اللغةُ العربيةُ في يومِهَا العالميِّ

إِنَّ النظرةَ العامةَ لعيونِ المشتغلينَ بإحياءِ التراثِ اليومَ يجبُ أَنْ ترتكزَ على المخطوطاتِ؛ إِذْ تُعَدُّ الأوعيةَ العلميةَ للحضارةِ العربيةِ الإسلاميةِ عبرَ

إِنَّ النظرةَ العامةَ لعيونِ المشتغلينَ بإحياءِ التراثِ اليومَ يجبُ أَنْ ترتكزَ على المخطوطاتِ؛ إِذْ تُعَدُّ الأوعيةَ العلميةَ للحضارةِ العربيةِ الإسلاميةِ عبرَ التاريخِ التليدِ، بَلْ وللحضارةِ الإنسانيةِ عامةً؛ لِأَنَّ العربَ جزءٌ مِنْ بنيانِ الحضارةِ العالميةِ، لاَسِيَّمَا في العصورِ الوسطى، التي كانَتِ الحضارةُ العربيةُ الإسلاميةُ حينَهَا نجمَ الحضاراتِ، وكانَ المخطوطُ العربيُّ بمنزلةِ الْقِنْدِيلِ الذي يضئُ أوروبا.

لَقَدْ كانَتْ العلومُ العقليةُ والنقليةُ في الحضارةِ العربيةِ الإسلاميةِ ذاتَ روافدَ حضاريةٍ عتيقةٍ، لأممٍ سبقَتْهَا أَوْ عاصرَتْهَا، وذلكَ مِنْ قبيلِ التأثيرِ والتأثرِ بينَ الحضاراتِ الإنسانيةِ، التي مَا أغفلَ الإسلامُ فضلَهَا، وَمَا حاربَ الجانبَ المشرقَ مِنْهَا، بَلْ اعترفَ بِهِ، ونهلَ مِنْهُ، وأتمَّ صنيعَهُ.

وعندَ التأثرِ بينَ الحضاراتِ نلمسُ في تراثِنَا ذلكَ التأثرَ، الذي أعملَتْ فِيهِ العروبةُ والإسلامُ يدَ الاقتباسِ، المشوبةَ بالتصحيحِ تارةً، والتطويرِ تارةً أخرى؛ بالتصحيحِ لِيَدْخُلَ المنتجُ الحضاريُّ القديمُ في لُحْمَةِ الحضارةِ العربيةِ الإسلاميةِ، وَيَصْطَبِغَ بِطَابَعِهَا، وبالتطويرِ نتيجةً لِمَا ابتكرَتْهُ الحضارةُ العربيةُ الإسلاميةُ بعقولِ أبنائِهَا، وَمَا شيدَتْهُ سواعدُهُمُ الْفَتِيَّةُ؛ لِيُقَدَّمَ في النهايةِ مُنْجَزُ العربِ المسلمينَ.

هُنَا تكمنُ الحاجةُ الماسةُ إلى إحياءِ تراثِنَا؛ لِمَا لَهُ مِنْ دَوْرٍ في بناءِ الشخصيةِ، وتكوينِ الهويةِ، وتصحيحِ صورةِ العربيِّ المسلمِ، التي شُوِّهَتْ على الصعيدِ العالميِّ، فأصبحَ التطرفُ لَصِيقًا بفكرِ العربِ، وأصبحَ الإرهابُ لَصِيقًا بفعلِ العربِ، بَلْ إِنَّنَا نجدُ الكثيرَ مِنْ مؤسساتِنَا التعليميةِ تُحِلُّ تدريسَ اللغاتِ الأجنبيةِ مَحَلَّ اللغةِ العربيةِ، مِمَّا يَبُتُّ الصلةَ بينَ الناشئةِ والحرفِ العربيِّ، كَمَا وجدْنَا الكثيرَ مِنَ الأعمالِ الدراميةِ مِنْ أفلامٍ سينمائيةٍ ومسلسلاتٍ تليفزيونيةٍ، تعرضُ مشاهدَ لمتطرفينَ وإرهابيينَ يتحدثونَ باللغةِ العربيةِ الفصحى، وَقَدْ لاَ يكونُ المشهدُ التمثيليُّ مُوَظَّفًا في العملِ الدراميِّ، وليسَ مِنْ هدفٍ وراءَ ذلكَ سِوَى أَنْ تظهرَ عربيتُنَا الفصحى على لسانِ أناسٍ ينبذُهُمُ المجتمعُ لسوءِ فِعَالِهِمْ، حَتَّى تُنْبَذَ العربيةُ الفصحى بعدَ ذلكَ.

