نازلى.. الأميرة التى غيرت حياة وأفكـار الشيخ محمد عبده

حازت الملكة "نازلى" النصيب الأوفر من الشهرة، فإذا ما ذُكر اسمها فإن خيال المصريين يتجه فورا إلى تلك المرأة التى كانت زوجة للملك (فؤاد) وأمًا للملك (فاروق)، وشغلت

حازت الملكة "نازلى" النصيب الأوفر من الشهرة، فإذا ما ذُكر اسمها فإن خيال المصريين يتجه فورا إلى تلك المرأة التى كانت زوجة للملك (فؤاد) وأمًا للملك (فاروق)، وشغلت الناس فى سنواتها الأخيرة بفضائحها الشخصية، من مغامرتها العاطفية مع رئيس الديوان الملكى أحمد حسنين باشا، إلى هروبها إلى أمريكا لتزوج ابنتها فتحية من الشاب القبطى المغامر رياض غالى، لتنتهى حياتها نهاية دراماتيكية بائسة لا تتفق مع امرأة كانت لسنوات طويلة.. ملكة مصر.

لكن "نازلى" الأميرة التى سبقتها، فلم تنل معشار شهرتها، رغم أن الأولى كانت أكثر جمالا وسحرا وثقافة وتأثيرا فى الحياة العامة، وكانت أكثر حسبا ونسبا بحكم أنها كانت حفيدة مباشرة لمؤسس الأسرة العلوية محمد على باشا، وكانت حياتها الخاصة لا تقل دراماتيكية عن نازلى الملكة.. ورغم كل هذه المؤهلات إلا أن نازلى فاضل تظل شخصية غامضة وشبه مجهولة للكثيرين.

يمكننا أن نضيف لها صفة أخرى مهمة فنقول إنها كانت أميرة التناقضات المدهشة، بداية من اسمها الرسمى الغريب المركب "نازلى زينب"، ومرورا بزيجاتها؛ ففى زيجتها الأولى ارتبطت برجل تركى (خليل باشا) يكبرها بثلاثين سنة، وفى زيجتها الثانية ارتبطت برجل تونسى (خليل بوحاجب) يصغرها بعشرين سنة! ولم يكن آخرها قصرها الذى عاشت فيه بمصر والذى صممت أن يكون على الطراز الملكى الفرنسى (اشتهر باسم لويس الخامس عشر) ولكن بشرط أن يكون صناعة مصرية!

(1)

وفى كتابات معاصريها عنها يصل هذا التناقض المدهش منتهاه، فعند الكثيرين منهم (بينهم سعد زغلول) ستجدهم يكتبون عنها بإعجاب كامل وتقدير بالغ، فهى عندهم الأميرة المصرية المثقفة الوطنية، التى لم تتردد فى إعلان تأييدها لثورة عرابى وتبرعه لها من مالها ووقوفها فى صفه أثناء معركة التل الكبير فى مواجهة قوات الاحتلال الإنجليزى، ولم تجد حرجا فى إعلان إعجابها بإبراهيم الوردانى الشاب الوطنى الثائر الذى اغتال بطرس باشا غالى رئيس الحكومة المتحالف مع سلطة الاحتلال الإنجليزى والذى وافق على طلبهم بتمديد امتياز قناة السويس لأربعين سنة جديدة، فاعتبرت الأميرة ما صنعه الوردانى "بطولة"، وامتلكت الجرأة لأن تهدد القضاة الذين يحاكمونه إذا غلّظوا عقوبته.!

وبلغ من إعجاب سعد زغلول بها وبوطنيتها واعتزازها بمصريتها أنه كان يعلق صورتها فى غرفة الجلوس ببيته، فلم ينس لها أنها رغم أرستقراطيتها وانتمائها إلى العائلة المالكة كانت من أشد المؤيدين لزواجه، وهو الفلاح المصرى، من صفية ابنة مصطفى باشا فهمى رئيس وزراء مصر.

