حرصت بعد أن اشتغلت بالصحافة والتحقت بهذه المجلة العريقة أن ألتقى بأبلة فضيلة التى رحلت عن عالمنا فى صمت لا يليق
بصاحبة أشهر برنامج أطفال "غنوة وحدوتة"، وكانت تستضيف كل يوم جمعة كبار المثقفين والمفكرين والأدباء ليتحاوروا مع أطفال البرنامج، لذلك شكرتها ممتنا لأنها ثقفتنى، وعلمتنى كثيرا من القيم من خلال الحدوتة التى كانت تقدمها بصوت لم يفقد شبابه وحيويته رغم تقدم السن، يومها قالت لى إنها اقترحت على زميلها فى المدرسة عاطف صدقى الذى صار رئيسا للوزراء، أن يستحدث وزارة للأطفال، فضحك وقال لها: هى الحكومة هتعيل؟! – ولم تكن أبلة فضيلة وحدها، فقد كانت ضمن منظومة إذاعية تعزف كل ألوان البرامج والمسلسلات التى ارتقت بروح ووجدان وذوق المواطن المصرى عبر رحلة أشرفت على التسعين عاما، وأعترف عن نفسى أن الراديو لم يكن يفارقنى حتى على وسادة النوم، ومن ثم فالتحية واجبة للإذاعة التى لا يزال لها رونقها وسحرها وتميزها، فهى كالكتاب يصحبك فى كل مكان حتى غرفة النوم، وخلال هذه السطور أقدم لك مذكرات هدى العجيمى الإذاعية العاشقة صاحبة الفضل على أجيال من المبدعين فى أنحاء مصر كلها، أما آخر العنقود فهى زميلتنا القديرة سماح جاه الرسول المؤرخة بحب ودأب لأرباب الموسيقى والغناء الذين أثروا الإذاعة، من خلال كتابها "فى حضرة المزيكاتى".
من بين خمسة آلاف متقدم لامتحان المذيعين لم ينجح سوى خمسة فقط، أربعة من الشباب وفتاة واحدة حصلت على المركز الأول هى هدى العجيمى، التى سجلت مذكراتها عن "الإذاعة المصرية.. قصة عشق" – من إصدارات "يسطرون" للطباعة والنشر - وعبر أكثر من 250 صفحة من القطع المتوسط تحكى العجيمى ذكرياتها الشائقة، بل وتعترف – وهذا أمر نادر فى المذكرات التى غالبا ما يتجمل أصحابها – أنها تسببت فى فضيحة إخبارية حين كانت تعمل بإدارة الاستماع السياسى عندما أخطأت فى تحرير خبر أذيع فورا فى نشرة الأخبار، حين كتبت بطريقة الفهلوة – وهذا هو تعبيرها – اسم مدينة لم تسمع اسمها جيدا فوضعت لها اسما من عندها، وكانت المدينة المقصودة مرتبطة بحدث سياسى خطير – وكنت أتمنى مزيدا من التفاصيل التى تؤرخ للمرحلة التى تتحدث عنها مذيعتنا القديرة – وكان من نصيبها الخصم من راتبها مع التعنيف من رؤسائها، وقد أدى خجل هدى المذيعة الشابة إلى أن ترفض قراءة فقرة للكاتب الساخر محمد عفيفى فى الفقرة الأسبوعية الذى كان يكتبها بعنوان "طرائف وحكايات" لبرنامج "إلى ربات البيوت" التى كانت تقدمه صفية المهندس، دهش الكاتب الكبير وضحك وقال: ما فيهاش حاجة، وإذا كنت تخجلين من قرائتها على مستمعاتك فافعلى ما شئت !.
أما الفقرة المحذوفة فكانت عبارة عن مزحة على شكل حوار بين القاضى والزوجة التى أقامت دعوى طلاق ضد زوجها الذى لا يتكلم معها طوال فترة زواجهما إلا عددا قليلا من المرات، وعندما سألها القاضى عن عدد المرات التى كلمها فيها الزوج، قالت : ثلاث مرات، فسألها القاضى عن عدد أولادها الذين أنجبتهم منه، فقالت : ثلاثة !.
