من أجل فرنسا.. الحب من طرف واحد!

فرنسا التى أعرف جيدا بالمعنى الجغرافى والوصفى، والتى طالما أحببتها، وكتبت عنها بمتعة الانبهار باكتشافها، هى هذه المرة وعبر شريط المخرج المغربى رشيد حامى "من أجل فرنسا"

 هى أداة تعذيب لى، لأن الفيلم ببساطه أداة تذكرة ووعى بأننى جزء من الأنا العربية، وعبر هذه الأنا جلست بين صفوف الجمهور؛ أحاول أن أرى الأشياء، لأكتشف اننى لم أعد أرى الأشياء كما تمر أمامى على الشاشة، ولكن صرت أرى ما تمثله، وأناقش بينى وبين نفسى مدلولها، صار كل شىء فى نظرى جميلا، بقدر ما هو عادل وإنسانى،

ولكن هل كان كل ما يرويه حامى على الشاشه من خلال ما حدث بالفعل لعائلته فى بلد المهجر "فرنسا" عادلا وإنسانيا؟

منذ اللقطة الأولى لفيلم رشيد حامى الذى يروى قصته الحقيقية "من أجل فرنسا"، نجد أنفسنا نحن المشاهدين ننغمس تماما فى القصة ونصبح جزءا فعالا من الشاشة: لقطات طلاب الكلية العسكرية الذين يمرحون ويمزحون، قبل أن يتحول كل شىء إلى مأساة حقيقية، هى مشاهد سينمائية تمامًا وإنسانية مزعجة فى آنٍ واحد. بعد وقوع الحادث المأسوى بموت عيسى فى قلب القصة، نتبع عائلة السعدى كما لو كانوا من عائلتنا، ونحاول الانتقام لابنهم وإضفاء بعض الإحساس بالسعادة إلى حياتهم  المشتتة فى هذه الأثناء، نسافر عدة رحلات، شخصية وعبر الأراضى والقارات، والتى تضيف أبعادا أكثر حميمية لتجربة سينمائية حقيقية وعميقة بالفعل.

كان يمكن لجلال أو لعيسى فى الفيلم أن يموت من أجل فرنسا، لكنه مات من أجل لا شىء!.. مات من أجل نزاع قاسٍ بين رفاق المدرسة العسكرية "سان سير" المرموقة، حيث كان يحلم بأن يصبح ملازمًا فى المستقبل.

 مات عيسى ليلا فى الظلام غرقا فى مياه متجمدة، إثر لعبة صبيانية من الطلبة الفرنسيين.. هكذا يبدأ الفيلم وسط ألم أسرة تستقبل بصبر رفات ابنها الشاب عيسى، ليكشف رشيد حامى بعد ذلك عن خيط قصة تتصادم فيها الدموع الوطنية والعائلية؛ المنفى إلى فرنسا، ففى رواية تشبه السيرة الذاتية الحزينة لرشيد حامى، وُلِد الأخوان الشابان لأب شرطى لا يستطيع التمييز بين الرجولة العنيفة والانضباط، يهرب الأولاد من الجزائر التى مزقتها الحرب الأهلية ويستقرون فيما يفترضون أنه أمان فرنسا.

يعتنق الأخ الأصغر المثالى المشرق عيسى (شاهين بومدين) الحلم الفرنسى وينجح فى الالتحاق بالأكاديمية العسكرية فى سان سير.

عيسى لا يشكك أبدًا فى نزاهة بلده الذى تبناه، حتى لو كان مرتاحًا أكثر فى تايوان مع صديقته. على النقيض من ذلك، يبدو أن شقيقه الأكبر إسماعيل (كريم لكلو) لا يكترث بالحياة، وليس لديه وظيفة ملموسة أو أى أهداف فى الحياة.

ترك إسماعيل هويته العربية وراءه عندما فر من الجزائر، ومع ذلك، على عكس شقيقه، فهو يعرف أنه ليس فرنسيًا أيضًا. ويضاعف من هذا الشعور القرار الرسمى بعدم منح شقيقه جنازة عسكرية، ولكنه يستطيع احتواء غضب أمه نادية، النجمة البلجيكية المغربية "لبنى عزبال" إنها تعلم أن مقاضاة الجيش الفرنسى بتهمة القتل هى قضية خاسرة؛ أنه يجب عليها فى النهاية الموافقة على ما يطرحه الجنرالات على الطاولة وأن وعدهم المخلف بجنازة عسكرية، لم يكن أكثر من مجرد تمنٍ.

على الرغم من أن نادية وأبناءها ليسوا فقراء ولا من الطبقة العاملة بالتأكيد، إلا أنهم مهاجرون من الطبقة المتوسطة الدنيا، وعليهم أن يصعدوا السلم الطبقى ليحصلوا على حقوقهم الكاملة كمواطنين.

 فى فرنسا، الطبقة لا تجلب الثروة والامتياز فقط، إنها المفتاح لكسب المساواة، وهو أمر حاسم لتصبح فرنسيا بالكامل ربما كان عيسى يعرف ذلك، لكنه ربما لم ينجح فى مواجهته؛ لم ينجح أبدًا فى مواجهة الواقع الذى عرفه إسماعيل منذ فترة طويلة: أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، يأخذنا الفيلم فى رحلة عبر باريس والجزائر العاصمة، حيث تُظهر ذكريات الماضى لحظات مهمة من طفولة الأخوين عيسى واسماعيل فى الجزائر، وأخيرا فى مدينة تايبيه التيوانية- المدينة التى شارك فيها الأخوان بعضهما لحظاتهما دون أن يعرفا كم من الوقت المتبقى لقضائه معًا، لنجد انفسنا أمام أكثر مشاهد الفيلم رقة وتوترا فى آن، حيث يكافح إسماعيل للتواصل مع أخيه عيسى عبر مشهد معبر فى ليلة رأس السنة، عندما يقبل الزوجان بعضهما فى منتصف الليل، ويبدو إسماعيل وحيدًا فى تلك اللحظة بين الغرباء وأخيه المشتت بعيدا عن وطنه.

