الميزة التى ينفرد بها المنشاوى عن كبار المقرئين

مـــن أهــــــم المزايـــــــا التى جرى بها تسويق مدرسة القرآن الخليجية والترويج لمقرئيها فى مصر (خاصة الحذيفى والسديس)، هى أن أصواتهم تتميز بالخشوع والشجن، فكانوا
مـــن أهــــــم المزايـــــــا التى جرى بها تسويق مدرسة القرآن الخليجية والترويج لمقرئيها فى مصر (خاصة الحذيفى والسديس)، هى أن أصواتهم تتميز بالخشوع والشجن، فكانوا كمن أراد أن يبيع المياه فى حارة "السقايين" كما يقول المثل الشعبى، لأنهم جهلوا أو تجاهلوا أن لدينا الأصل الذى قلده وتأثر به وسار على نهجه كل المقرئين الذين جاءوا بعده ممن انتموا لمدرسة الخشوع والشجن، فهو الأستاذ والمعلم وناظر هــــــذه المــــدرسة.. واسمـــه محمد صديق المنشاوى.
إنه الصوت الخاشع الذى يضرب به المثل، والذى يجتمع فيه العذوبة والقوة والحنان والحزن والخشية والطــــمأنيــــــنة والدفء والشجن والإحساس المتدفق، والذى قيل عنه: إنه الصوت الآواب الذى يقول لك اجلس، فإن ها هنا قلبا يتكلم بالقرآن، ولن يكون حالك بعد السماع مثل حالك قبلها أبدا، إنه ينثر فى حقول الصدور بذور الآخرة " وقيل فيه: صياد القلوب ومُبكى العيون.
إنه مزمار القرآن، الذى تنساب منه الآيـــــــــات فتجلى الأرواح وتشفـــى الصدور وتغسل العيــــون وترقق القلوب، ولك أن تتخيل هذا المشهد المهيب الذى حدث ذات ليلة من عام 1955 فى دولة أندونيسيا، فقد احتشد آلاف المستمعين لسمــــــاع المقرئ المصرى الذى جاء إليهم بدعوة من الرئيس أحمد سوكارنو، ولما بدأ صوت المنشاوى ينساب كنهر عذب متدفق، فإنه هز القلوب فوقف أغلب الحضور احتراما للصوت، وسحرهم خشوع الصوت وطلاوته وشجنه، فانسابت دموعهم تأثرا، ونزلت دموع المنشاوى تفاعلا!
إنه الصوت الذى قال عنه الشيخ الشعراوى: من أراد أن يستمع إلى خشوع القرآن فليستمع إلى المنشاوى ووصفه كاتبنا الكبير محمود السعدنى بأنه فى حلاوة التين البرشومى!
إنه ريحانة المقرئين، فخيم النبرة، شامخ الصوت، صادق النغمة، متمكن الأداء، قطب التلاوة الذى على صوته يجتمع السميعة، وبينهم من وصل به عشق الصوت واستبد به حتى قال: إنه يقرأ الآيات كما قرأها جبريل على قلب محمد!
(1)
باختصار.. أنت أمام واحد من العلامات الكبرى فى دولة القرآن المصرية، رغم أنه كان أقصرهم عمرا، إذ رحل قبل أن يكمل الخمسين، لكنه استطاع أن يكون صاحب مدرسة وطريقة، حاول كثيرون تقليدها، بل إن بعضهم بنى نجاحه على ذلك الشبه الذى يجمعه مع صوت وطريقة المنشاوى، لكن نجاحهم ظل محدودا وخافتا، ولمعوا كالشهب ثم انطفأوا سريعا (كان أبرزهم الشيخان صلاح شمس الدين ومحمود أبو الوفا الصعيدى)، وذهب المقلدون وبقى الأصل، وهو القانون السارى الذى لا تتغير نتائجه مع كل العلامات الكبرى من أصحاب الأصوات العظيمة فى المقرئين والمطربين، توارى المقلدون ولم يبق إلا محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبدالبــاسط.. وإلا عبدالوهـــــــــاب وفيروز وأم كلثوم .. مع حفظ الألقاب والمقامات.