إِنَّ الحفاظَ على تراثِنَا العربيِّ ليسَ عملاً فرديًّا فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا هُوَ عملٌ مؤسسيٌّ، يجبُ أَنْ تَضْطَلِعَ بِهِ الحكوماتُ والمؤسساتُ، بإحياءِ التراثِ العربيِّ المخطوطِ؛ وذلكَ بتحقيقِهِ تحقيقًا علميًّا في شَتَّى فروعِ العلمِ، وتيسيرِ نشرِهِ لتعمَّ الإفادةُ مِنْهُ، ومحاولةِ ترجمتِهِ إلى الغربِ؛ لتحققَ الترجمةُ أهدافَهَا، والتي مِنْ أهمِّهَا التواصلُ بينَ الشعوبِ المختلفةِ والثقافاتِ المتنوعةِ، وتصحيحِ صورةِ العربيِّ، الذي أصبحَ لا يشاركُ في الحضارةِ الإنسانيةِ إلا مُسْتَهْلِكًا، ثمَّ محاولةِ النهوضِ العلميِّ بالتأليفِ والابتكارِ والاختراعِ، القائمِ على تحقيقِ التراثِ مِنْ جانبِ التواصلِ مَعَ الماضي الذي يُعَادُ اكتشافُهُ، والإفادةِ مِنَ المنجزِ الغربيِّ في الحضارةِ الحديثةِ والذي أصبحْنَا بمعزلٍ عَنْهَا.

تبقى الإشارةُ إلى المشروعِ القوميِّ للترجمةِ، بِمَا قَدَّمَهُ وَمَا يزالُ مِنَ المؤلفاتِ العالميةِ إلى اللغةِ العربيةِ، ولكنْ يجبُ أنْ ينشطَ هذا المشروعُ في الترجمةِ مِنَ اللغةِ العربيةِ إلى اللغاتِ الأخرى؛ لِأَنَّنَا بالتحقيقِ والترجمةِ نقفُ وقوفَ الثابتِ في أرضِ الحضارةِ، فيستقيمُ ظِلُّنَا في أرضِ الواقعِ، عَلَّنَا نُوَطِّئُ لفكرةِ الابتكارِ التي ربَّمَا تَمَسُّ عقولَنَا وَلَوْ مَسًّا خفيفًا.

إِنَّ مَنْ أرادَ أَنْ يُقَدِّرَ حضارةَ أمةٍ، فلينظرْ إلى فهارسِ مؤلفاتِهَا؛ المخطوطِ مِنْهَا والمطبوعِ، وَيَتَلَمَّسِ الموجودَ مِنْهَا والمفقودَ، والمحققَ مِنْهَا والمترجمَ، ولاشكَّ أَنَّ الفهارسَ التي حفظَهَا الحرفُ العربيُّ في تراثِهَا لا تُبَارَى، وتكفي مطالعةُ: تاريخِ الأدبِ العربيِّ لبروكلمان، وتاريخِ التراثِ العربيِّ لسزكين، ومعجمِ المطبوعاتِ العربيَّةِ والمعرَّبةِ لسركيس، ومعجمِ المخطوطاتِ المطبوعةِ للمنجد، والأعلامِ للزركليِّ، ومعجمِ المؤلفينَ لكحَّالة.

إِذَنْ فأيُّ تَحَرُّكٍ في اتجاهِ إحياءِ التراثِ العربيِّ الإسلاميِّ، هُوَ أعظمُ وسيلةٍ تعيدُ تلاحمَ الأمةِ العربيةِ الإسلاميةِ، بجذورِهَا الضاربةِ في عمقِ التاريخِ، وعمليةُ الإحياءِ بمنزلةِ الرِّيِّ لشجرةِ الحضارةِ الإنسانيةِ، التي مازالَ لَهَا بذورٌ كامنةٌ في تراثِنَا العربيِّ

إِنَّ كِيَانَ الهويةِ العربيةِ يَتَهَدَّدُ، مِمَّا يُحَتِّمُ علينَا أنْ نَنْزَعِجَ، فنبحثُ تارةً أخرى عَنِ الوسطيةِ الإسلاميةِ بوصفِهَا قوامَ الهويةِ، واللغةِ العربيةِ بوصفِهَا لسانَ الهويةِ، فعلى المؤسساتِ كالأزهرِ الشريفِ والمجمعِ اللغويِّ أَنْ يقومَ كلٌّ بدورِهِ في الحفاظِ على روافدِ الهويةِ، ولكنْ.. في كلِّ عامٍ يعقدُ المجمعُ اللغويُّ المصريُّ مؤتمرَهُ العالميَّ، مثلَ: "اللغةِ العربيةِ وتحدياتِ العصرِ"، و"اللغةِ العربيةِ في التعليمِ"، و"اللغةِ العربيةِ في الإعلامِ"، ويقدِّمُ أبحاثًا ويناقشُ قضايا ويحلُّ إشكالياتٍ، والسؤالُ إِذَنْ: أينَ دَوْرُ صانعِ القرارِ السياسيِّ حتى يُفَعِّلَ تلكَ التوصياتِ وَيُقِرَّ هذهِ النتائجَ؟

