على التغلغل،والتفجّر،والتهام الأبعاد"،وبقدرة صنعته الشعرية"على لمِّ الملايين حول دفء الحرف الجميل..الحرف المغموس بأعصاب كاتبه،بحرائقه،بليل عينيْه"،طامحًا إلى صنع لغة للشعر"ديمقراطية تجلس مع الناس في المقهى،وتشرب معهم الشاي،وتدخن السجائر الشعبية معهم".لذلك استقال من السلك الدبلوماسي؛متفرغًا للشعر الذي"كان وسيظل قدرنا الأوحد والأجمل"،مُضيفًا:"وفي سبيل هذا القدَرِ النبيل الجميل؛قررتُ تأسيس دار نشر في بيروت باسم"منشورات نزار قباني"تتولى نشر آثار هؤلاء الذين كانوا سفراء جمال وخصب وخير في الدنيا العربية"،مُعاهِدًا نفسه وقرَّاءه كما جاء في رسالته إلى الشاعرة الفلسطينية"فدوى طوقان"والمؤرخَّة في 25/6/1966،"على النظر في منشورات الدار نظرة تُقارب العبادة والتصوُّف.ففي عالم النشر الذي نحياه أصبحنا نحتاج إلى الوجدان النظيف أكثر من أي شيء آخر".

هكذا عاش"نزار قباني"للشعر،وللشعر وحده؛إذ الشعر والحياة لديه متماهيان.


Katen Doe

أسامة عرابي

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

wave
جماليات التشكيل الانزياحي في (الحقايق تتشاف في العتمة)
قراءة في  ديوان " الموتى يقفزون من النافذة " لفتحي عبد السميع
فلسفة المتاهة ..  مدخل لقراءة ديوان" البيوت الصغيرة"
قراءة في "تفسر أعضاءها للوقت"  لوليد علاء الدين
اللغةُ العربيةُ في يومِهَا العالميِّ
ثورَةُ الأنقاضِ
جيرار جينيت: البويطيقا والعلاقات النصية مقاربة نظرية شارحة
قراءة في ديوان ( قصاقيص أحلام ) للشاعر / أحمد زغلول

المزيد من دراسات نقدية

wave
جماليات التشكيل الانزياحي في (الحقايق تتشاف في العتمة)

الصورة الشعرية في الشعر العامي ، ترتكز على الانزياح الفني ، لاسيما في قصيدة النثر العامية ؛ لأنها تهتم بتحقق...

قراءة في ديوان " الموتى يقفزون من النافذة " لفتحي عبد السميع

كم شغلت حقيقة الموتِ الفلاسفة، ومضتْ تؤرقُ مجاز الشعراء على مختلف العصورِ، فتحدثَ الشعراءُ عن الموت كمعادلٍ للفقدِ في معظم...

فلسفة المتاهة .. مدخل لقراءة ديوان" البيوت الصغيرة"

حين تقتني ديوان "البيوت الصغيرة" للشاعر أمجد ريان أحمله برفق وأصغ لنبض حرفه ،فإن كل حرف يحمل في طياته تجربة...

قراءة في "تفسر أعضاءها للوقت" لوليد علاء الدين

في مجموعة قصائد "تفسر أعضاءها للوقت " ينتقل وليد علاء الدين إلى الضفة الأخرى "قصيدة النثر" الصريحة إلى حد بعيد...