وبمنــاسبة أم كلثوم، كان الشـــيخ المنشاوى من محبى صوتها كعادة كل المقرئين العظام، وقد سُئل الشيخ عن أحب المطربات إلى قلبه، فاختار أم كلثوم بلا تردد ، واختار قصيدتها "ولد الهدى" كأحب أغانيها إلى قلبه، يومها (أكتوبر 1955) كان الشيخ فى الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن قد مر سوى عام واحد على اعتماده بالإذاعة مقرئًا، وحسب البيانات التى أملاها على محرر مجلة "الإذاعة" فى باب "فى برامج اليوم" الذى يورد بعض المعلومات عن قارئ السهرة فى الإذاعة، فإن طوله 170 سنتمترا ووزنه 75 كيلو وله من الأولاد خمسة، وهوايته هى المشى على الأقدام، وأحب متحدث فى الإذاعة إلى قلبه د.طه حسين، وحكمته المفضلة: الحلم سيد الأخلاق!
لكن المعلومة الأهم التى لم ترد فى هذا الباب، هى أنه امتلك ذكاء نادرا لولاه لظل محمد صديق المنشاوى مجرد مقرئ مجتهد لا يتخطى صيته محافظات الصعيد، تماما كوالده الشيخ المنشاوى الكبير، وكان واحدا من جيل الرواد فى مدرسة القرآن المصرية وعاصر آباءها ومؤسسيها مثل أحمد ندا ومحمد سلامة ومنصور بدار ومحمد رفعت، وكان مولده فى العام الأخير من القرن التاسع عشر، وامتد به العمر حتى قارب التسعين (رحل 1988)، ورغم موهبته الكبيرة وما حققه من صيت فى الصعيد كله من بنى سويف إلى أسوان، إلا أن صيته ظل محليا ولا يعرفه إلا أبناء الصعيد، ورفض بشدة أن ينتقل للقاهرة بل رفض أن يكون مقرئا معتمدا بالإذاعة، وأنجب ثلاثة أبناء نذرهم كلهم لخدمة القرآن وتلاوته، أكبرهم "محمد" (مواليد1920) وأوسطهم "محمود" (مواليد1942) وأصغرهم "أحمد" الذى توفى وعمره 19 سنة فى حادث عبثى بعد سقوطه من "البلكونة".
وكان المنشاوى الكبير هو المعلم الأول لأولاده، بل ومثلهم الأعلى، فقد كان صاحب مدرسة وطريقة أداء خاصة جعلته مقرئ الصعيد الأول بلا منازع، وبلغ من المكانة هناك أنه قيل: من لم يقرئ الشيخ المنشاوى فى مأتمه فكأنه لم يمت! وكان الشيخ زاهدا، يرضى بالقليل، وعلى قناعة بأن قراءة القرآن رسالة وليس وظيفة وأكل عيش، ورفض إغراءات الشهرة فى القاهرة، وكان شعاره الدائم : أنا لا أخرج من الصعيد.. ولا الصعيد يخرج منى.
وكان السيناريو المتوقع أن يعيش محمد صديق المنشاوى فى جلباب أبيه، يقلد طريقته ويرث عنه عرش المدرسة "المنشاوية" فى الصعيد، لكنه اختار السيناريو الأصعب، وقرر المنشاوى الابن أن يصنع لنفسه طريقة ومدرسة، وأن يرفع سقف طموحه من عرش الصعيد إلى عرش مدرسة التلاوة فى مصر، بل فى العالم الإسلامى كله، وكان لديه من الذكاء والطموح والموهبة والحضور ما يؤهله لذلك، خاصة بعد أن صقل موهبته الساطعة بالعلم، فدرس علم القراءات وأتقنها، كما أتقن المقامات الموسيقية حتى ولو لم يدرسها عمليا، ودرس عظمة وأسباب تفرد "الأكابر" الذين سبقوه فى دولة التلاوة، وكان أحبهم إلى أذنه وقلبه محمد رفعت وعبد الباسط وطه الفشني، لكنه لم يقلد أحدا منهم، وصنع لنفسه هذه المدرسة المنشاوية الفريدة التى سُجلت باسمه.. وذاع صيتها وعبيرها وتأثيرها فى العالم الإسلامى كله.
