السيد نجم: الحديث عن شهداء وأحــداث حرب أكتوبر هو ذخيرة شعبنا

المصرى البسيط يقاتل من أجل نفسه وبيته وبلاده ولا ينتظر أجرًا من أحد

رواية "حصار الحمام الأبيض" هى الثالثة عشرة فى مسيرة الكاتب الكبير السيد نجم الأدبية، ويتزامن صدورها مع احتفال مصر بمرور خمسين عاما على نصر أكتوبر المجيد. ما يميز هذه الرواية أن كاتبها يقدم فيها تجربته الخاصة، حيث شارك فى المعارك وعاصر أحداثها، فجاءت معبرة عن خصوصية التجربة الحربية، رغم كونها تجربة عامة تطوى الصغير والكبير بين طياتها.

الرواية تبدأ بإعلان جمال عبد الناصر التنحى فى عام 67، ثم بداية إعلان الجموع للصمود والتصدى، وشعار "المعركة أولا وأخيرا". وتتناول التجربة الحربية التى عاشتها البلاد فى 5 أقسام، كل قسم يتكون من عدة فصول.. الكاتب الكبير نشر حتى الآن 13 رواية، و7 مجموعات قصصية، و8 كتب فى التنظير لأدب المقاومة.. باﻹضافة ﺇلى مسيرته فى أدب الطفل، هو هنا فى حوار خاص عن أدب الحرب وتجربته.

ما رأيك فى مصطلح أدب الحرب؟

راج مصطلح أدب الحرب بعد معارك أكتوبر73، ومن قبل استخدم الإعلام والنقد مصطلحات "أدب المعركة/ أدب النضال"، وأظن أنه لم يعبر تماما عن معطيات المعارك والحروب، حيث إنه أقرب ﺇلى توظيف المعارك فى سياق أدبى وحسب، بينما واقع الحال أن التجربة الحربية تمر بثلاث مراحل، الأولى ما قبل المعارك حيث تهيئة الجموع للمخاطر المنتظرة من العدو، مع ضرورةالاستعداد للمواجهة.. ثم مرحلة التعبير عن المعركة بتفاصيلها المتناقضة، فالناس تريد بطلا بينما النفس البشرية جبلت على حب الحياة، وهو المثير فى التعبير عن تلك المرحلة من الحرب.. وأخيرا مرحلة ما بعد المعارك التى يحتفل فيها المنتصر بنصره، ويراجع المهزوم أوراقه بالبحث عن الأسباب، وهى المرحلة التى تبرز التناقض الاجتماعى الناتج عن استهلاك إمكانات البلاد واستنزافها. ونظرا لحرصى على ضبط المصطلح، كل ما أكتبه خلال السنوات الأخيرة فى هذا الشأن استخدم مصطلح "أدب التجربة الحربية" وأراه أكثر دلالة فى التعبير عن موضوع الحرب أدبيا.

 هل عبر الأدب عن حرب أكتوبر بما يتناسب مع حجمها؟

عن يقين واقتناع تام ما كتب عن تجربة الحرب فى أكتوبر (وهو كل ما كتب بعد نكسة 67 حتى أكتوبر 73، وليس العشرين يوما قتالا فى أكتوبر وحسب) هذا الكم مما كتب لم يقرأ ولم يفحص للدرس والنقد الفنى والأدبى الجاد.. وكل ما يحدث هو إثارة الأسئلة حوله كل أكتوبر من كل عام! التجربة الحربية التى أفرزتها الحروب المصرية والعربية خلال العقود الماضية من القرن العشرين، أفرزت عددا كبيرا من المنجزات الأدبية التى لم تدرس بموضوعية وفنية، منها: تجربة ذهاب الجندى إلى أرض المعركة والجبهة حتى قبل اشتعال التراشق بالنيران.. وتجربة معايشة حياة التهديد المتبادل بين أفراد طرفى الصراع.. وتجربة الطرد من المدن والقرى والتهجير (كما حدث مع سكان مدن القناة).. وتجربة الأسر أثناء اشتعال المعارك.. وتجربة حياة الخنادق والأماكن المغلقة.. وتجربة عودة الجندى منتصرا كان أو مهزوما.. وأخيرا تجربة المسرحين من الجندية والصدمة مع واقع اجتماعى جديد.

