ببساطة وحدة قاطعة فى نفس الوقت، لخص فؤاد حداد قصة الغناء ما بين هزيمة يونيو وانتصار أكتوبر «أجمل ما فى الدنيا أكتوبر اللى انتقم ليونيو».. لم تكن تلك الكلمات التى جاءت فى سياق إعادة صياغة لإحدى حلقات «المسحراتى»
مجرد بلاغة فى مفردات شاعر هو الأهم فى تاريخ العامية المصرية، لكنها رؤية مستنيرة لذلك التاريخ الذى لا يمكن تفتيته بالحديث عن يونيو باعتباره حدثا بعيدا عن أكتوبر حتى فى عالم الموسيقى.. ليس هذا فقط، بل إنه تلخيص لأحد أهم عناصر الانتصار، وهو الرغبة فى الانتقام، ليس فقط لأنها طبيعة إنسانية تعرف قيمة الوجع الذى خلفته النكسة، لكن لأن هذه القيمة أيضاً كانت أحد عوامل النصر نفسه.
فى كتابه المهم «اليوم السابع.. الحرب المستحيلة».. يرصد الكاتب الكبير محمود عوض أنها «ليست قصة تاريخ مضى.. فالقضية لا تزال معنا حتى الآن.. وربما لهذا السبب ونحن نحتفل بمرور خمسين سنة على انتصارنا الكبير نعيد كتابة ذلك التاريخ بطرق مختلفة، إحداها الغناء المصرى الذى عاش سبع سنوات كاملة على الجبهة جنبا إلى جنب مع الجندى الذى عبر.
كل الناس بيقولوا يا رب
استيقظ المصريون على الصدمة.. لكنهم سرعان ما استفاقوا وخرجوا بالملايين يرفضون الاعتراف بالهزيمة، ويطلبون الحرب التى لم يدخلوها أصلا.. وكان تراجع عبدالناصر عن قرار تنحيه.. وراح يستعيد جنوده وجيشه مجددا.. وفى أول اجتماع لمجلس الوزراء الجديد الذى تشكل برئاسته فى السادس والعشرين من يونيو 1967 طلب عبدالناصر فى بداية الاجتماع من حاضريه أن يكون ما سيقوله فى تلك اللحظة سريا حتى على زوجات الوزراء وأولادهم.. ثم تحدث عن الحالة العامة والألم الذى يشعر به المصريون.. ثم عرج إلى ما تذيعه الإذاعة المصرية، وأشار إلى أنه كلما استمع إلى الراديو وجد أغنية «إلهى ليس لى إلاك عونا».. ثم أضاف «طبعا مافيش غير ربنا، بس إحنا مش هنقعد نعيط».. رفض عبدالناصر حالة «البكاء» معلنا شارة «المقاومة»، محددا سلاحا مهما طلب مشاركته بسرعة وهو سلاح الغناء.
فى الاجتماع ذاته، تحدث د. ثروت عكاشة عن الألمان فى الحرب العالمية، وكيف استخدموا إحدى مقطوعات بيتهوفن لتحفيز الجنود.. وبدأت المقاومة.
فى تلك اللحظة تحديدا التى كانت فيها أغنية المطرب أحمد عبدالقادر «كل الناس بيقولوا يا رب» قد انتشرت بشكل ساحر وكبير فى كل حتة فى مصر، كان الجنود المصريون يفاجئون العدو الصهيونى على بعد أيام من الهزيمة بمقاومة أسطورية فى معركة رأس العش.. فى ذلك الوقت سأل عبدالناصر رئيس الإذاعة «هيه فين أغنية عدى النهار ما بتتذاعش كل يوم ليه؟».. وكانت الرسالة واضحة للمرة الثانية.. «أبدا بلدنا ليل نهار.. بتحب موال النهار.. لما يعدى فى الدروب ويغنى قدام كل دار».
كان الأبنودى وبليغ حمدى وحليم ثلاثتهم قد انتبهوا مبكرا لإشارة ناصر، ولرغبة دفينة فى صدر كل مصرى «إحنا ما حاربناش.. احنا اتغدر بينا.. ولازم نقوم تانى».. هذه المعانى لخصها محمد العجمى ببساطة فى أغنيته التى لحنها إبراهيم رجب وغنتها المجموعة.
