الصورة الشعرية في الشعر العامي ، ترتكز على الانزياح الفني ، لاسيما في قصيدة النثر العامية ؛ لأنها تهتم بتحقق الشاعرية في تركيبها ، فلو استخدمت المباشرة ؛ لأصبحت
الصورة الشعرية في الشعر العامي ، ترتكز على الانزياح الفني ، لاسيما في قصيدة النثر العامية ؛ لأنها تهتم بتحقق الشاعرية في تركيبها ، فلو استخدمت المباشرة ؛ لأصبحت الصورة الشعرية متماثلة مع الكلام الفعلي / العادي ، أي غياب الصنعة الشعرية وعدم تحقق الشاعرية ، وهي بذلك تختلف عن شعر الفصحى ؛ بسبب التداولية والخصوصية المتعلقة باللغة ( مادة الشعر ) التي تسيطر على العملية الإبداعية .
ومن ثم تتمتع الصورة الشعرية بالابتكار والدهشة ، إذا لم تتعمق في السريالية ، كما يجب أن تتعالق الصور الشعرية في تركيب النص الشعري بشكل تعبيري / وظيفي ؛ ومن ثم تبدو الكتابة الشعرية العامية صعبة ؛ حيث تتراكم الصور الشعرية وتتشابه عند شعراء العامية ، وهذا ما لاحظناه في الفترة الأخيرة ؛ بسبب المساءلة الدائمة التي تتعرض لها من قبل المتلقي ، والتي تتعمق في مفهوم الشاعرية ومدى تمايزها النصي ؛ مما أدى إلى شيوع التشابه في الصور الشعرية والدوال اللغوية ، أي ثمة تقليد تتجه نحوه القصيدة العامية ، وبناء على ما سبق يجب التجديد والابتكار ، فالانتقاء الدلالي من المعجم العامي – رغم ثراءه – له إشكالُهُ الذي يعيق نجاحه .
والتشكيل الانزياحي من مكتسبات ثورة الشعر الحديث ، حيث اعتمد عليه في تشكيل الصورة الشعرية ، من خلال إجراءات البلاغة القديمة أو الحديثة ، أو من خلال إجراءاته الأسلوبية الخاصة ، ولقد بلغ ذروته في خطاب الحداثة الشعري ، إلى درجة جعلته هو منتج الشعرية بدرجة أولى . وتأثر شعر العامية بنجاحه في شعر الفصحى ، واعتمد عليه في بنياته الأساسية ، ولقد بدأ من حيث تماسه مع التجريدية ، بنوعيها الكوني والإشراقي ، وانطلق من خلالها - مع فاعلية التناص – إلى الأساليب الأخرى التعبيرية ؛ لذا جاءت أهمية التشكيل الانزياحي في تشكيل الصور الشعرية مصاحبة للثورات التي نهض بها الرواد الأوائل ؛ ليتجاوزوا الاستهلاك المجرد . وكما ذكرنا سابقًا الإجراءات الأسلوبية التي اتبعها في تحديد ماهويته وقيمته الجمالية في بنية النص الشكلية ، والمؤثرة على تحديد البنية المضمونية العميقة للنص ، والدارس للأسلوبية الانزياحية أو الانحرافية يمكنه التعامل معها منهجيًا ، من خلال رصدها الدقيق ثم تحليلها .
والانزياح الفني تجلى في أجناس الأدب كلها ، إلا أنه أكثر تواجدًا في جنس ( الشعر ) ، ربما يكون هو الذي أنتجه في الأساس ، ثم نشأ التفاعل بينه وبين الأجناس الأدبية الأخرى ، وهذا التفاعل يستحق الدراسة والبحث ؛ لأهميته في تحديد الملامح الخاصة للأدب المعاصر .
وثمة علاقة تبادلية بين الانزياح الفني والانفتاحية الدلالية (1) ، في الشعر المعاصر ، وهما يشكلان انفتاحًا على إمكانات تعبيرية متجددة ، بطاقات لا تقف عند حد معين .
وانطلاقًا من التشكيل الانزياحي والانزياحات الدلالية ، ستكون قراءتنا النقدية للمجموعة الشعرية ( الحقايق تتشاف ف العتمة ) (2) للشاعر المتميز أسامة البنا ، والذي يتسم خطابه الشعري بالابتكار والدهشة ، وبنسقه التفاعلي العلائقي الدلائلي .
