عرض «رصاصة فى القلب» 2-2 كيف ضل توفيق الحكيم طريقه إلى المسرح القومى؟

يبدأ عرض «رصاصة فى القلب» على خشبة المسرح القومى من شاشة سينما تتصدر المسرح تعرض أسماء فريق العمل ثم تختفى وندخل إلى فضاء الحكاية؛
عيادة سامى، حيث يصدح الراديو معلناً عن تقديم رصاصة فى القلب تأليف توفيق الحكيم وإخراج مروان عزب، والمشهد التالى فى شقة نجيب وتقريباً سوف تكون فضاء الحكاية حتى نهاية العرض بعد أن اختصر المخرج جزءاً كبيراً من حوار توفيق الحكيم جعل بناء الحكاية منقوصاً.. وفى فضاء بيت نجيب ينطلق المخرج من مخيلته مع مجموعة من الاستعراضات والأغانى وقد ساعد الديكور الذى صممه فادى فوكية من مجموعة القطع الواقعية التى استلهم فيها روح تلك الحقبة من أثاث وحوائط وإكسسسورات وصمم ديكوراً من السهل تحويله وتفكيكة بسهولة حنى يتحول الواقع إلى حلم والعكس، ويستطيع التعبير أو قل تجسيد ما يدور فى مخيلة نجيب، ففى الفصل الأول حين يلتقى فيفى فى العيادة لأول مرة يتسع الفضاء وتتحرك قطع الديكور ليجد نجيب نفسه خارج حدود العيادة هائماً فى دنيا الحب، ثم يعود إلى الواقع، وتعود حدود المكان كما هى ويعود هو إلى الواقع المؤلم، وظنى أن هذا أجمل ما قدمه المخرج مع مهندس الديكور؛ هذه المسافة بين الحلم والواقع فى عقل نجيب.
العرض إعداد وإخراج وتمثيل وموسيقى وألحان وأشعار مروان عزب، وبالطبع لا بد أن نتوقف أمام هذه المفردات العديدة التى قدمها المخرج، وأنا لا أمانع أن يكون المخرج المسرحى متعدد المواهب، ولكن لا بد أن نتوقف أمام نقطتين، الأولى ناتج ما قدمه العرض، والثانية طبيعة المسرح القومى الذى يقدم العرض، فما قدمه المخرج أقرب إلى مائدة حافلة بأصناف الطعام المختلفة لكن جميعها نفس المذاق، بطعم واحد ناهيك عن جودة هذا الطعام لأن صانع هذه المائدة لا يجيد طهى كل الأنواع، وربما كانت التجربة تناسب مسرح الشباب أو مسرحاً من مسارح الهواة وليس القومى نعم المخرج قدم حلولاً جيدة للنص من خلال معالجة استطاعت تجسيد ما يدور فى العقل الباطن لنجيب وهى فكرة مناسبة ولكن فى عرض اعتمد على الغناء والاستعراض كان الشعر والموسيقى وأصوات المؤدين متواضعة جداً وضعيفة إذا قورنت بنص الحكيم أو حتى برؤية المخرج محمد كريم حين قدم رصاصة فى القلب للسينما واستعان بأربعة شعراء «إيليا أبوماضى - أحمد رامى، حسين السيد، مأمون الشناوى» مع موسيقى عبدالوهاب، الموسيقى فى عرض مروان عزب بلا شخصية، بلا ملامح، لا يمكن أن تحفظ منها جملة واحدة ولا تتفاعل معها وهكذا الأشعار... لماذا؟ ودون شك يحتاج هذا النوع من المسرح إلى نجوم وليست هواة، حتى لو كانوا من الصف الثانى، لأنها تحتاج إلى قدرات خاصة تجسد الحوار المثير والملتبس والذى يظهر عكس ما يبطن، ويبطن عكس ما يظهر، مشكلة العرض أنه فى المسرح القومى، فقد كان من الممكن التعامل مع هذا العرض أنه تجربة مختلفة لمخرج يقدم رؤية لهذا النص بعد ما يقرب من مائة عام على كتابته فيكتب الشعر ويضع الألحان ويؤدى دور البطولة ويغنى ويرقص ويضع تصوراً جديداً للنص من خلال الإعداد كيفما شاء ولكن ليس فى المسرح القومى!
