المقهى الدبلوماسي.. الهجرة النبوية.. وذو البجادين

جلنا يعرف تفاصيل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .. بدءا من أسبابها وتصاعد أعمال التعذيب والتضييق من كفار قريش على النبي وأصحابه.. وطوال 13 سنة قضاها النبي مع أصحابه في مكة من وقت بعثته وحتى الهجرة النبوية الشريفة.. ومرورا بالإعداد للهجرة واختيار الصحبة مع أبي بكر الصديق..وإبقاء علي بن أبي طالب في فراش النبي عند هجرته للتمويه ورد الأمانات.. ثم اختيار دليل الطريق والاختفاء بالغار .. وقصة العنكبوت والحمام.. وقول النبي الذي لا ينساه احد.. ما ظنك باثنين الله ثالثهما..إن الله معنا.. ثم استكمال الرحلة.. ونهاية بالوصول ليثرب التي أشرقت بنور النبي واصبحت المدينة المنورة.. وتأسيس أركان الدولة الإسلامية وبناء مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم..

ولكنني سأتوقف عند رحلة هجرة اخرى.. هي هجرة أحد الصحابة.. وذلك لما لهذه الهجرة من طبيعة خاصة.. ولما لهذا الصحابي من مكانة خاصة عند الله ورسوله.. إنه عبد الله المزني ذو البجادين.. كان اسمه قبل إسلامه "عبد العُزّى".. توفى والده فكفله عمه الذي كان من سادة مُزينة بالغ الثراء فجعله يعيش في رغد من العيش ورفاهية لا يعيشها أقرانه.. كان شابا مميزا جداً بين الشباب بملابسه الفاخرة الجميلة والتي يؤتىٰ بها من الشام خصيصاً من أجله.. وكان الشاب الوحيد الذي يملك فرسا في وقت كان فيه أفضل شاب في مُزينة يملك بغلة صغيرة.. وعندما بلغ السادسة عشر من العمر.. كان ذلك الوقت الذى يهاجر فيه الصحابة من مكة إلى المدينة وكانوا يمرون على مُزينة فى طريق هجرتهم ويمرون مسرعين جدا لأن كفار قريش كانوا يلحقون بهم..

فقابله يوما أحد الصحابة فى أثناء هجرته وعرض عليه الإسلام فأسلم فورا.. وبعد أن أسلم.. طلب منهم أن يعلموه شيئا من القرآن.. فقالوا لن نستطيع أن نظل معك لأن قريش تلحق بنا ولكن إن شئت فالحق بنا فى الطريق لتتعلم القرآن.. فكان يسير خلفهم مشيا على الأقدام يقرأؤن القرآن وهو يقرأ وراءهم مسافة 15 كيلو فى الصحراء ثُم يرجع إلى مُزينة..

ويعود فى اليوم التالي يقف على حدود مُزينة ينتظر أن يمر صحابي فى طريق هجرته فيقول له علمني من القرآن ويقرأ عليه ما حفظه فى اليوم السابق حتى تعلّم أكثر من سورة من القرآن..

فجاءه يوماً أحد الصحابة وقال له ولم لا تهاجر معنا إلى رسول الله.. فقال له لا أُهاجر قبل أن يُسلم عمي فهو من رباني ولن أُهاجر قبل أن آخذ بيده للإسلام ..ظل فى مُزينة ثلاث سنوات يخفي إسلامه وظل يتحين أي فرصة للحديث مع عمه ليخبره عما وصل إليه من هذا الدين الجديد الذى جاء به محمد.. وذلك كل يوم وكان عمه يرفض رفضا شديدا أن يستمع لما سيقول.. وكان إن أراد أن يصلي ذهب بعيدا فى الصحراء حتى لا يراه أحد.. وبعد أن مرت ثلاث سنوات على هذا الحال.. ذهب إلى عمه وقال.. لقد تأخرت علي فأخرتني عن رسول الله يا عمي.. وما عدت أُطيق فراق النبي وإنني أريد أن أُخبرك بأني منذ ثلاث سنوات وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإنني الآن مهاجر إلى رسول الله وأُحب أن تكون معي فإن أبيت فلن يردني عن الهجرة إليه شيء.. فغضب عمه غضباً شديداً وقال "والله لئن أسلمتَ لأنتزعن كل ما أعطيتُك".. فرد الفتى: "إن نظرة من محمد أحب إلي من الدنيا وما فيها".. فما أنا بالذي يختار على الله ورسوله شيئاً.. فقال عمه: إن أصررت جردتك حتى من ملابسك التي عليك.. وقام فمزق له ملابسه التي كان يرتديها.. فقال عبد الله والله يا عمي لأُهاجرن إلى رسول الله مهما فعلت.. فناولته أمه بجاداً .. وهو كساء من قماش غليظ.. فشقّه نصفين، وجعل أحدهما إزاراً والآخر رداءً..

أتى عبدالعزى النبي‮ صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح.. ‬وكان الرسول إذا صلى الصبح تفقد الناس ونظر في‮ ‬وجوههم فرآه‮.. ‬فقال‮: "من أنت؟" قال‮: ‬أنا عبد العزى.. وقص على النبي قصته.. ‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‮: ‬بل أنت عبد الله ذو البجادين.. إلزمنا وكن معنا.. فكان‮ ‬مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي‮ ‬حجره.. وكان إذا قام‮ ‬يصلي‮ ‬من الليل جهر بالدعاء والاستغفار والتمجيد.. فقال عمر بن الخطاب‮: ‬يا رسول الله.. أمراء هو؟.. قال‮ النبي: ‬دعه فإنه أحد الأواهين"..