(2)
يميز صوت المنشاوى – بجوار الخشوع والشجن والعذوبة – هذا الأداء المتمكن السهل، المنساب، الفخم، العارف بفنون الأداء والقراءات والمقامات، بل كان يصل فيها إلى حد الإعجاز، ويمكنك أن تعود إلى هذا التسجيل الذى لا تزيد مدته عن نصف دقيقة، ويقرأ فيه تلك الآية الكريمة من سورة "الروم" : الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم "، ففى آية واحدة، وفى ثوان معدودات تكتشف أن المنشاوى قد قرأها بقراءات القرآن العشر!
ثم أنه يقرأ – كما يقول أهل الاختصاص – بميزان إلهى ، لا يشذ ولا يطفف فى حركة أو غُنة أو مد ولا يخرج صوته عن قضبان نغماته.
ومما تفرد به الشيخ المنشاوى – كما يقول العارفون كذلك - مسألة التنقل بين المقامات من درجات صوتية متقاربة.. فمثلا لم نسمع منه الكثير من القرارات فى التلاوة.. فلم يكن يحتاج للتنقل بين درجات المقام للوصول إلى مقام آخر.. بمعنى أن الشائع أن القارئ لكى ينتقل من الصبا للنهاوند مثلا يحتاج للركون إلى قرار الصبا ليدخل منه إلى النهاوند .. أما الشيخ المنشاوى فكان صاحب قدرة كبيرة على التنقل بين المقامات من درجة المقام الذى انتهى به دون الحاجة إلى "حسابات" وهذا مرده مرونة الصوت وقدرة على التنقل بين المقامات من نفس الطبقة الصوتية أو طبقات صوتية قريبة جدا دون أن تشعر بأى مشكلة فى الأداء.. ولو ظل يأتى بنفس طبقة الصوت مرارا وتكرارا فلن تمل من ذلك.
ورغم أنه كان يتمتع بصوت شجى وحنون وخاشع، فإن ذلك لا يعنى أنه كان ضعيفا أو محدودا، بل العكس هو الصحيح، فقد كان الشيخ المنشاوى يمتلك صوتا قويا واسع المساحة ينتمى بالمقاييس العلمية إلى نوع "الباريتون" وهو من أقوى الأصوات الرجالية وأعمقها، ومن المرويات فى سيرة الشيخ أنه كان يقرأ فى سهرة بمحافظة المنيا، وأراد أحد مقرئى المحافظة أن يضع المنشاوى فى موقف محرج، يكشف فيه ما ظن أنه ضعف فى صوته، فعقد صفقة سرية مع العامل المسئول عن الميكرفون فى الصوان، بأن يقوم بإفساد مكبر الصوت ويخبر الشيخ قبل ثوان من القراءة بأن هناك عطلا يستحيل إصلاحه، وعندها يضطر الشيخ للقراءة بدون ميكروفون فى هذا الصوان الواسع وبحضور هذه الحشود فينكشف أمره هكذا ظن المنافس الساذج، ورغم أن العامل استيقظ ضميره وهمس فى أذن الشيخ يخبره بالمؤامرة التى تحاك ضده، فإنه فوجئ بالشيخ يطلب منه أن يواصل "التمثيلية" وكأنه لم يخبره بشىء، وقرر ليلتها أن يرد على كل المشككين فى قوة صوته، وقرأ الشيخ بدون ميكروفون، بل قرأ واقفا ومتنقلا بين صفوف الحاضرين، ولأكثر من ساعة كان صوته يرج الصوان.. والقلوب، وينتزع آهات الإعجاب والانتشاء والطرب.