وفى المقابل، لم يتورع آخرون (من بينهم الزعيم محمد فريد) فى التشكيك فى وطنية الأميرة، واعتبروها وطنية زائفة ولا تعبر عن حقيقتها كأميرة مدللة تحتقر المصريين وتعمل فى الخفاء لصالح محتليهم الإنجليز، وهى تهمة راجت رغم تهافت الأدلة التى ساقوها عليها، ورغم أن وقائع أخرى كثيرة كانت تثبت العكس، بينها مثلا غضبها الشديد من كتاب "سر تأخر المصريين" الذى أصدره الدوق الفرنسى "داركور" عام 1893؛ حيث اعتبرته إهانة لوطنها لا تغتفر، فكلفت قاسم أمين بالرد عليه وطبعت على نفقتها كتابه "المصريون.. الرد على الدوق داركور".

لكن الذى لا خلاف عليه هو أن الأميرة نازلى فاضل امتلكت ثقافة رفيعة ومعارف متنوعة وأجادت لغات عدة وكان لديها قدرة على محاورة أكبر المفكرين وأعظم العقول.

الجمال والذكاء والثقافة والسلطة والثروة، لاشك أنها كانت خلطة نادرة فى ذلك الزمان البعيد، أسبغ على الأميرة سحرا وفتنة وجاذبية جعلت قلوب الرجال تهفو إليها وتتسابق إلى مجلسها وتتهافت على حضور صالونها الذى جمع أشهر وأهم رجالات عصرها.

كانت الأميرة بلا مبالغة هى صاحبة أشهر صالون ثقافى فى مصر فى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وبتعبير الشيخ مصطفى عبد الرازق، الإمام الأكبر وشيخ الأزهر وواحد من الذين ترددوا على الصالون وعرفوا صاحبته: كان قصر الأميرة ملتقى الكبراء وقادة الرأى وصفوة أهل العلم والأدب والفن بين أجانب ومصريين، فى قصرها كانت تحل عظائم الأمور وتعقد، وفى قصرها كانت تمحص مسائل الإصلاح الاجتماعى وتتدارس طرائف الآداب والعلوم والفنون الجميلة، وفى قصرها كان يُشجع أهل المواهب الممتازة وكان يُمهد لنشر الجديد والدعوة إلى الرقى والمدنية، وكان للخلصاء فى قصر الأميرة فرص أيضا للتمتع بنعيم الحياة وطيبها".

وكان الإمام محمد عبده من هؤلاء الذين مسهم سحر الأميرة، ومن بين هؤلاء الخلصاء الذين اصطفتهم ليكونوا من رواد صالونها العامر.. والثابت أن معرفته بها بدأت عقب رجوعه من منفاه الطويل عام 1888، وبعد أن عاد للحياة العامة مستشارا فى محكمة الاستئناف، ومن حينها "داما صديقين حتى فرق الموت بينهما" بتعبير مصطفى عبد الرازق.

فهل اقتصرت العلاقة بين الإمام والبرنسيسة على مجرد الصداقة؟!.. الحقيقة أن الشيخ عبد الرازق نفسه يلمح على استحياء إلى أن العلاقة تطورت إلى ما هو أبعد، وبنص كلماته: أدركت تلك الأميرة النقادة التى تعرف كيف تسوس مواهب الرجال ما للأستاذ من تفوق عقلى وخلقى ومن جمال فى نفسه وحسه فخصته بمكانة تجمع بين الحب والإجلال.. وكان الشيخ يجد فى كنف الأميرة ما يغذى روحه الحساسة وذوقه اللطيف ويجدد نشاطه للعمل ويرفه عنه من أحمال الوقار ما لا يستطيع أن يرفهه إلا ذكية حسناء".

كان الإمام وقتها يقترب من عامه الستين، لكن رغم شيخوخته فإنه كان يمتلك طاقة هائلة على العمل والعطاء، وروحا شابة وثابة لا تعترف بعُمْر ولا زمن، طاقة لفتت نظر تلميذه قاسم أمين فأشار إليها عندما كتب عنه وعنها: كان فى هذا العمر- يطالع ويتعلم ويُعلم ويُفتى ويجلس فى جلسات مجلس شورى القوانين ومجلس الأوقاف الأعلى ويترأس الجمعية الخيرية الإسلامية ويمتحن طلبة العلم وتلامذة المدارس ويؤلف الرسائل الدينية وينشر المقالات الفلسفية ويدافع عن الدين إذا طعن عدو عليه ويراسل علماء المسلمين فى جميع الأقطار ويتخابر (يتصل) مع رجال الحكومة لتنفيذ مقاصده، وكان مع ذلك يجد وقتا ليزور أصحابه ويشاركهم فى جميع أفراحهم وأحزانهم".