ومن الطريف أن هدى العجيمى القادمة من بورسعيد والتى لم تكن تعرف طهى الطعام كانت تقدم فقرة عن صنع أكلات جديدة، فكانت مثلا تقول : "أحضرى فرختين ونظفيهما".. ثم بعد عدد قليل من السنين بدأت الصحف تهاجم البرنامج على هذا الإسراف بعد أن تغير المجتمع والحياة الاقتصادية وزحف الغلاء النسبى على مصروف الأسرة المصرية فى نهاية الستينات، "فأصبحنا ننصح بفرخة واحدة فقط"، ومن تقديم فقرة الطهى هذه تعلمت العجيمى كيف تطهو الطعام بنفسها.
غير أن أهم إنجازات العجيمى هو برنامجها الشهير "مع الأدباء الشبان" الذى قدم مبدعى مصر من قبلى لبحرى، و أسهم فى انتشارهم ونجومية بعضهم وإن لم يعترفوا بذلك، وهى لم ترد أن تحرجهم فحجبت أسماءهم، ولم تكن تنظر أن يأتى إليها المبدعون، بل كانت تسافر إليهم، ومن ثم حين رشحت نفسها لعضوية اتحاد الكتاب، حصلت على أعلى الأصوات بعد الأديب الكبير ثروت أباظة.
وهى تذكر واقعة تدل على حنوها وحنانها على هؤلاء المبدعين، تحكى أن أحدهم وكان أديبا روائيا وقاصا حقق شعبية فى المحافل والفعاليات الأدبية، وكانت الصحف تنشر إبداعاته، واستضافت العجيمى الناقد المعروف د. سيد حامد النساج الذى كان قاسيا وحادا فى مناقشته لأعمال هذا المبدع الشاب الذى عرضت عليه العجيمى الحلقة قبل إذاعتها إشفاقا عليه، فكاد يبكى خوفا من تأثير الحلقة على مسيرته الأدبية، قص تعاطفا معه أن تلغى إذاعتها.
أما المفاجأة فهو ما تحدث به الشاعر عبد الفتاح مصطفى أحد ضيوفها المشجعين للأدباء الشبان، حين سألته عن ظروف كتابته لأغنية أم كلثوم "أقولك لك إيه عن الشوق يا حبيبى"، فأجابها إجابة غريبة ومدهشة، فقال لها : إنها قصيدة صوفية، حيث إنه يتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى، فيقول : أقولك إيه عن الشوق يا حبيبى، أقولك إيه ومين غيرك دارى بى – وهذا الخطاب لا يوجه إلا إلى الله سبحانه وتعالى.
الملاحظ فى مذكرات هدى العجيمى أنها تكلمت عن مسيرة زملائها أكثر مما تكلمت عن نفسها، وهو دليل على نقاء سريرتها وصفاء قلبها.
أما زميلتنا الشابة سماح جاه الرسول فقد فاجأتنى بكتابها "فى حضرة المزيكاتى" – دار رفاعى للنشر والتوزيع – والتى تقدم فيه تأريخا فنيا وإنسانيا لأرباب الغناء والموسيقى، من خلال أبنائهم، فقدمت لى وجبة ثقافية فنية ممتعة لا تكفى السطور المتاحة للإلمام بها، ولكننى أقتطف هذه الباقة السريعة التى ستشوق القارئ إلى المسارعة فى الحصول على نسخة من هذا السفر الفنى لمؤرختنا الصغيرة سنا، الكبيرة قيمة.. فهذا محمد الكحلاوى الشهير بمداح النبى، ولم يكن يحتفل إلا بالمولد النبوى وشهر رمضان، وهو أول من عمل موائد الرحمن المتنقلة، الطريف أنه حينما صدر قرار بإنشاء النقابات العمالية عام 1954 واشترط أن كل من يجمع 400 فرد من مهنة معينة يستطيع أن يكون لهم نقابة، ونجح الكحلاوى فى تأسيس أول نقابة للموسيقيين بشارع التوفيقية، فى نفس الوقت الذى كان فيه عبد الوهاب يؤسس نقابة للموسيقيين أيضا، وذهب ليسجلها فقالوا له إن النقابة أنشئت بالفعل ونقيبها الكحلاوى، مما أغضب عبد الوهاب، ولكنه عندما أنتج فيلما يقتضى سياقه الدرامى أغنية بدوية، فقال : هذا تخصص الكحلاوى، الذى أهدى لحن أغنية "معانا غزال" لعبد الوهاب ورشح له عبد العزيز محمود لغنائها، وتنازل لعبد الوهاب عن رئاسة النقابة وقال له : انت أحق وأجدر بها منى، ولما كان عبد الحليم حافظ قد رحل ولم يفكر فى بناء مقبرة له، فقد بناها له الكحلاوى بمنطقة الإمام الشافعى بجوار "مسجد الكحلاوى"، وقد اكتمل بناؤها بعد ثلاثة أيام، وصل بعدها جثمان العندليب من لندن حيث كان يعالج هناك، وقد أمسك الكحلاوى بيد ابنه أحمد وسأله : من سيدفن هنا؟، فقال : المطرب عبد الحليم، فأجابه : لا.. الذى سيدفن هنا النجاح والشهرة والشباب والمال والعلاقات والدنيا والتصفيق والمسارح، كل هذا سيدفن هنا، فلا ينفع الإنسان سوى الله، فاجعل الله نصب عينيك.