هذه هى تجارب الحرب المتنوعة، وجرى التعبير عنها فى جملة ما نشر حول حرب أكتوبر 73، أما السؤال عن مستوى تلك الأعمال، أو أنها لم تصل إلى قامة انتصار أكتوبر، ولا ما خطه ونشره تولستوى مثلا.. فالإجابة: أين من كتب مثل تولستوى فى غير تجربة الحرب؟

 هل شاركت فى حرب الاستنزاف أو حرب أكتوبر؟

لقد شرفت بالمشاركة فى التجربة الحربية لأكتوبر 73، ومنذ النكسة حين كنت طالبا جامعيا، كنت أشترك مع الطلبة فى المظاهرات والتدريبات العسكرية والمشاركة فى صحف الحائط المعبرة عنى وعن جيلى، بعد صدمة الاستيقاظ من الحلم الكبير الذى عاش فيه وتربى. ما سبق هى مرحلة ما قبل الالتحاق بالجندية. فى يناير 1971 وحتى يناير 1975، التحقت بسلاح الخدمات الطبية، وحصلت على فرقة تخصصية لرقيب طبى (أى شاويش) وبعد الحصول عليها التحقت بمستشفى السويس العسكرى بمنطقة الروبيكى طريق القاهرة السويس، بعد ضرب المستشفى الأصلى فى مدينة السويس.. ومن ثم التحقت على وحدة طلبة جديدة فى التشكيلات العسكرية وهى تسمى (مست جرميت تحت الأرض رقم 5) أى المستشفى الجراحى تحت الأرض رقم 5.. وقد كانت بالفعل مجموعة من الدشم الخرسانية داخل تبات جبلية (تبتان متواجهتان).. وعدد الدشم خمسة، وتم تكليف 5 من الرقباء لمهنة الإشراف على الدشم، كل رقيب له دشمة.

كانت مهمة الدشم والمستشفى استقبال المرضى والمصابين خصوصا أيام المعارك، وهو ما حدث بالفعل.. ولن أختم كلماتى هنا إلا بعد تمجيد الإنسان المصرى البسيط الذى يقاتل ولا ينتظر أجرا من أحد ولا من القيادة.. يقاتل من أجل نفسه وبيته وبلاده.. أقولها صادقا وبلا شعارات.

 ما المشهد أو التجربة العالقة بذاكرتك من تلك المرحلة ولا تنساها؟

أجدنى مدفوعا لأن أقص ذلك المشهد أو تلك التجربة.. حيث تم حصار المستشفى بعد الثغرة لمدة 5 أيام، وتربصت قوات العدو بسيارات الإسعاف والمياه والتعيين، سواء الداخلة إلى الوحدة أو الخارجة منها.. وأصبح من المستحيل تقديم الخدمات الطبية المناسبة، فضلا عن الحاجة إلى الطعام والشراب لأفراد المستشفى (90 فردا بين جندى وضابط- و20 مصابا) ومع قرار القيادة الأعلى بضرورة ترحيل المصابين إلى مدينة السويس عن طريق جبل عتاقة، وانسحاب أفراد المستشفى.. ومن ثم تنفيذ الأمر حتى كانت الساعة التاسعة ليلا، وفى ظلام ليلة صحراوية من غير قمر، انتبه القائد إلى 8 من الشهداء، وبالفعل نادانى ولما استفسرت منه فى الظلمة عما يريد قال: "ندفن الشهداء".. وفورا انتبه رقيب طبيب أسنان بطرس وجندى أحمد وأعلنا فورا مشاركتنا فى دفن الشهداء.. وفور دفن الجثمان كان بطرس وقائد المستشفى يرددان "أبانا الذى فى السموات" لأنهما مسيحيان، وأنا وأحمد نردد الفاتحة.. بينما لا نعلم إن كان الشهيد مسلما أم مسيحيا، لأن لوحة بيانات الشهداء جمعت فور الاستشهاد معا فى وعاء عهدة قائد المستشفى، وخلطت معا، ولا يمكن بيان اسم وديانة أحد الشهداء.. هكذا كانت الدماء المصرية من أجل مصر وحسب.

