«تغريبة القافر».. رحلة أسطورية عـن سخرية «الماء» من آلام العطاش

من بين كل ما قرأت من روايات عربية وأجنبية تبدو رواية "تغريبة القافر" للشاعر والروائى العُمانى زهران القاسمى،

 والحاصلة ـ قبل أيام ـ على الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر"، فى دورتها الـ16 فى أبوظبى وكأنها ملحمة شعبية بطلها الأول هو الماء، بكل ما له من تأثير شامل على حياة البشر، أكثر من كونها قصة عن العطش الإنسانى فقط، بحيث بدا الماء بطلاً للرحلة لكنه بطل عالق فى السماء، عالق فى المشيئة الإلهية إن صح التعبير، بينما ظهر الإنسان كأنه صدى لهذه الرحلة ورد فعل عاجر لها، الكائن الذى لا بد أن يعيش تغريبته الوجودية بحثاً عن الماء الكامن تحت الأرض.

لقد دخل الماء عصبَ الحياة الدينية والأسطورية للبشر قديماً، ويطمح نص "تغريبة القافر" إلى إعادة النظر فى القيمة الكبرى التى احتلها الماء فى السرديات الدينية والأسطورية فى الثقافة الإنسانية القديمة، لقد كان هناك دائماً آلهة للماء فى كل الثقافات القديمة تقريباً، وفى أسطورة الخليقة البابلية يجرى خلق الإنسان عن طريق خلط الماء والتراب مع دم إله شرير كان فى جيش "الآلهة تيامت"، وفى الأساطير المصرية كان يجرى خلق الإنسان من دموع الإله رع" التى هى نوع من الماء الإلهى الخاص، والتى تتساقط على الهضبة البدائية "بن بن" فيظهر منها البشر".

من "ماء الطقوس" إلى "ماء الحكمة" استمرت أسئلة الناس عن المنابع وفى الثقافة العربية المعاصرة يشار إلى الخلل الثقافى الذى يعانى منه بلدان الخليج العربى بسبب التناقض بين أموال النفط الغزيرة والنقص الفادح فى المياه، بينما يعدّد الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش فى كتابه "ذاكرة للنسيان" تسعة وتسعين اسماً للماء فى اللغة العربية ليذكرنا بماضينا مع العطش، ويبدو أن زهران القاسمى يحاول استعادة جزء من هذا الحضور الأسطورى الفذ للماء فى وجداننا.

إن معظم الأساطير العربية القديمة تزخر بمشاهد مؤثرة عن رجال يهيمون فى الصحراء بحثاً عن إبلهم الضالة فتقودهم أقدامهم إلى مدن مسحورة هى نقيض هذه الصحراء، ورغم أن مسرح أحداث "تغريبة القافر" هو قرية عُمانية معزولة وسط الجبال تدعى "المسفاة"، إلا أن السؤال الأهم فى الرواية هو البحث عن تأثير الماء فى الطبيعة والبشر، لا بحثاً عن مدينة أشجارها من اللؤلؤ وبيوتها من الذهب مثل "إرم ذات العماد" التى ألهبت الخيال الأسطورى العربى قديماً، وإن كان المجتمع الصحراوى المحروم هو الدافع فى الحالتين، فى الأسطورة والرواية، فالقرية هنا مجتمع شبه بدائى يعيش وسط الجبال على أرض قاحلة، يشملهم الماء بالتعاسة إذا غاب ويمدهم بكل سبل الحياة والعطاء إذا حضر، وبالتالى يكون من الطبيعى والمنطقى أن يمثل أحد مقتفى أثر الماء فى مثل هذا المجتمع دور "البطل الدرامى" الذى يجسد محور الأحداث، وهو سالم عبدالله بن غانم، أو"القافر"، الذى تستعين به القرى المجاورة فى بحثها عن منابع المياه الجوفية، لأنه يعرف الينابيع المطمورة والأفلاج ـ جمع فلج ـ التى هدمتها السيول، وهى موهبة استثنائية لا يُنظر إلى صاحبها فى مجتمع الصحراء إلا كـ "نبى".

ما أقصده هو أن هذه الموهبة الاستثنائية للقافر ـ فى الاستماع إلى نبضات الأرض وصوت المياه يزحف من تحتها ـ هى التى صنعت منه شخصية أسطورية فى مجتمع آفته العطش، الأمر الذى جعل من رحلته موضوعاً مقدساً لنشر رسالة الماء فى كل مكان، كأنه نبى هذا المكان ونبى كل الأزمنة التى يعيشها أهل الصحراء، إن أسطورية القافر داخل مجتمعه تأتى تماشياً مع الثقافة الشفاهية السائدة، ويبدو بديهياً أن يكون البطل ممسوساً ومتهماً وممتحناً فى رجاحة عقله، مثلما اتهم كل أنبياء الصحراء بداية دعوتهم الناس، إلا أنه سرعان ما يثبت أنه على حق، وسرعان ما تتكشف أمام القارئ درجة أسطوريته فصلاً بعد آخر، وحتى السطر الأخير أنت فى انتظار نهاية أسطورية ملائمة لهذا البطل المغوار.