(2)

باعتراف الشيخ مصطفى عبد الرازق وشهادته المكتوبة، فإن الأميرة كان لها تأثير روحى ووجدانى على أستاذه الإمام محمد عبده، لكن تأثيرها الأهم والأخطر والأبقى كان فى عقله وتفكيره وفتاواه، ويرصد الشيخ عبد الرازق أثر الأميرة على الإمام فى ثلاثة وجوه، وننقل عنه:

الأول: أسلوبه فى الكتابة؛ إذ مال بعد تلك التجربة الوجدانية والفكرية إلى "الدعابة والخفة" مثلما يتضح فى المقالات التى كتبها فى مجلة "المنار" عن رحلاته وسياحاته.. وليس من المعقول أن يكون الذى هيأ الشيخ للمزاح هو تعيينه فى مجلس إدارة الأزهر وتقلده منصب الإفتاء.

الثانى: إلمامه فى كتاباته بموضوعات لم يكن من قبل ليعرض لها مثل كلامه عن الرسوم والتماثيل، فقد مال الشيخ إلى إباحة هذه الفنون مُعارضا رأى قطاع من المشايخ كانت تذهب إلى تحريمها، وكانت له أدلة ذكية على أهميتها وضرورتها كوثيقة تاريخية مثل قوله "إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت أحوال الأشخاص فى الشئون المختلفة وأحوال الجماعات فى المواقع المتنوعة والأحوال البشرية".. بل وصل فى إباحتها إلى القول: أما إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك كما يتلذذ بالنظر فيها حسك".. ولا شك أن أقوال الشيخ بما كانت تحمله من أريج الشعر والأدب والفن والرؤية المستنيرة كان تأثير ارتباطه بالأميرة وصالونها واضحا فيه.

الثالث: تغير موقفه من الإنجليز.. فقد نشأ الشيخ محمد عبده على عداوة إنجلترا التى شهد تشريدها لأستاذه السيد جمال الدين الأفغانى وإحباطها لمساعيه الإصلاحية كلها.. وكتب الشيخ مقالات تتأجج نارا ضد بريطانيا العظمى نشر أغلبها فى جريدة "العروة الوثقى" التى أصدرها فى باريس أيام نفى الأستاذ الإمام من مصر عقب الثورة العرابية.. أما بعد اتصال الشيخ بالأميرة نازلى التى كانت صديقة لبعض الإنجليز فقد خفت حملته على إنجلترا وسمح بصداقته الشخصية للورد كرومر (المندوب السامى فى مصر)  صديق الأميرة، لكن دون تفريط فى حق بلاده أو عدول عن رأيه السياسى.

هذا ما قاله الشيخ مصطفى عبد الرازق عن أستاذه الإمام محمد عبده وعن تأثير الأميرة نازلى فاضل فى حياته وشخصيته ووجدانه، لكن هناك كثير آخر لم يقله الشيخ عبد الرازق (وهو شقيق الشيخ على عبد الرازق صاحب الكتاب الشهير "الإسلام وأصول الحكم") .

لم يقل الشيخ عبد الرازق مثلا إن الإمام محمد عبده عندما زار تونس فى العام 1903 فإنه نزل خلال فترة إقامته بقصر الأميرة، وكانت نازلى وقتها قد تزوجت من القاضى التونسى خليل بو حاجب (رئيس وزراء تونس فيما بعد)، وكان لها قصور عامرة فى منطقتى "المرسى" و"حمام الأنف"، وأقام الأستاذ الإمام فى ضيافة الأميرة التى كانت قد بلغت من العمر ستا وأربعين سنة.

ولم يقل الشيخ عبد الرازق مثلا إن الأميرة هى التى حثت الإمام وشجعته على تعلم اللغة الفرنسية ودراسة الآداب الفرنسية دراسة متعمقة.. لتوسيع مداركه وفتح نوافذه  على الثقافة العالمية.