 إلى أى مدى كانت صورة الحرب حاضرة فى أعمالك؟

منذ سنتين يراودنى خاطر كتابة رواية عن أكتوبر 73، أو بالأحرى عن تجربتى فى الحرب.. وهى فكرة قديمة أخشى الاقتراب منها خوفا من أن تتغلب التسجيلية على النص.. ولما عزمت حرصت كل الحرص على تجاوز التسجيلية المباشرة وفضلت التسجيلية الفنية، حيث أوظف عناصر الواقع برؤية جديدة قدر الإمكان أو برؤية معينة لتوصيل فكرة ما، وليس توصيل العنصر الواقعى هذا.. سواء كان مكانا أو حتى شخصية قابلتها وتصلح لبناء شخصية فنية. وكانت رواية "حصار الحمام الأبيض" التى صدرت منذ أسبوعين تقريبا.

 ما أهم ما ترصده فى هذه الرواية؟

رصدت تجربة الحصار التى أشرت إليها سلفا، ورصدت الكثير من الشخصيات التى قابلتها وعرفتها عن قرب فى وحدتى العسكرية.. ومع ذلك ومع كثرة ما كتبت حول تجربة أكتوبر، هناك بعض الأعمال لم تكن معى أو فى وحدتى، ولكننى كنت على مقربة من أحداثها، مثل ما سجلته فى رواية "السمان يهاجر شرقا" التى تناولت تجربة صمود "الكتيبة 626 مشاة"، التى عبرت القناة أمام موقع حصن كبريت الإسرائيلى، وعلى الرغم من كونه من الحصون المدججة بالأسلحة المختلفة من الخفيفة وحتى الدبابات، إضافة إلى اشتراك سلاحهم الجوى والطائرات، ومع ذلك انتصر العقيد إبراهيم عبدالتواب وصمد مع رجاله حتى 23 يناير 1974، بالرغم من الغارات الجوية والطلقات المدفعية التى لم تهدأ يوما.. وطلب القائد قبل وقف إطلاق النيران بيوم واحد من الرائد عبدالله أن يدفن تحت قدمه، حيث كانا فى موقع متقدم من المنطقة المحيطة بالحصن، وقبل ساعات قليلة من وقف النيران استشهد العقيد ودفن حيث أوصى ملفوفا بعلم البلاد. وهناك العديد من القصص التى رصدت التجربة الحربية فى أكتوبر.

 ماذا تركت فيك الحرب من آثار نفسية؟

الحروب شرور بكل تأكيد، وفيها من المآسى الكثير، وهو ما يمكن أن يصيب الجندى بقدر غير هين من الألم حتى مع تحقق الانتصارات..  ومع ذلك تبقى للحروب ميزة تأكيد الانتماء وتحقيق الذات الجمعية.. ولا أكشف سرا إن قلت إننى أثناء المعارك قررت ألا أنتبه للعواطف وأن علىّ تنفيذ الواجب ولا أفكر فى مدى مصداقيته.. ربما بعد أن وضعت الحرب أوزارها كانت الرغبة فى البحث عما حدث؟ وبالفعل كتبت عددا من القصص القصيرة عام الاحتفال بمرور 25 سنة على الحرب، وشكلت نصف مجموعة قصص بعنوان "عودة العجوز إلى البحر".. وألاحظ الآن أننى لا أتمنى المشاركة فى التجربة ثانية، ويكفينى ويكفى جيلى ما تحقق.

 قبل العبور.. هل كنت تتوقع تحقيق النصر؟

الجندى فى ميدان المعركة لا يفكر فى الأهداف البعيدة ولا المثل العليا ولا الموت.. الجندى فى ميدان المعركة يدافع عن الحياة، عن حياته وحياة الآخرين.. فى أشد المواقف وأكثرها خطورة لا يفكر أنه فى محل الخطر وسوف يموت.. تلك هى الحالة النفسية التى كنت عليها وكان زملائى عليها.. وبتلك الحالة دخلنا المعركة، ونحن على شك أن المعركة لمدة 72  ساعة من بداياتها.. تفاصيل كثيرة مارستها القيادة السياسية والعسكرية للتمويه وإفهام العدو أننا فى مناورات الخريف السنوية.. وبالفعل وصل الأمر أن فهمنا نحن جنود الجبهة أننا لن نحارب حتى كانت المفاجأة. وكثيرة هى أشكال التمويه التى مارستها القيادة السياسية والعسكرية، مثل تسريح أهم عناصر الجيوش، وسفر مسؤلين كبار فى الدولة إلى بلاد عربية وغير عربية قبل وبعد 6 أكتوبر، والإعلان عن عمرة للضباط وغيره كثير. كل ما سبق جعلنا نحن أنفسنا نتشكك فى اندلاع الحرب أصلا، أما السؤال عن النصر أو الهزيمة فلم يكن مطروحا من جذره.

