قصة المشهد الذى اعتبره السلامونى أجمل مشاهد السينما المصرية / ثروت عكاشة يلغى قرارًا سابقًا من أجل «البوسطجى» / حسن شاه كتبتْ: لم أملك نفسى من أن أصفق تصفيقاً متتابعاً وأنا أهتف برافو
كتب يحيى حقى قصته "دماء وطين" أثناء عمله الدبلوماسى بمدينة أسطنبول التركية عام 1933، وتدور أحداثها فى "كوم النحل" القرية النائية بالصعيد الجوانى، حيث الواقع شديد البؤس والتخلف، وفى الوقت الذى يصل فيه "عباس" ناظر البوسطة الجديد منفيا من القاهرة، تذهب فيه "جميلة" ابنة "سلامة" أحد أعيان القرية لتلتحق بالمدرسة "الأمريكانية" التى افتتحت أبوابها فى أسيوط على بعد عشرين كيلو من القرية.
فى المدينة تقع "جميلة" فى الحب و"الخطيئة" مع الطالب "خليل"، وتجد نفسها فى ورطة يكتشفها البوسطجى من تجسسه على خطابات الحبيبين، ويتسبب برغبته فى التسلية وقتل الفراغ فى فاجعة مروعة تنتهى بقتل جميلة غسلا للعار ..
هذه هى باختصار شديد قصة الفيلم الذى أخرجه حسين كمال وقام ببطولته شكرى سرحان وزيزى مصطفى وسهير المرشدى وسيف عبد الرحمن، وكان عرضه الأول فى 15 أبريل 1968.
(1)
تظلم صبرى موسى إذا ما اعتبرته مجرد كاتب السيناريو والحوار لفيلم "البوسطجى"، حتى لو عبرت عن إعجابك بالسيناريو وأشدت بالحوار وأثنيت على المعالجة التى قدمها لقصة يحيى حقى "دماء وطين"، ذلك أن دور صبرى موسى يتجاوز السيناريو والحوار، إذ أنه - بشهادة المنصفين - قدم إبداعا موازيا للقصة الأصلية، ومنحها بسخاء من روحه، وابتكر شخصيات ومواقف أضافت وأضاءت ما قصده يحيى حقى من معان وأفكار، بما فيها تلك المخفية ما بين السطور .
وحتى لا يبخسه أحد حقه، وحتى لا يضيع جهده، قرر صبرى أن يسجله بقلمه وبكلماته وبنفسه.. للتاريخ:
"بصفتى أديبا وكاتب سيناريو فى نفس الوقت، يجدر بى أن أؤكد هنا أن ترجمة نص سينمائى، هى فى الحقيقة عملية إبداع جديدة تتضمن مستوى عاليا من القدرة على تفسير الكلمات الأدبية الوصفية المكتوبة إلى شخصيات ومواقف درامية، كما حدث لنا مثلا مع وصف يحيى حقى لوالد الفتاة "جميلة" بأنه "راجل فلاتى"، فتؤدى بنا تلك الصفة اللغوية إلى ابتكار شخصية الخادمة "مريم" فى بيته، ليقيم معها علاقة تثير حفيظة زوجته، فنبتكر لها شخصيتين هما شقيق الخادمة وخالها لتشى الزوجة بالفتاة عندهما فيظهران فى لحظة تروع الفتاة وهى نائمة، ويأخذان بها إلى مصيرها المحتوم.."
ويؤكد صبرى موسى على ما أضافه، دون أن يبخس يحيى حقى وقصته حقهما، ودون الإخلال بالخطوط الرئيسية والأفكار الأساسية:
"لقد كانت هناك اختلافات كثيرة بين النص الأدبى والنص السينمائى، لكنها فى الحقيقة كانت شخصيات ومواقف استدعاها النص السينمائى لترجمة الأوصاف الأدبية التى يجربها ببساطة قلم الأديب، معتمدا على مخيلة القارئ التى تترجم ما يقرأه إلى صور.. عكس السينما التى يقرأها المتفرج بعينه.. كما أن عقدة الرواية عند يحيى حقى كانت فى اختلاف المذهبين المسيحيين للبطل والبطلة، ولهذا يرفض والدها تزويجها من حبيبها حينما خطبها منه، بينما أصبح سبب الرفض فى الفيلم هو أن الفتى قد رأى الفتاة وقابلها، أى عرفها قبل الزواج، مما يتعارض مع التقاليد الصارمة للصعيد، وهى بهذا الشكل أكثر شمولا وتأثيرا".