إنه عمل عاطفى، لكنه يُروى بطريقة غير عاطفية.. حيث يختار السيناريو الأنيق، الذى شارك فى كتابته حامى وأوليفييه بوريول، أسلوب الترقب من قبل المشاهد، سواء كنا نشاهد نواح أم حزينة أو غناء شقيقين يستمتعان بالكاريوكى فى سيارة أجرة فى تايوان.

كذلك الأحداث قوية والشخصيات معقدة.. من الواضح أن حامى حريص على تجنب الصورة النمطية للمهاجرين فى ضواحى باريس. فاالأم نينا كما يطلقون عليها، والتى اتخذت قرارا صعبا بترك والد أطفالها الذى يسىء معاملتها فى الجزائر، تتمتع بعقلية قوية ولها جانب أرستقراطى، فهى متعلمة ومثقفة تواجه المسئولين بأنها كان يمكن أن تتقبل موت ابنها لو مات فى الحرب السورية وهو يدافع ضد الإرهاب والتطرف مثلا، ولكنه مات من أجل لا شىء!

 ومع ذلك فهى لا تعادى السلطات الفرنسية لأنها تدرك أن وضعهم كمهاجرين عرب لم يتغير أبدًا.. بالنسبة للمسؤولين الفرنسيين سيبقون دائمًا "الآخر".. ربما اندمجوا بنجاح وربما افترضوا أن لديهم حقوقًا متساوية، لكن أمام القانون، وأمام من هم فى السلطة، لن يكونوا فرنسيين أبدًا!

اما الأخ الأكبر إسماعيل فهو شخصية محورية يمكن تصديقها، فهو متمرد مستاء من الطريقة التى عومل بها أخوه من قبل من فرنسا التى كان يعتبرها وطنه، ومستعد للموت من أجلها وكذلك الجيش. ومع ذلك حرص حامى وبطريقة سلسة ألا يشوه سمعة السلطات الفرنسية التى عاقبت الجنرال كايار (لوران لافيت) لمجرد أنه أبدى اختلافا مع القيادة وتعاطفا مع موت عيسى، وطالب بمعاملته ميتا كطالب فرنسى فى إقامة جنازة عسكرية، مثل أى مؤسسة، يتكون الجيش من رجال ونساء، يختلفون عن بعضهم البعض، وبعضهم يتمتع بقيم مشكوك فيها مثل الجنرال ليدوكس (لوران كابيلوتو) أو نبيل مثل الجنرال كايار، الذى يحمل فى داخله مُثل الشرف والعدالة والكرامة.

ويظل أعظم صفات هذا الفيلم الواقعى، أنه لا يذهب بنا تماما إلى حيث كنا نتوقعه (نحن ضدهم، مدنيون ضد الزى الرسمى، مسلمون من الضاحية يواجهون اليمين المتطرف)  بينما راح يتعامل مع أكثر القضايا المعاصرة فى المجتمع الفرنسى بلمسات صغيرة ودقيقة، إذ اخذ  يغذى الخط الواضح لقصته بتفاصيل إيحائية صغيرة متعددة، مغلفا المشاهد الصعبة بموسيقى دان ليفى الحساسة الجميلة، متخطيا حدود الرؤية الكاريكاتورية فى كثير من الأحيان لحياة المهاجرين فى فرنسا ليقدم صورة حقيقية وحية للوضع المعقد لقضية الاندماج والاعتراف بالآخر المهاجر من خلال صورة مصغرة لمجتمع المهاجرين تبلورها عائلته الصغيرة فى العالم الكبير لفرنسا كما أنه -أى حامى- كان حريصا على أن يعطى لكل  مساحاته المكانية والزمانية الثلاثة (الحاضر، الجزائر، تايوان) كل الاهتمام اللازم، لاكتساب هوية بصرية ومكانية حقيقية ليوقع رشيد حامى فى النهاية على عمل معقد  وحساس.

نبضة مسافرة

غبى من يعتقد أن فرنسا خرجت من الجزائر، فهذا كان جزءا من استراتيجية متكاملة.. فخروج فرنسا لم يعنى أبدا رحيلها.

«شارل ديجول»

Katen Doe

وفاء عوض

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

wave

المزيد من أقلام

wave
بعد مرور عام على مولده ..لماذا يحرم المصريون من مشاهدة أفلام عبدالوهاب

بقلم: أحمد عثمان مما لا شك فيه أن محمد عبد الوهاب كان يمثل ردنا أساسيا في الحياة الثقافية للمصريين, فهو...

بكل صراحة - تحية للشهداء النبلاء

لو يقتلون مثلما قتلت لو يعرفون أن يموتو.. مثلما فعلت

كلام × كلام - ميلاد أقطاب عالمية جديدة

مفاجآت وتغيرات عالمية كانت تترقبها الساحة الدولية منذ أعوام وخاصة بعد بزوغ نجم روسيا عسكريا والصين صناعيا

كلام × كلام - ميلاد أقطاب عالمية جديدة

مفاجآت وتغيرات عالمية كانت تترقبها الساحة الدولية منذ أعوام وخاصة بعد بزوغ نجم روسيا عسكريا والصين صناعيا