أما شكوكو الذى اشتهر لدرجة أن صنعت له تماثيل تباع باسمه، فكان محمد فتحى الشهير بكروان الإذاعة هو أول من قدمه للإذاعة، وقد لحن له عبد الوهاب مونولوج "يا جارحة قلب بإزازة"، كما لحن له زكريا أحمد منولوجات : بفلوسى، وبنت البلد، وكادت مؤسسة "أخبار اليوم" أن توقع بينه وبين النحاس باشا زعيم الأمة، حينما استغلت الصحيفة المعادية للوفد شهرة شكوكو ونشرت صورته إلى جانب صورة النحاس باعتباره المرشح المنافس لزعيم الأمة فى دائرته بمحافظة الغربية، فاستنجد شكوكو بأم كلثوم لتتدخل لدى مصطفى أمين لوقف هذه الحملة الصحفية، وبالفعل وافقت كوكب الشرق ردا لمعروف شكوكو الذى كان يتخلى عن مسرحه "مسرح الأزبكية" لتقدم عليه حفلتها الشهرية.
أما المونولوجست عمر الجيزاوى الذى كوّن "فرقة الخرص" التى خرج منها من أصبحوا نجوما كسمير غانم وحسن حسنى، فقد سجل أغنية "يا اللى من البحيرة يا اللى من الصعيد" فقد سجلها بصوته، ولكن جمال سلامة أخذ هذا المذهب كاملا ثم أضاف من عنده بقية الكوبليهات وأعطاها لشادية لتغنيها بعنوان "مصر اليوم فى عيد"، مما أصاب الجيزاوى باكتئاب وجلطة فى القلب، رحل بعدها بتسعة شهور.
أما الريس متقال فهو الذى ساعد عبد الرحمن الأبنودى فى جمع "السيرة الهلالية"، وعرفه على ابن عمه شمندى الذى كان يحفظ جزءا كبيرا منها، ليدله شمندى بدوره على جابر أبو حسين الذى كان حافظا للسيرة كلها، وقد غنى الريس متقال فى أحد مسارح باريس الذى أطلقوا عليه مسرح الربابة التى كان يجيد عزفها، حتى أن رتيبة الحفنى جعلته يقوم بتدريس آلة الربابة فى معهد الموسيقى العربية لأنه أفضل من يعلمها، خوفا على هذه الآلة من الاندثار.
محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام
تعقد الجامعة العربية المفتوحة بمصر ، برئاسة الأستاذ الدكتور محمود أبو النصر ، مؤتمر استكشاف آفاق جديدة في تعلم اللغة...
يعترف عميد الأدب العربي د. طه حسين بأنه رجل المتناقضات التى يجد فيها متعته ، فيقول : " من أهم...
حرب أكتوبر كانت ضرورة لإستعادة إتزان الشخصية المصرية والثقة فى قدرتنا على النهوض/ الجائزة الوحيدة فى حياتي من التوجيه المعنوى...
المقاومة الشعبية فى مدينة السويس تهزم قوات إسرائيل المدرعة بالأسلحة الخفيفة!