 هل زملاء الحرب والميدان والشهداء يحتاجون لتعبير أكبر عنهم؟ وهل الحكى عنهم لابد أن يكون مبنيا على تجارب واقعية؟

الحديث عن الأصدقاء والشهداء والأحداث التى شكلت تجربة الحرب فى أكتوبر يعد ذخيرة الشعوب لو انتبهنا إلى ذلك، حتى الأمس القريب وإلى الغد الأمريكان ينتجون أفلامهم عن انتصارهم فى العراق وفيتنام واليابان.. إنهم يخاطبون الأجيال الجديدة، ويصنعون تاريخا كى يرتبط الناس بالأرض والبلاد والدفاع عنها وقت الحاجة.. أما السؤال عن كون تلك الحكايات والأحاديث حقيقية أو مفتعلة، فتجارب الحروب فيها من الصراع والتناقض ما يجعلها قصصا أكثر إثارة مما يظنه البعض.. التجارب الواقعية فيها الكثير، سواء فى حروبنا أو حروب غيرنا.. ففى الحروب تبدو كل السلوكيات بلا رتوش وجلية.. الجيد منها والسيئ، وأنا ضد افتعال أى قصص أو حكايات.

 من أهم الذين كتبوا عن حرب أكتوبر وأهم ما قرأت من كتب عنها؟

كثيرون كتبوا عن حرب أكتوبر، ومع كل مرة أسجل فيها بعض الأسماء يبلغ الغضب مداه عند البعض الآخر الذين لم أذكرهم، وحقا أقول إنها تجربة جيل كامل شارك فى المعارك أو حضرها فى قريته ومدينته، وكم ما صدر كثير، ولذلك ليس هناك أفضليه حتى يقول النقد والباحث كلمته.

 هل تعكس أغانى أكتوبر ما عاشه جيلك وهل مازالت تتذكرها؟

نعم.. لعبت الأغنية دورا لا ينسى، لاعتبارات كثيرة أولها أن الراديو الصغير أو الترانزيستور الذى اختفى الآن كان بوابة الجنة إلى عالم المدينة والقرية.. وثانيا الأغانى بكلماتها الصادقة وألحانها الجذابة وأصوات المطربين الذهبية جعلت من الأغنية العزاء، وخصوصا أثناء فترات الخدمات الليلية فى الصحراء الباردة.. يكفى أن صوت شادية "الدلع" جعلنا نحب أغانيها الوطنية كما أغانى العشق والهيام.. وأكيد أتذكرها وأتمنى سماعها حتى اليوم.

Katen Doe

هانم الشربينى

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

المزيد من ثقافة

قصة مصورة - مدد

مرة فى السنة، من السنة للسنة، يعود زحام الحب، والتحام الأجساد المُحبة، والتصاق الأرواح الباحثة عن باب للخلاص من سجن...

قراءة مختلفة لإبراهيم عبد العزيز فى أحدث إصداراته عن "أزمة المثقف المصرى"

كيف تحولت صداقة هيكل والحكيم إلـى الخصومة والتراشق بسبب عبد الناصر / الحكيم قال: لو كتبت عودة الوعى فى عهد...

الضحايا المنسيون للحروب

يصابون بأمراض نفسية خطيرة منها «اضطراب ما بعد الصدمة»/ بعد الحرب يشعر الإنسان بما يسمى «اليقظة المفرطة» / خبراء نفسيون:...

مدينة طربول تعيد توطين الصناعة في مصر
  • الأربعاء، 06 ديسمبر 2023 08:52 م