«تعيشى يا بلدى تعيشى
رملك وأرضك دهب يا بلدنا
زرعك وشجرك دهب يا بلدنا»..
وكان أن كتب الشعب أيضاً أغنيته الخاصة، فخرجت فى السويس مجموعة من العازفين الشعبيين سمت نفسها «النضال» بقيادة العازف «سيد كابوريا» دأبت على صنع شعارات حماسية.. وبالقرب منها شكل الشاعر الشعبى محمد أحمد غزالى المعروف باسم «كابتن غزالى» مجموعة أخرى سماها «البطانية».. تلك الفرقة كانت فى البدء مجموعة من المتطوعين الشعبيين الذين يقومون بالحراسة لمعاونة مجموعة «تنظيم سيناء»، وحتى لا يمل أفراد المجموعة من طول مدة الخدمة والحراسة راحوا يغنون على أنغام السمسمية والجراكن وباستخدام معالق الطعام كأدوات بديلة لأدوات الفرقة الموسيقية.. وانضمت مجموعة النضال لمجموعة البطانية، وتشكلت منهما فرقة «ولاد الأرض» التى استعان بها قادة الجيش لنشر الحماس فى صفوف المقاتلين على الجبهة.. ثم انتبهت إلى كلماتها القيادة السياسية فى القاهرة خاصة بعد مشاركة الأبنودى ومحمد حمام فى حفلاتها على الجبهة، فراحت تزور المهجرين من أبناء القنال فى أماكن تهجيرهم، واستخدمتها «أضواء المدينة» فى حفلاتها حتى صارت أغنياتها على كل لسان.. الجميع راحوا ينشدون..
«غنى يا سمسمية
لرصاص البندقية
ولكل إيد قوية
شايلة معاها المدافع»..
وخرجت عشرات الأغنيات العفوية مثل الرصاص «عضم ولادنا نلمه نلمه.. ونعمل منه مدافع.. وندافع»..
الكلمات الحادة التى كتبها غزالى ولحنها وأداها أعضاء الفرقة بعفوية شجعت آخرين فى مدينتى بورسعيد والإسماعيلية على تكوين فرقتى «ولاد البحر» و«الصامدين»، والأخيرة قدمت عددا مهما من الأغنيات الحماسية المدهشة والعذبة فى آن واحد.. إحداها أعاد الموزع محمد العشى تقديمها منذ أعوام قليلة بصوت مصطفى شوقى..
«يا دنيا سامعانى
أبويا وصانى
ما أخلى جنس غريب
يخش أوطانى»..
واستمرت فرقة «ولاد الأرض» تغنى «فات الكتير يا بلدنا.. ما بقاش إلا القليل.. و«راجعين لغيطك يا زتونة».. ومع حمام والأبنودى غنت من ألحان إبراهيم رجب:
«يا بيوت السويس
يا بيوت مدينتى
أستشهد تحتك
وتعيشى انتى»..
تلك اللغة المحرضة على الشهادة والدفاع عن الأرض حتى آخر نفس دفعت الإذاعة الرسمية إلى تبنى خطاب حاد أيضاً.. فغنى حليم «أحلف بسماها وبترابها» فى وقت مبكر.. وأيضاً «يا بلدنا لا تنامى».. وبعد إيلات الأولى وضرب أبوزعبل وبحر البقر عاد صلاح جاهين ليكتب «الدرس انتهى لموا الكراريس»، وغنت شادية لمجدى نجيب «يا طريقنا يا طريق» وعبدالرحيم منصور «يا أم الصابرين».. ثم كانت صرخة محسن الخياط الشهيرة على لسان عبدالحليم حافظ..
«سكت الكلام
والبندقية اتكلمت
والنار وطلقات البارود
شدت على إيدين الجنود
وابتسمت»..