ولا شك أن الإنتاجية الدلالية تتسم بالوعي الاستطيقي ، الذي يتمثل في محوري الاختيار والتوزيع الدلالي ، فعنوان المجموعة يعبر عن هذه الدينامية الواعية ، وهو مشبع بدوال توظيفية متفاعلة ، كما نستنبط من بنيتها الإشارية ، فدال ( الحقايق ) الذي يتعمق في المطلق ، ويدل على الثوابت ، يتعمق أيضًا في الصوفية ؛ بسبب تركيبه مع هذه الدوال ( تتشاف ف العتمة ) ، فالتقابل الدلالي بين ( تتشاف ) و ( العتمة ) ، يتعمق في الصوفية ، التي تركز على أهمية حضور ( البصيرة ) في النسق المضمر ، فالحقائق مرتبطة بالبصيرة ؛ ومن ثم يتجلى الحدس الجمالي الصوفي بوضوح تام ، وهذه القراءة إحدى قراءات العنوان ، حيث يمكن أن تقرأ بعيدًا عن الحس الصوفي ، من خلال معرفة الإسقاط السياقي الذي يتناسب مع تشكل العنوان ، أي قراءة محتوى النص ؛ لمعرفة إسقاطات العنوان .
ويطالعنا بعد العنوان اقتباس مهم لموقف من مواقف النفري الشهيرة :
أوقفني في الوقفة وقال لي :
إن لم تظفر بي أليس يظفر بك سواي
وقال لي : لا يرى حقيقةً إلا الواقف
النفري
إن القصدية من اقتباس هذا الموقف لها وظيفتها الدلالية ، وهي تتمثل في الوظائف الدلالية الكائنة في الاقتباس ، فقراءة الموقف توضح لنا معالم هذه القصدية .
عنوان المجموعة يتسق مع هذا الموقف ، الذي يحوي دالين مهمين متطابقين وهما ( الظفر ، الحقيقة ) ، ولا شك أن البصيرة تقدم لنا التأويل الصوفي لهذه الرؤية الصوفية الخالصة ، والتي تؤكد من خلال ملفوظاتها على الحدس الصوفي .
ولا يعني هذا التمهيد المغرق في الصوفية ، أن المجموعة الشعرية بأسرها تتشكل في السياقات الصوفية ، حيث جاءت المجموعة متنوعة في تيماتها ، ومتنوعة في إنتاجية أساليبها الشعرية ، وإن كانت روح التصوف حاضرة في المشهد الشعري للمجموعة ، وهو ما يدل على رؤية الشاعر العميقة في تشكيل خطابه الشعري .
وبالتالي حضور التجربة الوجدانية يمثل الركيزة الأساسية للبناء الشعري ، مع اتحاده مع الإيقاع الذي تشكل بحرفية ، في تفعيل التجربة الشعرية وتفجير مساقاتها الدلالية ، من خلال المؤثرات الصوتية الموظفة بتكنيك عالٍ ، والتي ساهمت في تحديد الدوال المتناغمة صوتيًا ، في إنتاج المعنى الشعري ، وهي ظاهرة أسلوبية شائعة عند شعراء العامية ، حيث ينساقون إلى التنغيم في اختلاق الصورة والمعنى .
أي أن هذه الشعرية ترتكز على الصورة والإيقاع ، وما يلفت انتباهنا الوعي الجمالي الذي تتمتع به هذه الشعرية المشبعة بالثقافة ، والتي تباغتنا دائمًا بمعطياتها الأسلوبية وزخم مضامينها .
-2-
يقول نصه القصير ( خزين الرماد ) :
لسه باسهي ( سارق النار ) ...