وقديمًا قامَتْ مجلةُ الهلالِ باستفتاءٍ (أبريل 1931م_ ص 821)، عنوانُهُ: "حضارتُنَا القادمةُ فرعونيةٌ أَمْ عربيةٌ أَمْ غربيةٌ؟"، وكانَتْ مشاركةُ طه حسين تشي بِأَنَّ المزيجَ الحضاريَّ هُوَ سِرُّ الرسوخِ والتنوعِ، فأوصى بـِ "أَنْ نحتفظَ مِنَ الحضارةِ المصريةِ القديمةِ بِمَا يلائمُنَا وَهُوَ الفنُّ، وَمِنَ الحضارةِ العربيةِ بالدينِ واللغةِ، وَأَنْ نأخذَ مِنَ الحضارةِ الأوربيةِ كلَّ مَا نحتاجُ إليهِ، وليسَ في هذا شرٌّ مَا دُمْنَا نحتفظُ بشخصيتِنَا المصريةِ، فَلَا تُفْسِدُ علينَا هذهِ الحضارةُ الأوربيةُ حياتَنَا، على أنَّنَا أمةٌ لَهَا مقوماتُهَا الخاصةُ".

إِنَّ الْحِرَاكَ السياسيَّ الهَادِرَ يدفعُنَا إلى أَنْ نضعَ أهدافًا لتأخذَ سبيلَهَا نحوَ التحققِ، فلابدَّ أَنْ يكونَ العلمُ هدفًا استراتيجيًّا لبناءِ الوطنِ، والنظرُ إلى الثقافةِ بوصفِهَا وزارةً سياديَّةً، فمجتمعٌ جاهلٌ مِنْ شأنِهِ أَنْ يُحَوِّلَ الثورةَ إلى فوضى، ومجتمعٌ نصفُهُ أميُّونَ كفيلٌ بِأَنْ ينقضَ مَا يبنيهِ المتعلِّمونَ، وَلَنْ يبلغَ بنيانُ الوطنِ يومًا تمامَهُ مَا دامَتْ يدٌ تبني وأخرى تهدمُ في الوقتِ ذاتِهِ، وَمِنَ العلمِ والثقافةِ نستدعي التاريخَ، ونستلهمُ التراثَ، ونفقهُ الواقعَ، ونستشرفُ المستقبلَ، ونقبلُ الآخرَ.


Katen Doe

أحمد تمام سليمان

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

جماليات التشكيل الانزياحي في (الحقايق تتشاف في العتمة)
قراءة في  ديوان " الموتى يقفزون من النافذة " لفتحي عبد السميع
فلسفة المتاهة ..  مدخل لقراءة ديوان" البيوت الصغيرة"
قراءة في "تفسر أعضاءها للوقت"  لوليد علاء الدين
ثورَةُ الأنقاضِ
جيرار جينيت: البويطيقا والعلاقات النصية مقاربة نظرية شارحة
قراءة في ديوان ( قصاقيص أحلام ) للشاعر / أحمد زغلول
عن فاسدٍ خمسيني ينتصر على الموت بالحياة قراءة في ديوان " أبيض شفاف "

المزيد من دراسات نقدية

جماليات التشكيل الانزياحي في (الحقايق تتشاف في العتمة)

الصورة الشعرية في الشعر العامي ، ترتكز على الانزياح الفني ، لاسيما في قصيدة النثر العامية ؛ لأنها تهتم بتحقق...

قراءة في ديوان " الموتى يقفزون من النافذة " لفتحي عبد السميع

كم شغلت حقيقة الموتِ الفلاسفة، ومضتْ تؤرقُ مجاز الشعراء على مختلف العصورِ، فتحدثَ الشعراءُ عن الموت كمعادلٍ للفقدِ في معظم...

فلسفة المتاهة .. مدخل لقراءة ديوان" البيوت الصغيرة"

حين تقتني ديوان "البيوت الصغيرة" للشاعر أمجد ريان أحمله برفق وأصغ لنبض حرفه ،فإن كل حرف يحمل في طياته تجربة...

قراءة في "تفسر أعضاءها للوقت" لوليد علاء الدين

في مجموعة قصائد "تفسر أعضاءها للوقت " ينتقل وليد علاء الدين إلى الضفة الأخرى "قصيدة النثر" الصريحة إلى حد بعيد...