نعم.. سكت الكلام.. والبندقية اتكلمت فى معارك متتالية.. عرفت بما سمى «حرب الاستنزاف».. لكن فى الداخل كان هناك من يستنزف النفس المصرية بإحباط مقصود.. ويائس فى أحيان أخرى.. عبرت عنه تجربة الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم بشكل لاذع فى أغنيات حادة تنتقد النظام الذى لا يحارب.. وتحرضه على ذلك.. وأغنيات أخرى هازلة راحت تسخر بشكل مختلف، تمثلت فى أغنيات فولكلورية صاغها على إسماعيل، وغنتها ليلى نظمى وعايدة الشاعر مثل «العتبة جزاز»..
لكن من لا يعرفون الكواليس لا يعرفون أن بعض هذه الأغنيات مثلها مثل المسرحيات والأفلام الكوميدية جاءت بأوامر من قمة السلطة عقب النكسة مباشرة كما يذكر الزميل الباحث محمد توفيق فى كتابه «شىء من الحرب».. إذ أمر ناصر باستدعاء شويكار وفؤاد المهندس لتقديم مسلسل إذاعى رمضانى شهير تحول إلى فيلم سينمائى فيما بعد.. ونجح بشكل مبهر هو «شنبو فى المصيدة»، حتى يستطيع الشعب أن يبتسم ويستعيد نفسه ورغبته فى الحياة والنصر.
فى الوقت نفسه، ظهرت موسيقى غربية تقلد فرق البيتلز والبونى إم بقيادة إسماعيل الحكيم ابن توفيق الحكيم، وخرجت عشرات الفرق المماثلة التى تقلد «الخنافس» فى مظهرهم وملابسهم وموسيقاهم.. ثم تطورت تلك الفرق لتظهر فرق «النهار» و«المصريون» وغيرهما من فرق الشباب ذات الإيقاع الصاخب.. وتميزت «النهار» بموسيقاها المصرية التى تستلهم تجربة سيد درويش وبكلمات ثورية متمردة مقاومة كان فى مقدمتها..
«مدد.. مدد
شدى حيلك يا بلد»..
تلك الصرخة التى أطلقها الشاعر زكى عمر.. واستعادتها الفرقة فيما بعد أكتوبر فى عرض مسرحى حمل الاسم نفسه.
أيقن الكل فى تلك الأيام أن «ما يؤخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة» ليس مجرد شعار.. وهذا ما أكد عليه صلاح جاهين بموسيقى سيد مكاوى وغنته فيما بعد سعاد حسنى..
وعادت مصر واختفى اسم «الجمهورية العربية المتحدة»، فطار الاسم للغناء.. فغنت شادية فى حفل افتتاح السد «يا حبيبتى يا مصر»، وتبعتها أغنيات أخرى مماثلة.. لكن ظل نداء الحرب حاضرا مع استمرار حفلات دعم المجهود الحربى وفيما بعد رحيل عبدالناصر وحضور السادات.. ومر عام الضباب، لكن الأغنية المصرية كانت يقظة نفس يقظة فؤاد حداد وسيد مكاوى فى مشروعها المهم «نور الخيال»، ذلك النور الذى كان يبدو قريبا لكل مبصر من المبدعين.
فكتب عبدالرحيم منصور ولحن بليغ حمدى مفردات العبور فى المسرحية الغنائية التى قدمتها عفاف راضى «ياسين ولدى»..
«حنعدى البحر
نجيب النصر لمصر
حنفوت ع الصعب
وكل الصعب
ونجيب النصر لمصر»..
وبعد ثلاث سنوات من إطلاق عبدالرحيم منصور نبوءته وقف قائد مصرى كبير يخطب فى جنوده فى عز الظهيرة.. «إننا نقاتل لنثبت للعالم أجمع أن فى مصر رجالا قادرين.. إننا نقاتل لتستمر الحياة.. ليس أمامنا إلا النصر بإذن الله.. يا أبناء مصر لأول مرة منذ زمن طويل نهب من الخنادق لنلبى نداء الهجوم.. ونضرب الضربة الأولى.. تقدموا».. كان هذا ما نقله جمال الغيطانى فى كتابه «المصريون والحرب» عن قائد الفرق الثانية قبل العبور بلحظات.. وكانت الضربة الأولى.