سايق فضولي لحد باب الوجد
ف السر باكبش م الرماد
باجمع خزين ال كام سنة الجايين عجاف
وارسم جفاف وش اللي محبوس في المراية
بشويش .. بنادي العاصفة
تدخل تفاجئ الموتى بنشيد
وتعيد ملامح لاعب السيرك القديمة (2/5)
عنوان النص يفضح الكثير من محتوى النص ، ويمهد للتأويل بتحديد مساره / وعيه في مساق واضح ، تبينه علاقة التضايف بين مفردتي العنوان ؛ ومن ثم يسلط الضوء على المدلول الإشاري ، في تبيان علاقة التقابل بين الحقائق والرماد ، حيث أن الدلالة الأخيرة والشائعة عند جميع الشعراء ، تبرز الحالة الشعرية ، لاسيما حين تشتبك مع النص ، في السطر الثالث ، وهي تعكس تجربة الشاعر ووعيه الجمالي ، ولا شك أن الإيقاع يساهم في تحديد الصورة والدوال الموظفة ، مثل ( الحقايق ، سايق ) ( عجاف ، جفاف ) ؛ ليبلغ الذروة في ختام المقطوعة الشعرية بمناداة العاصفة ، التي ستجتاح هذا الخزين من الرماد ، وبهذا السياق تتجه نحو الديالكتيك ، وتعد العاصفة جزءًا منه ؛ ومن ثم يتجلى الصراع بين الرماد والعاصفة ، في سياق دلالي مؤثر ، ومرتبط بالزخم الثقافي المتمثل في استدعاء أسطورة برومثيوس / سارق النار / المعرفة ، وامتصاص الخطاب القرآني المتمثل في ( السنين العجاف ) ، مع الرمزية العالية الموظفة في السياق النصي ، والذي يعكس حجم التيمة المشبعة بالعمق والاستنطاق الدلالي والتركيبي ، حيث نجد في السطرين الأخيرين فعلي العاصفة ، وهما يحويان جوهرها التأثيري في أفعال التغيير والمفاجئة والمفارقة والدهشة .
لذا نجد جماليات الصورة الشعرية المنتجة من قبل تراكيبها المتفاعلة ، تتعدد وتتفاعل وفقًا للرؤية الإبداعية ، في ابتكار المستوى الدلالي الخاص بها ، بوعي شعري مائز .
في نص ( عمى الألوان ) تتحول دلالة ( سارق النار ) إلى ( حارس النار ) ، وهذا التحول الدلالي يعكس مدى إشباع الرؤية بالبعد المعرفي ، والذي يؤثر في دينامية الصورة الشعرية وتشكلاتها ومستوياتها الأفقية والرأسية ، حيث نجد الوعي الشعري متحققًا ومتمايزًا ، يقول :
بس الغريب ..
كل اللي شيفاه ف الفصول تغيير هدوم
واللي شيفاه م الشوارع طفلة تايهة من أبوها بيشتهيها النوم
واللي شيفاه بس فيَّا ( حارس النار ) ..
اللي هارب م الحرس ومن العيون (2/9)
يتشكل التناقض الدلالي من الطرح المقدم من ضمير المتكلم ، بأنه حارس وهارب في نفس الوقت ، ربما يكون هذا الإسقاط موغلا في مطاردة ومراقبة السلطة له ؛ لأنه شاعر / سارق المعرفة ثم حارسها الفعلي من رجال السلطة ، وهي قوة معارضة أخرى غير القوة الإلهية الواردة في الأسطورة الشهيرة ، ولكنها تتشابه معها كثيرًا ؛ لأنها تقوم بنفس الفعل الراديكالي المجحف ، وهكذا يضفي على المنحى المعرفي رؤيته الخاصة ، ولقد ساعدته الانزياحات الدلالية بإمكانياتها التأثيرية والمغايرة ، في إنتاج الخطاب الشعري ، وهي تتسم بالمرونة في توظيفها للمفردات المستمدة من المعجم اللغوي المتواجد في ذهن وذاكرة الشاعر ، وتزاحم اللغة العربية الفصحي اللهجة العامية ، وهذا ليس غريبًا على العامية المصرية ؛ لأنها قريبة جدًا إلى اللغة العربية .
إن المستويات الدلالية لهذا الخطاب الشعري ، تعكس مدى تمايز الشعرية ، وما نستنبطه من الأسلوب الشعري من تجاوزات دلالية مهيمنة على الشكل ومؤثرة في المضمون ، والتي تتفق مع مفهوم الصورة الشعرية ، وتتسم بالوثبة (3) .
يقول في نص ( المشهد والفوارس ) :
واقف على سفر الغيوم
وباحوم على فخ البداية
وعينيا على أول سما ...
حادفة المطر عابر سبيل
واقف غريب أستنظر الداية ...
باستفرغ الغاية (2/11)
الانزياحات الدلالية الكامنة في بنية الصورة الشعرية ، بما تحمله من رؤى المطلق ، أسست فاعلية المعرفي بالغيبي ، في محاولة جادة لقراءة الوجود قراءة موضوعية ، تستند إلى أدلة وبراهين مستنبطة من تفاعل الشاعر – عن طريق التأمل – مع الوجودي / الأنطولوجي ، والوصول إلى ( الغاية ) والتي تستدعي العلية في خلق الوجود .