وثبت فيما بعد أن صبرى موسى لم يكن فى حاجة إلى "حفظ حقه"، لأن الجميع تنافس فى تأكيده، وعلى رأسهم يحيى حقى نفسه، فقد جعله النجاح المدوى للفيلم مطاردا فى كل مكان يذهب إليه بسؤال واحد وبإلحاح شديد عن رأيه فى "البوسطجي"، فقرر أن يكتب مقالا صحفيا عن رأيه فى الفيلم وينشره فى عموده بجريدة (المساء)، ثم يحمله فى جيبه ليقدمه لكل من يسأله ليريح نفسه من تكرار نفس الإجابة !
فماذا قال صاحب "دماء وطين" عن سيناريو "البوسطجى"؟!
قال يحيى حقى وكتب:
"اختلف الحكم على سيناريو الفيلم، وأنا لا أملك إلا الثناء عليه، إذ كان تسلسل المشاهد وتركيب بعضها فوق بعض يسيران باتصال مقنع مريح لا يقطعه تخلخل وركود أو غموض أو حشو لا طائل تحته، والإضافات التى أدخلها على القصة خدمت الفيلم، كرضاء الأب لخادمته بما لا يرضى لابنته".
"وهناك إجماع على أن الفيلم قد أتى بجديد.. هو جديد لأنه أولا عرف كيف يُحرك الممثلين وينطقهم دون تشويح وتقصيع وتطجين وثرثرة لا حد لها.. ولأنه ثانيا عرف كيف ينقل إلينا من خلال التفاصيل جو القرية التى كانت: مشهد جرى الفلاحات للجاموسة المحتضرة، الطاحونة، تنقية القمح، السقاء الذى لا ينطق الكلمة ولكنه يخط خطا بالطباشير، جعلنا الفيلم نحس كأننا فى القرية، وكلمة "كأن" هى مربط الفرس، غياب "كأن" هو للفيلم التسجيلى ولكنها ضرورية للتعبير الفنى" .
(2)
ورغم هذا الإعجاب لم يستطع يحيى حقى أن يُخفى اعتراضه على مشهد النهاية، والذى يقوم فيه الأب بذبح ابنته الخاطئة غسلا لعارها، بل وجه نداء علنيا لصناع البوسطجى بالبحث عن نهاية أخف وطأة من الذبح قبل سفر الفيلم للمشاركة فى المهرجانات الدولية، وكانت له وجهة نظر وجيهة حتى لو بدت رومانسية.. ذلك "أن حساسية الذوق فى أوربا تأبى أن يرى المشاهد بعينيه منظر السكين فى يد الأب وهو يطعن به ابنته كأنها شاة أو دجاجة، حتى منظر ذبح الشاة أو الدجاجة مرفوض عندهم.. خاصة وأن القصة الأصلية تركت "جميلة" ولا شىء يدل على مقتلها إلا دق أجراس الكنيسة.. كم أتمنى أن لو كان فى استطاعة شركة القاهرة للإنتاج السينمائى والأستاذ حسين كمال إعداد خاتمة أخرى غير هذه الخاتمة، فلو حدث هذا لكان أمل كبير فى أن نذهب بهذا الفيلم إلى مهرجان دولى ثم نخرج بلا كسوف!
وتقبل صبرى موسى الاعتراض بصدر رحب، فقد كان مدركا لسببه ومتفهما لدوافعه.. "تلك هى حساسية الفنان الكبير المرهف أمام منظر الدم، وهو الذى صوّر فى روائعه الأدبية أحط الغرائز وأقساها برهافة ورقة.. لأنه بشفافيته كان عطوفا على الضعف البشرى".