 البطل الأسطورى

من جانبه عامل الكاتب زهران القاسمى بطله "القافر" أو سالم عبدالله ود غانم معاملة أسطورية تليق به وبمواهبه، فقد كتب سيرته بلغة عربية بسيطة مطعَّمة بمفردات من عامية العمانية ليثبت شيئا من واقعيته، من أجل أن يكتب سيرة أحد الأولياء الصالحين، أو أحد أبطال السير أو الملاحم الشعبية، ومنذ لحظة ميلاد بطله فى الماء وحتى لحظة رحيله فيه، حرص زهران القاسمى على تسويغ حياة الشاب المتلهّف منذ الطفولة للاستماع إلى صوت المياه، كأنه قديس لا يخطيء فى مجتمع محافظ، حتى حين يحب يكون عفوفاً وحتى حين يتزوج حبيبته "نصرة بنت رمضان"، لا يقدم على أى فعل يشتم منه ضعفه أو إنسانيته، ربما أراد زهران منا أن نصدق أسطورته بأن حصن بطله من كل خطيئة.

أمضى سالم (يذكرنا اسمه بالزير سالم بطل السيرة الشعبية العربية الشهيرة) حياته بين بئرين عظيمين للموت، بئر ماتت فيه أمه "مريم بنت حمد ود غانم" وهى تلده فى البداية، وقناة مائية صغيرة "بئر أخرى" مات فيها هو نفسه آخر الرواية، والماء فى الحالين قاتل، لكنه هدف مشروع يبحث عنه الجميع خلال أحداث الرواية، الماء هنا يقتل أبرز شخصيتين روائيتين ويترك الباقين يبحثون عن قطرة ماء طوال أحداث الرواية، التى تبدأ بمولد البطل سالم، وهو ككل الأبطال الأسطوريين يولد فى حادث استثنائى، حيث أصيبت أمه وهى فى أواخر حملها فيه بمرض جعلها تعشق البقاء تحت الماء فظلت قابعة لفترة طويلة تحت ماء البئر "طوى لخطم"، الذى يشرب منه الناس، ليولد البطل حياً عند البئر من جسد أم ميتة، يولد أمام الناس بعدما شقوا بطن أمه الغريقة ليخرج هذا الولد الذى ظل يحصد الشفقات والتندهات واللعنات أينما حل، ومنذ هذا الميلاد الاستثنائى أصبحت لدينا ما يمكن تسميته فى السير الشعبية مرحلة "النبوءة"، فلا يوجد بطل لسيرة شعبية لم يرتبط ميلاده بنبوءة ما، ترتبط بوجوده وتحدد مصيره وترسم له الدور الذى سيلعبه طوال أحداث السيرة.

ما أريد قوله هو أن الماء يبدو مقدساً على نحو ما فى هذه الرواية، حيث يحتوى كل التناقضات التى يتطلبها كل مقدس فى علاقته بالإنسان: قاتل ومنقذ، مقدس ومدنس، فأحياناً يكون الماء فى قمة الغضب حين تهطل الأمطار سيولاً فيلجأ الناس إلى كهوف الجبال للاختباء من خطره الذى يهدم البيوت ويخفى الآبار ويغير معالم المكان مثل إعصار، وأحياناً يكون رقيقاً وعذباً وناعماً مثل العصفور، يتدفق من العيون والمياه الجوفية بهدوء وثقة، يروى الأرض ويلوّن الأشجار ويطعم الناس ويطهّر أجسادهم، وقد استخدم الكاتب شاعريته العالية فى كثير من المقاطع التى تصف الحياة الإنسانية البسيطة التى يعيشها الناس بحثاً عن الماء.

الحق أن الرواية تعتمد على لغة شاعرية ذات إيقاع هادئ وجمل قصيرة وتعبيرات تتوسل بأبسط الأساليب وأكثرها قدرة على التعبير، وكل ما يمكن قوله فى حق هذه اللغة الجميلة التى تتميز بها "تغريبة القافر" هو أنها ابنة تجربة كاتبها فى المقال الأول بكل تأكيد، فهو شاعر عمانى معروف قبل أن يكون روائياً، كما أنه ينتمى إلى الثقافة العمانية ذات التاريخ الأدبى غير القصير، وقد عرفنا أجيالاً من المبدعين العمانيين فى قصيدة النثر والرواية كما فى القصة القصيرة، وقد قدمت الثقافة العمانية الكثير من الأسماء الأدبية المهمة مثل: الشاعر الكبير سيف الرحبى رئيس تحرير مجلة "نزوى" الثقافية، وجوخة الحارثى أول عربية تحصل على جائزة "المان بوكر" العالمية عن روايتها "سيدات القمر" بعد ترجمتها إلى اللغة الانجليزية، ومثل الروائى الكبير الراحل على المعمرى، والكاتبة والصحافية هدى حمد وغيرهم كثيرون.