ولم يقل إن شخصية الأميرة بكل ما كانت تحمله من ثقافة ووعى وذكاء وحكمة قدمت له نموذجا إيجابيا وملهما للمرأة، لا شك أنه كان مؤثرا فى انحياز الإمام للمرأة وحقوقها ودورها وفتاواه فى إنصافها.

(3)

لم يكن الإمام وحده هو الذى مثلت له الأميرة هذا النموذج الملهم للمرأة ، فقد سرى هذا التأثير لآخرين من كبار مفكرى زمانها، تسببت الأميرة بشكل مباشر فى تغيير موقفهم "المتخلف" من المرأة، فقد حدث عندما عاد قاسم أمين من باريس أن كتب سلسلة من المقالات هاجم فيها المرأة المصرية بضراوة، وحط من شأنها بقسوة، وقال إنها استسلمت للتخلف والرجعية، وأنه عندما يقارنها بما حققته المرأة الأوربية فإنه بات على قناعة بأنه من الأفضل للمرأة المصرية أن تلزم بيتها ولا يكون لها أى دور أو مشاركة فى الحياة العامة لأن مستواها العقلى لا يؤهلها لتلك المشاركة ولهذا الدور.

ولما قرأت الأميرة تلك المقالات غضبت ورأت أن كاتبها تجنى على المرأة المصرية وظلمها، وطلبت من الإمام محمد عبده أن يدعو قاسم أمين لزيارتها وكانت تعرف أنه تلميذه ومن مريديه، وناقشت الأميرة قاسم أمين طويلا وفندت آراءه ضد المرأة ببراعة وحاورته بطلاقة، وخرج قاسم أمين من قصر الأميرة مبهورا بشخصيتها وثقافتها، مُغيّرا موقفه من المرأة بعدما وجد أن هناك نماذج تستحق الإعجاب والتقدير، وبات على قناعة أن تخلف المرأة المصرية ليس لنقص فيها بل سببه الأول والأكبر هو القيود الاجتماعية المضروبة حولها، وقرر من حينها أن ينذر نفسه لتكسير تلك القيود وتحرير المرأة، فكان كتابيه الشهيرين "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، اللذين كانا بمثابة الشرارة التى أشعلت روح المرأة المصرية ودفعتها للتمرد على وضعها والثورة على سجانيها والانطلاق نحو الحرية والخروج للنور.

وهناك من يرى أن كثيرا من الأفكار الواردة فى الكتابين كانت أصابع محمد عبده وراءها..  ووراءهما هما الاثنان أميرة ملهمة، سابقة لعصرها، امتلكت من الجسارة لأن تقيم صالونا فى بيتها تدعو إليه أكابر رجال عصرها من مفكرين وسياسيين، تناقشهم فى كل شىء.. من السياسة إلى الرسم.

تحتاج الأميرة نازلى فاضل إلى إعادة اكتشاف.. والمؤكد أنها تستحق.


Katen Doe

أيمن الحكيم

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

المزيد من ثقافة

انطلاق مؤتمر "التغيرات البيئية في مصر" بمقر الأعلى للثقافة.. الأربعاء

بمشاركة نخبة من الباحثين والمتخصصين

المستشار الإعلامي لجائزة الكتاب العربي : نستهدف التأثير في المشهد العربي

أكدت الدكتورة حنان فياض المستشار الإعلامي لجائزة الكتاب العربي أن الهدف الأسمى للجائزة هو إحداث تأثير عميق ومستدام في المشهد...

قصة مصورة - الكبير كبير

جرب أن تقف خلف القدم الحجرية الحافية، فقط القدم، لترى كل شىء متقزماً تحتها: البشر فى ضآلة نملات، والمكان الواسع،...

التحديات القانونية التى تواجه النساء فى مصر

يناقشها كتاب «الإطار القانونى للمرأة المصرية والأجنبية»


تحقيقات وحوارات

بعد 52 عاما على نصر أكتوبر.. أبطال من ذهب يرون بطولات لاتنسى من قلب المعركة
  • الثلاثاء، 14 اكتوبر 2025 04:41 م