والحق أن صفة "الصوت الباكى" التى ارتبطت والتصقت بصوت المنشاوى تحتاج إلى تصحيح، فلم تكن الصفة دقيقة، والأقرب للصواب هو الصوت الخاشع، وكذلك المعبر عن المعنى، وكأنه يجسده ويرسمه بالكلمات، ويمكنك أن ترجع إلى أدائه المعجز فى الآيات الكريمة من خواتيم سورة (الفجر): " كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا. وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى. يَقُولُ يَا لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي".. فمع أداء المنشاوى وخشوعه تتجسد لك المشهد المهيب بكل تفاصيله. إنه يقرأ وكأنه يفسر، وهذا من أسرار عظمته وفرادته..
ويلخص لنا خبير الأصوات والمقامات والقراءات صفوت عكاشة صوت المنشاوى فى هذا التحليل العلمى، الذى نورده فى نقاط محددة:
• الشيخ محمد صديق المنشاوى هو رائد مدرسة الخشوع القرآنية، التى منحته مكانة خاصة بين عمالقة القراء وكتبت اسمه بحروف من نور فى دولة التلاوة، وكان فيها متأثرا بكل من والده الشيخ صديق المنشاوى والشيخين محمد رفعت ومحمد سلامة.
• وهو أيضا من مدرسة الأحكام المُحكمة فى التجويد ومخارج الحروف والقراءات المتواترة (السبع أو العشر).
• ويتميز صوته بأنه لا يحتاج إلى وقت للتسخين، فهو سلس ومرن ونقى، ويبدأ قراءته من مقام البياتى كباقى القراء، ثم ينتقل إلى أى مقام يتراءى له حسب معنى الآية التى يقرأها، ولا يلتزم بترتيب المقامات كما يفعل باقى القراء.. ولو شئنا تحديدا يمكننا أن نقول إنه كان مميزا فى مقام النهاوند والراست والسيكا.
• كان صوته فى قراره دافئا وحنونا يذيب القلوب.. وفى جوابه يحتفظ بكل الخشوع والروحانية.
• ثم أنه يمتاز بميزة ينفرد بها عن باقى القراء، وهى قراءته من أى موضع من القرآن الكريم ، حيث يجيد بنفس القدر فى كل موضع، مما يعنى أنه كان متعايشا مع القرآن الكريم فى كل وقت وحين.. ويذيب روحه مع كل ما يتلو..
(3)
من الأمور المبهجة والمطمئنة ذلك الاهتمام الشبابى الملفت بصوت الشيخ المنشاوى، وكأن الأجيال الجديدة تعيد اكتشافه بعدما فرضت عليها أصوات بدوية جرى تسويقها وفرضها على أنها سدرة المنتهى فى التلاوات الخاشعة والشجية، فإذا بالشباب يكتشف أن مصر قدمت للعالم الإسلامى قارئ مذهل لا يبارى فى الخشوع والشجن، بل هو الصوت الخاشع بصدق، بل إن من أسرار عظمته أن الله رزقه الإخلاص فى نيته، فكان الخشوع يسرى فيه مسرى الدم، وكأنه تجسيد حى للحديث النبوى الشريف: "أحسن الناس قراءة من إذا سمعتموه حسبتموه يخشى الله".
أخبار ذات صلة
المزيد من ثقافة
المستشار الإعلامي لجائزة الكتاب العربي : نستهدف التأثير في المشهد العربي
أكدت الدكتورة حنان فياض المستشار الإعلامي لجائزة الكتاب العربي أن الهدف الأسمى للجائزة هو إحداث تأثير عميق ومستدام في المشهد...
قصة مصورة - الكبير كبير
جرب أن تقف خلف القدم الحجرية الحافية، فقط القدم، لترى كل شىء متقزماً تحتها: البشر فى ضآلة نملات، والمكان الواسع،...
التحديات القانونية التى تواجه النساء فى مصر
يناقشها كتاب «الإطار القانونى للمرأة المصرية والأجنبية»
إيمان الزيات: السيكودراما والفنون.. علاجـات نفسية غير تقليدية
قدمت هذا الطرح فى كتاباتى الروائية والقصصية على مدار خمسة وعشرين عاما