والأرجح أن يحيى حقى راجع موقفه من نهاية الفيلم، أو على الأقل خفف من اعتراضه عليها، بعدما تبين له أن لسوق السينما حسابات أخرى غير الدوافع الإنسانية ومشاعر جمهور مهرجانات السينما العالمية، ثم أن الفيلم سافر بنهايته الصادمة إلى واحد من أشهر مهرجانات السينما فى أوربا وصفقوا له، وقبل ذلك رؤية وموقف نقاد السينما المصرية وجمهورها من مشهد النهاية الصادم الذى اختاره صبرى موسى وأصر عليه، وهو ما يتجلى مثلا فى ما كتبه ناقد بوزن وقيمة سامى السلامونى، فقد توقف أمامه بإعجاب بالغ – وهو الذى لا يعجبه العجب – وكتب عنه نصا:
"وفى مشهد من أفضل مشاهد السينما المصرية فى تاريخها كله ينتهى الفيلم بالضحية الجميلة التى كفّرت بحبها المقتول وبحياتها نفسها عن جرائم الآخرين جميعا".
(3)
وحصد الفيلم جوائز السينما لعام 1968، وفى الحفل الذى أقيم بقصر محمد محمود خليل باشا، وحضره المخرج العالمى روسيللينى، أعلن وزير الثقافة ثروت عكاشة عن فوز فريق عمل "البوسطجي" بتسع جوائز، بينها جائزة السيناريو وجائزة الحوار لصبرى موسى، والقصة ليحيى حقى، والإخراج لحسين كمال، والتصوير لأحمد خورشيد، والتمثيل لشكرى سرحان، والمونتاج لرشيدة عبد السلام، والديكور لحلمى عزب، والإنتاج لشركة القاهرة إحدى شركات مؤسسة السينما.
وكانت تلك الجوائز فى مجملها بمثابة رد اعتبار للسينما المصرية وللأفلام الجادة، فقبلها – ومع سيادة نوعية من الأفلام التجارية متواضعة القيمة من نوعية "شهر عسل بدون إزعاج" و"المساجين الثلاثة" و"حلوة وشقية" و"بابا عايز كده" – أصدرت وزارة الثقافة قرارا بمنع مشاركة الأفلام المصرية فى مهرجانات السينما العالمية، بعد فشلها الطويل – كما قالت التقارير – فى الحصول على جائزة أو تقدير، واستثناء من هذا القرار وافقت الوزارة على عرض الفيلم فى مهرجان "كارلو فيفارى"، أحد أعرق مهرجانات السينما الأوربية.
لكن الأهم من الجوائز كان الاحتفاء النقدى بالفيلم وصناعه، فاعتبره "سامى السلامونى" واحدا من أهم الأفلام فى تاريخ السينما المصرية كلها وأفضلها وأكثرها نضجا وتعبيرا عن الواقع المصرى.. وهو واحد من الأفلام القليلة فى تاريخ السينما التى تناولت موضوعها أولا من مشاكل هذا الواقع الحقيقية، ثم عبرت عنه تعبيرا سينمائيا جيدا وواقعيا وبرؤية نقدية جريئة وشديدة الصدق الذى قد يصل إلى حد القسوة والإيلام" ..
بل جعله السلامونى يقف رأسا برأس مع أفلام الواقعية الجديدة وموجتها التى اجتاحت السينما الأوربية وحققت نجاحات هائلة.
وبنفس الحماس بل أشد كتب رؤوف توفيق:
"لأنكم تحسرتم كثيرا على السينما المصرية، ولأنكم لعنتموها فى كل مرة شاهدتم فيها فيلما مصريا هزيلا، وما أكثر هذا النوع، ولأنكم حوصرتم هذا العام بعدد من الأفلام المصرية الضعيفة.. ولأنكم، ولأننا تعودنا أن نقسو، فإننى هذا الأسبوع أدعوكم أن تترفقوا بالزهرة الجميلة التى ظهرت فى حديقة السينما المصرية المهملة.. الزهرة اسمها "البوسطجى".. والبوسطجى فيلم سينمائى ينتجه القطاع العام.. وأخيرا.. أخيرا جدا، يتعرف هذا القطاع على أسلوب المغامرة.. وأخيرا نجد أمامنا فيلما عربيا جيدا.. فالبوسطجى تجربة قام بها مجموعة من شبان السينما الجدد فى السيناريو والحوار والتمثيل والإخراج.. وبحماس الشبان وبخبرة القدامى تم التزاوج الفنى ليقدم عملا فنيا نستطيع أن نفرح به ونستبشر به" .