فالحالة الضبابية الناتجة عن ( سفر الغيوم ) ، أصابته بالتوتر في وصف البداية ( فخ البداية ) ، فدلالة فخ توضح المعاناة الوجودية التي تورط فيها الإنسان بدون أي رغبة منه .
ولذا يحاول جاهدًا أن يصور الحقيقة وفق حسه الصوفي ، الذي شكل تيمة وأسلوب هذا النص بالكامل ، وكان مشحونًا بطاقات تعبيرية لها قيمتها الأسلوبية الخاصة ، في سياق هذه التجربة الشعرية المائزة ، حيث يقول :
إديني سرك يا ولي
أدخل ف غيبوبة
يمكن أشوف الفرق بين ...
الموتة برصاصة والموتة بحقيقة (2/17)
هذا التعمق في إنتاج الرؤية ، يبرز كيفية توظيف الانزياحات الدلالية ، ببعدها المعرفي ، في السياق الصوفي الواضح ، فرغم أن الانزياحات تعتمد على الاختراق والمغايرة ، إلا أنها متسمة بالوضوح ؛ مما يجعلها تقترب من نمط الصياغات المباشرة .
كما تتمتع هذه الدفقة بتشكيلها اللغوي المتسق ، فبين السر والغيبوبة علاقة دينامية هائلة ، وظفها الشاعر بدقة ، فهي علاقة متعمقة في البصيرة التي تشكل الوعي الصوفي ؛ لذا نجده يطرح أهميتها في معرفة الفرق بين ( الموتة برصاصة ) و ( الموتة بحقيقة ) ، وهذه منطقة خاصة بالبصيرة والتخييل ؛ ومن ثم تتبدى التفاعلات النصية بما يربطها جميعًا في السياق العام لهذا النص .
والملاحظ في سياق تجربة هذا الديوان العامة ، تكثيف الانزياحات الدلالية والتمثيل التصويري الهائل ، ورغم ذلك لم يكن الخطاب الشعري منغلقًا على نفسه ، بل هناك مساحة صغيرة بين التكثيف الانزياحي الإيحائي والمعنى المنتوج ، يقول في نص ( بره برواز الحقيقة ) :
إنتي يا راسمك عشيقة
والخطيئة اللي ابتديت اتدفى بيها
وقت ما بتشتي الحقايق
والبريئة اللي بتعرف ..
إمتى تبكيلي بُكايا
واللي تقدر وحدها ..
تخطفني فوق أبعد مشيئة (2/19)
هنا توضح الذات الشاعرة علاقتها مع المخاطبة ، التي قد تكون الوطن ، حيث يقول بحس صوفي وحزين :
أنتى .. يا إنتى .. يا إنتى
يا للي خطيتي بملامحك كل ملمح
يا للي ما سايعني في لقاكي أي مطرح
اغفريلي لو لقانا برة برواز الحقيقة (2/19)
وهي دفقة تعكس الواقع الأليم ، ولا سيما في السطر الأخير ، الذي يحمل مفارقة حادة وموحية عن تسلطية الواقع السياسي .
هكذا تقدم الانزياحات الدلالية قراءات متعددة وتأويلات محتملة ، ويبقى استعداد المتلقي لها هو الموجه نحو رؤية معينة ، مع العلم أن التكثيف الانزياحي قد أثقل عملية التلقي ، ولكن ساهم في تقليصه اعتماد الخطاب الشعري على الإيقاع والنبرة الانفعالية الواضحة المعبرة عن الحزن والألم .
محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام
الصورة الشعرية في الشعر العامي ، ترتكز على الانزياح الفني ، لاسيما في قصيدة النثر العامية ؛ لأنها تهتم بتحقق...
كم شغلت حقيقة الموتِ الفلاسفة، ومضتْ تؤرقُ مجاز الشعراء على مختلف العصورِ، فتحدثَ الشعراءُ عن الموت كمعادلٍ للفقدِ في معظم...
حين تقتني ديوان "البيوت الصغيرة" للشاعر أمجد ريان أحمله برفق وأصغ لنبض حرفه ،فإن كل حرف يحمل في طياته تجربة...
في مجموعة قصائد "تفسر أعضاءها للوقت " ينتقل وليد علاء الدين إلى الضفة الأخرى "قصيدة النثر" الصريحة إلى حد بعيد...