خرج ذو البجادين مع النبي ( صلى الله عليه و سلم ) إِلَى تبوك.. فلما حصل بتبوك قال : يا رسول اللَّه ادع الله لي بالشهادة ..
فقال : " ائْتِنِي بِلِحَاءِ سَمُرَةٍ " ..
فَأَتَاهُ بِهِ فَرَبَطَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى عَضُدِهِ وَ قَالَ : " اللَّهُمَّ حَرِّمْ دَمَهُ عَلَى الْكُفَّارِ " ..
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا أَرَدْتُ !

فقال النبي.. يا عبد الله إن من عباد الله من يخرج فى سبيل الله فتصيبه الحمى فيموت فيكون شهيداً.. وإن من عباد الله من يخرج فى سبيل الله فيسقط عن فرسه فيموت فيكون شهيداً.. ولعلك تصيبك حمى فتموت فتكون شهيداً..

ويشهد عبد الله غزوة تبوك مع النبي وينتصر المسلمون.. وفي طريق عودتهم بالفعل تصيب عبد الله حمّى شديدة ويبدأ يتألم آلام الموت..

ويحكي عبد الله بن مسعود قصة موت عبد الله ذي البجادين فيقول.. كنت نائماً فى ليله شديدة البرد شديدة الظلام وبينما أنا نائم سمعت خارج خيمتي صوت حفر فعجبت من يحفر فى هذا البرد والظلام.. فاستيقظت وبحثت عن النبي وعن أبي بكر وعمر فى خيمتهم فلم أجدهم.. فتعجبت أين ذهبوا.. فخرجت من خيمتى فإذا أبو بكر وعمر يمسكان سراجاً والنبي يحفر قبرا.. فذهبت إليه وهو يحفر فقلت.. ما بك يا رسول الله..

فرفع وجهه الشريف إلي فإذا عيناه تذرفان الدموع.. وقال مات أخوك ذو البجادين.. فنظرت إلى أبو بكر وقلت.. أتترك رسول الله يحفر وتقف أنت بالسراج فقال.. أبىٰ النبي إلا أن يحفر له قبره بنفسه.. فحفر النبي بيديه قبر ذي البجادين ثم نزل إلى القبر وإضجع فيه بجسده الشريف ليكون القبر رحمة لذي البجادين.. ثم قام ورفع يديه إلى أبو بكر وعمر وقال.. إدنيا إليّ أخاكما ورفقاً به إنه والله كان يحب الله ورسوله..

ويقول عبد الله بن مسعود.. فرأيت النبي يحتضن الجثمان بشدة ودموعه تسقط على الكفن.. وكبر أربع تكبيرات وقال رحمك الله يا عبد الله كنت أواباً تالياً للقرآن.. ثم رفع رأسه إلى السماء وقال.. اللهم إنني أشهدك أنني أمسيت راضياً عن ذي البجادين فارضى عنه..

يقول عبد الله بن مسعود والله لقد تمنيت يومها أن أكون أنا صاحب الحفرة من كثرة الرحمات التي ستتنزل عليه فى هذه الليلة."

يرحم الله عبد الله ذي البجادين.. وإذا بدموعي تغلبني.. وكيف لا أحزن على رجل ذرف الرسول دموعه حزنا عليه ورضا عنه..
وبينما انا هكذا.. إذا بي أشعر بيد تربت على كتفي.. وإذا بصديقي العزيز في المقهى الدبلوماسي يقول لي.. ما توحد الله..مالك.. فيه إيه.. فكفكفت دموعي.. واعتدلت في جلستي.. وامسكت بقهوتي الفرنسية اخذ منها رشفة.. وسألته .. فيه حاجة.. كنت عايزني في حاجة.. فرد علي خجلا.. أبدا ما فيش حاجة.. أنا بس كنت عايز أقولك كل سنة وانت طيب بمناسبة العام الهجري الجديد.. فقلت له .. وانت طيب وبخير.. سنة سعيدة علينا جميعا إن شاء الله..
وللحديث بقية..
لمزيد من المقالات

المقهى الدبلوماسي.. شهر المحرم.. والثانوية العامة

Katen Doe

حمودة كامل

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

حمودة كامل
حمودة كامل
حمودة كامل
حمودة كامل
حمودة كامل
حمودة كامل
حمودة كامل
حمودة كامل

المزيد من مقالات

المقهى الدبلوماسي.. الانتخابات الرئاسية 2024

وأنا في طريقي لبيتي عائدا من العمل.. لا أدري ما الذي جعلني أتوقف لأجلس قليلا بالمقهى الدبلوماسي..ربما لإحساسي بشئ من...

إيهاب الشريف يكتب: هل الهدف "حقول غزة" ؟

يبدو أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو "المتطرفة" لم تطمع في ضم العديد من الأراضي الفلسطينية فقط، ولكن فُتحت...

المقهى الدبلوماسي.. طوفان الأقصى.. فلسطين وإسرائيل

لا أستطيع أبدا نسيان صور الأطفال الشهداء والجرحى..لا يمكن أبدا لأحد أن ينسى مشاهد الأباء والأمهات المكلومين على أطفالهم..ولا يمكن...

المقهى الدبلوماسي.. المولد النبوي الشريف

شهر ربيع الأول هو الشهر الثالث من السنة الهجرية.. سمي بذلك لأن تسميته جاءت في الربيع فلزمه ذلك الاسم..وفيه ولد...