وكتبت حُسن شاه:
"عندما ظهرت كلمة "النهاية" على الشاشة لم أملك نفسى من أن أصفق تصفيقا متتابعا وأنا أهتف "برافو".. فمنذ زمن بعيد لم أستمتع بفيلم من أفلامنا العربية كما استمتعت بهذا الفيلم..".
ولا يتسع المقام لأن نحصر المقالات النقدية التى تناولت "البوسطجى"، فلا يوجد صاحب قلم وقيمة وقتها إلا وكتب، ويمكنك أن تعود إلى ما كتبته أسماء فى مكانة أحمد حمروش ومحمود أمين العالم ورجاء النقاش وسعد الدين توفيق وفتحى فرج وخيرية البشلاوى وأحمد صالح وغيرهم من أبرز كُتّاب تلك المرحلة ، تباروا فى الاحتفاء بالفيلم وصناعه، حتى أن ناقدا أكاديميا مثل د. صبحى شفيق يصل به الإعجاب إلى القول:
"ومما لا شك فيه إننا هنا مع فيلم "البوسطجي" نشهد بداية جديدة لسينما مصرية عالمية الشكل مصرية المضمون، وهى نتيجة رائعة يوصلنا لها فيلم رائع، فيلم تكاد قيمه التشكيلية أن تنسينا ما فى سيناريو صبرى موسى من هارمونى وتوازن درامى" ..
ولأن سيناريو "البوسطجى" كان حدثا فارقا فى تاريخ السينما، واستغلالا لما ناله من جوائز وما حظى به من اهتمام، أصدرته "روز اليوسف" فى كتاب عن سلسلة "الكتاب الذهبي"، وصدرت طبعته الأولى فى ديسمبر 1973 بغلاف أبدع فى تشكيله الفنان عدلى فهيم، ثم أعادت مكتبة الأسرة طباعته فى العام 2001 بمقدمة للناقد أمير العمرى، قال فيها:
"وسيناريو البوسطجى هو أحد أفضل السيناريوهات التى عرفتها السينما العربية، وقد كان "البوسطجي" -ولا يزال- يمثل فى تصورى أهم أفلام مخرجه، وواحدا من أفضل الأفلام فى تاريخ السينما المصرية كله، وهو يمثل تجربة فريدة فى كيفية نقل العمل الأدبى إلى اللغة السينمائية، فالسيناريو قائم على قصة "دماء وطين" للكاتب يحيى حقى، وقد استطاع صبرى موسى أن يتوصل إلى معادل درامى متكامل يعكس وعيا فريدا بأصول الدراما السينمائية، إلى جانب انتقائه للغة بسيطة وواقعية تماما لكلمات الحوار"..
(4)
الغريب والمدهش أن هذا الحماس الطاغى للسيناريو لم يكن موجودا عندما انتهى صبرى موسى من كتابته، فعندما عرضه على عدد من كبار المخرجين ترددوا فى قبوله، إلى أن تحمس له المخرج الشاب حسين كمال وذهبا به إلى شركة القاهرة لإنتاجه، وهناك كان صبرى مع مفاجأة لم تكن فى الحسبان، أخبره مدير الشركة أنهم تعاقدوا مع يحيى حقى على "قنديل أم هاشم" ولم يتعاقدوا معه بعد على "دماء وطين"، ومن ثم، وطبقا للوائح الشركة، فإن على صبرى أن ينجز سيناريو القصة التى اشتروها قبل أن يتعاقدوا معه على "البوسطجى..
وهكذا وجد صبرى موسى نفسه فى اختبار أصعب مع أخطر روايات يحيى حقي.. وتلك قصة أخرى.
محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام
المؤتمر حمل اسم الروائى الراحل حمدى أبو جليل وكرّم 7 أدباء/ توصيات برفض التطبيع والوقوف مع الدولة فى حفظ الأمن...
حوار إبراهيم عبد العزيز مع الحكيم أنقذه من الأستغناء عنه
تدربت فى مكتب محاماة وكانت تنصح المتخاصمين بالتصالح فإقترح عليها الباشا العمل فى الإذاعة
أوراق ساحر الكتابة «20» / توفى والده فجأة فقرر عدم استكمال كتابتها/ ماذا كتب فى أوراقه عن نكسة 67 وانتصار...