يشار إلى أن زهران القاسمى شاعر وكاتب عمانى من مواليد 1974، أصدر من قبل سبعة كتب شعرية هى "أمسكنا الوعل من قرونه" 2006، ثم توالى بعدها "الهيولى"، "أغنى وأمشى"، "يا ناى"، "الأعمى"، "موسيقى"، "رحيق النار"،  سردياً أصدر  القاسمى "سيرة الحجر1"، "سيرة الحجر 2"، "جبل الشوع" رواية، و"القناص رواية"، وصدرت أعماله بين عدة عواصم عربية هى: المنامة ومسقط وبيروت ودمشق والقاهرة.

 لا تلوموا «البوكر»

بعد أن هدأ الغبار الذى يسببه إعلان الفائز كل عام بالبوكر أعتقد أننا أصبحنا قادرين الآن على التنبؤ بالمسار المحلى الذى تفضله لجنة تحكيم الجائزة فى روايتى العامين الأخيرتين على الأقل، لقد أصبح الميل واضحاً ـ وربما كان فى جانب منه مشروعاً ـ إلى تقديم عوالم متعددة من خريطة جغرافية موسعة للرواية العربية، بإنجاح روايات ـ صدرت عن دار "مسيكيليانى" فى العامين الأخيرين ـ تقدم مسوحاً اجتماعية لمناطق ومجتمعات بعيدة ومحلية طرفية "شبه معزولة"، تقع على هامش الثقافة العربية لوضع هذه الثقافات "شبه المعزولة" فى المتن، بديلاً عن أن تقدم الجائزة للكتابة الأكثر جودة وتجريباً وجرأة، بغض النظر عن جغرافيتها أو طموحها الهويَّاتى، وهو أمر نرصده من دون أن نتوقف أمامه.

 ففى العام الماضى أدت جريمة قتل ـ مكتوبة بطريقة كلاسيكية ـ فى منزل صانع خبز فى إحدى المدن الليبية غير القريبة من العاصمة "طرابلس" إلى فوز رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" للكاتب الليبى الشاب محمد النعاس بالبوكر، على حساب روايات أخرى ربما كانت أكثر جودة وتجريباً وتجديداً، بينما فازت بها هذا العام رواية يبدو موضوعها هو الماء وثقافته وطرق البحث عنه فى الصحراء، مكتوبة بأسلوب روائى بسيط وشيق، له ماله من مزايا، على حساب روايات أخرى ربما كانت ـ فأنا لم أقرأ أغلبها ـ أكثر تجريباً وتجديداً وجرأة.

طبعاً لا يمكننى أن ألوم الجائزة لأن القاعدة تقول "كل واحد حر فى ماله"، وعلى كل الغاضبين من نتائج جائزة أدبية ما فى بلد عربى ما، أن يتكاتفوا ليؤسسوا جائزة أدبية أكبر وأعظم منها فى أى بلد عربى آخر، وأن يكون طموحهم هو تجاوز الأخطاء التى وقت فيها لجنة تحكيم تلك الجائزة التى لا تعجبهم، لأن كل جائزة من حقها أن تتبع الطريقة التى تدير بها أعمالها، طالما أعلنت شروطها مسبقاً وقبلها المشاركون.

أقول ذلك وأذكر نفسى وإياكم بالقاعدة الخالدة التى تقول إن معظم الأدب العظيم لم يتخذ لنفسه مسارات الجوائز أبداً، بل العكس هو الذى حصل فعلاً فى كثير من الأحيان، وما يعرفه الجميع أن أغلب العلامات الأدبية الكبرى فى تاريخ الأدب العالمى لم تحصل ـ أصلاً ـ على أية جوائز، بل إن كثيراً من الأدباء والشعراء العظام الذين غيروا خرائط الإبداع فى بلدانهم واجهوا ألواناً شتى من العنت والشقاء والنفى والسجن وفقدان الجنسية، ودفع كثير منهم حياته ثمناً لما كتبوه من أدب عظيم، ولنا فى الأدب الروسى خلال القرن العشرين عديد من العظات والعبر.

Katen Doe

محمود خير الله

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

المزيد من ثقافة

قصة مصورة - «تعسيلة » قبل الأتوبيس

هنا، محطة انتظار أتوبيس.. الدكة موجودة للمنتظرين، فى الظل، كى لا يقفوا كثيرا تحت الشمس اللاهبة.. كل هذا طبيعى ومتوقع،...

أمنية صلاح: «كف المسيح» معنية بتشريح الإنسان وعلاقته بنفسه ومجتمعه

خرجت من المنطقة الآمنة التى تفرضها علينا انتماءاتنا الفكرية والعقائدية/ الأديبات لسن ضحايا لأحد.. وعليهن الابتعاد عن التقوقع حول كتابة...

محمد فرج.. فى انتظار الأمـل.. «شىء ما أصابه الخلل»!

ثقافتنا العربية هضمت روح التجريب فى القصة أكثر من الرواية/ الكاتب يهدى المجموعة «إلى الكازين على أسنانهم أثناء النوم»/ «ألف...

د. رانيا يحيى : حصولى على جائزة التفوق فى الفنون تاج على رأسي

الدكتورة "رانيا يحيى" واحدة من أهم المبدعات فى مجال الموسيقى، وهى كذلك مهتمة بقضايا المرأة، لذلك عينت عضوا بالمجلس القومى...