وأنا على الربابة باغنى
بمجرد أن أذاع الراديو المصرى بيان القوات المسلحة الأول والذى أعلن وجود إغارة من العدو على قواتنا وتصدى جنودنا له، خرج المصريون إلى الشوارع.. ومن بينهم بليغ حمدى وزوجته «الحامل» وردة.. ومعهما عبدالرحيم منصور.. لتبدأ قصة أخرى فى أغنية الانتصار التى جاءت عفوية تماما لكنها حكيمة، تختزل ما جرى فى سبع سنوات سابقة..
«نصرة لبلدنا.. بسم الله بسم الله
بإيدين ولادنا.. بسم الله بسم الله
وأدان ع المدنة.. بسم الله بسم الله
بيحيى جهادنا.. بسم الله بسم الله
الله أكبر.. أدن وكبر
وقول يا رب النصرة تكبر»..
وكبر الانتصار.. وكتب توفيق الحكيم افتتاحية الأهرام فى السابع من أكتوبر باسم «عبرنا الهزيمة» فحولها عبدالرحيم إلى أنشودة بديعة غنتها شادية ولحنها بليغ..
لقد عبرنا هزيمتنا.. هذه هى القصة.. وهذه هى بداية الانتصار.. كانت الأغنيات الأولى فى أكتوبر ذات ملمح صوفى عبر عنه بشكل جيد عبدالفتاح مصطفى وبليغ حمدى فى أغنية المجموعة «صدق وعده».. وهكذا فعلت شهرزاد «سمينا وعدينا».. وعبدالعظيم محمد والمجموعة أيضاً «صبرنا.. وعبرنا».. تلك المشاعر كتبها محسن الخياط بشكل أكثر دقة وتفصيلا فى واحدة من أهم أغنيات الحرب وغناها محمد رشدى..
«ويا أول خطوة
فوق أرضك يا سينا
كلنا.. من فرحنا
من الشوق بكينا
بوسنا أرضك
واحنا فى حضن الحنين
واللقا..
نسانا مصر الحزينة»..
فرحت مصر الحزينة وراح عبدالرحيم منصور يغنى على ربابته..
«وانا ع الربابة باغنى
وأقول تعيشى يا مصر
ما أملكش غير غنوة
أمل للجنود.. أمل للنصر
وأبارك كل خطوة تعدى
ع الطريق الصعب
قول معايا يا شعب
تحيا مصر.. وتحيا مصر»..
وراحت شادية تغنى من كلمات نبيلة قنديل ولحن على إسماعيل.. «راحة فين يا عروسة يا أم توب أخضر».. وكتب محسن الخياط لحليم مجددا «لفى البلاد يا صبية بلد.. بلد.. باركى الولاد يا صبية ولد ولد»..
غنى المصريون هذه المرة بفرح لجنودهم العائدين بالنصر.. وحاول العدو كسر ذلك الفرح بمعارك الثغرة وحصار السويس.. لكن السويس تحولت إلى بلد واحدة، كتلة لحم واحدة ترفض الموت.. وانتهت مائة يوم يضيف إليها السوايسة يوما.. لتنهى أسطورة الجيش الذى لا يقهر إلى الأبد.. ويعود الجنود.. يعود الغائبون إلى ديارهم والمهجرون إلى غيطانهم.. ويعود الأبنودى من منفاه غير الاختيارى فى لندن ليغنى مع كمال الطويل لسيناء..
«يا بلادى.. يا بلادى
يا عيون قمر الربيع
اندهى يا بلادى
يجاوبك الجميع
وصباح الخير يا سينا
رسيتى فى مراسينا
تعالى ف حضننا الدافى
ضمينا وخدينا يا سينا».
محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام
يُعرض الفيلمين القصيرين حمزة أطارد شبحًا يطاردني للمخرج ورد كيّال والقنبلة من إخراج ديما حمدان،
انضمت الفنانة ميرهان حسين إلى فريق عمل مسلسل «حق عرب»، والمقرر أن يُعرض فى السباق الرمضانى المقبل 2024.
يستعد الفنان تامر حسنى للعمل على مشروع سينمائى جديد، خلال الفترة المقبلة، وذلك بعد الإستقرار على كل التفاصيل.
يواصل الفنان خالد النبوى عمل التحضيرات النهائية لمسلسله الجديد «إمبراطورية ميم»، والمقرر أن يخوض من خلاله السباق الرمضانى المقبل 2024.