فالعرض يبدو للمشاهد تجربة للهواة فى المسرح القومى، فليس هناك خصوصية للأشعار التى شاركه فيها أحمد الشريف أو الموسيقى والألحان والتى وضعها المخرج وقام بتوزيعها محمد حمدى رءوف، أشعار عمومية وأيضاً موسيقى عمومية أى تخلو من التميز أو الملمح الخاص، ففى اللقاء الأول تغنى فيفى «إنسان غريب وأغرب من الخيال / عاوزنى أقول له كل شىء وده محال» وفى نهاية الفصل الأول «احنا بقينا لبعض جدا ومش هيفرق بينا الناس» كلمات عمومية أقرب إلى البكائيات وموسيقى لا تحمل أى خصوصية، ما تميز فى العرض شخصية المخرج، حتى الإعداد جاء دون وعى فقيمة النص الذى تأثر بصيغة الفودفيل فى بناء الحبكة، تميز بالحوار الذكى، السهل والعميق والذى قال عنه توفيق الحكيم فيما بعد «لا تقف مهمته عند رسم الحوادث وتلوين المواقف، بل هو الذى يعول عليه أيضاً فى تكوين الشخصيات، فلابد لنا أن نعرف عن طريقه طبائع الأشخاص ودخائل نفوسهم، فهو الذى يجب أن يظهرنا على ما ظهر لنا منهم وما خفى. ما يفعلونه أمامنا وما ينوون أن يفعلوا، ما يقولون لغيرهم من الأشخاص وما يضمرون لهم فى أعماق النفوس» وهذه ملامح الحوار فى نص رصاصة فى القلب، ولنتأمل شخصية «نجيب» على سبيل المثال الذى لم يضع له الحكيم أوصافاً أو ملامح فى إرشادات مسرحية بل من خلال الحوار سواء بينه وبين فيفى أو مع صديقه سامى فهو يرد على الباب الذى يطالبه بحساب المكوجى «الحساب على وجه العموم / الأرض فيها حساب.. تنزل القبر تلاقى حساب، نطلع السما نلاقى فيها حساب.. ورانا فى كل حته، مفيش فايده أبدا ً» مرتبه خمسين ويصرف مائة جنيه، وحين تسأله فيفى يقول: المسألة عويصة ولا يمكنش حلها إلا إذا اخترعوا حساب جديد يمشى بالمقلوب غير الحساب اللى اوجده فيثاغورث»، فهو شخص بوهيمى وصديقه سامى براجماتى! شخص مثالى وصديقه مستغل وهذا التناقض جزء من البنية العميقة للحكاية بل تناقض حاد جعل فيفى تنحاز لنجيب،تنحاز للحياة الحقيقية التى تخلو من الحسابات والمصالح! أما فيفى فهى تجسيد حى لفتاة من طبقة الارستقراط انعكست ثقافتها على سلوكها سواء فى التحرر أو الجرأة فى اتخاذ القرار وانحيازها للقيم النبيلة، فهى تعبير عن تحرر المرأة وسفورها فى تلك الحقبة وليس فقط مجرد فتاة جميلة وثرية فهذه الملامح الظاهرة التى انحاز إليها الدكتور سامى أما نجيب فقد انحاز لجوهر الشخصية.. وأدت الدور فى الأيام الأولى «آية سليمان» وأصيبت فى حادث سير وحلت محلها بسمة ماهر وقد أتيح لى أن أشاهد الحالتين، آية سليمان تؤدى وترقص وتغنى فتشعر معها أنها فتاة قادم من ثلاثينات القرن الماضى أداء طبيعى كالماء والهواء، أما بسمة ماهر فقد أتقنت دورها فى وقت قياسى تستحق عليه التحية تؤدى وترقص وتغنى فتشعر أنها ممثلة من زماننا تؤدى دور فيفى لم تتخل عن إيقاع الحاضر، أما آية فقد ذهبت بكامل مشاعرها إلى زمن الحدث.
أما المخرج الذى قام بدور البطولة وأظهر مهارة كبيرة فى الاستعراض والغناء والأداء الحركى قدم الشخصية على أنها رومانسية تعيش فى كنف العواطف، فثمة أداء حالم، ربما يكون هذا ملمحاً من ملامح الشخصية ولكن كما ذكرت شخصية نجيب لا تخلو من طابع عدمى فى نهاية نص توفيق الحكيم يودع فيفى التى كانت له حلما جميلا َ عاشه ويكفى ولا يغنى لها كما فى عرض القومى أغنية تدعو للأمل ولا يبكى عليها «والحلم اللى ما فارق عينى والوجع اللى فى قلبى خلوا الدنيا فى عينى ضباب». فلم يعش نجيب الوجع والضباب بل تألم واستمتع بألم الحب! الأداء لا يختلف عن الأغانى البكائيات على الحب التى ازدحم بها العرض، بينما دل على شخصية نجيب الشاعر مأمون الشناوى من خلال أغنية «أنسى الدنيا وريح بالك أوعى تفكر فى اللى جرالك أنس الدنيا / ياللى دموعك لحبايبك / قل لى ابتسامتك تبقى لمين / أوعى الغرام يشغل قلبك ده لسه فى فى العمر سنين» أقرب إلى تحليل دقيق لشخصية نجيب.
أما الأدوار الأخرى ممثلة فى الممرض، والبواب وحتى المُحضر فكان الأداء مبالغا فيه وأيضاً لم يكن مؤثرا أقصد لم تتفاعل معه الصالة، أداء مفتعل، عرض «رصاصة فى القلب» تميز فيه المخرج ومهندس الديكور أما المفردات الأخرى فكانت تحتاج إلى مراجعة بما فيها وضع العرض فى خطة المسرح القومى الذى احتضن التجربة والذى لا تناسبه والتى كان من الممكن بما قدمه مروان عزب أن تذهب إلى مسرح الشباب أو مسرح الطليعة، ففى هذا العرض ضل توفيق الحكيم طريقه إلى المسرح القومى ليس بسبب الباعة الجائلين الذين يحاصرون منطقة المسارح فى الأزيكية تحت سمع وبصر المسئولين، توفيق الحكيم الأجدر بالمسرح القومى منذ أن قدمت له الفرقة القومية وافتتحت أعمالها رائعته «أهل الكهف» عام 1934 ومروراً بعشرات العروض التى قدمها هذا المسرح لرائد الأدب المسرحى، ولكن جعلوه بعد 90 عاماً يضل طريقه، فيمكن لجمهور مسرحية رصاصة فى القلب أن يشاهده وهو يجرجر أقدامه ويتوكأ على عصاه ويسأل المسئولين عن فوضى الاختيار وسوء التخطيط!
أخبار ذات صلة
المزيد من فن
جوائز مهرجان البندقية ال 82 : انتصارات فنية ترسم ملامح سينما الغد
فى لحظة تاريخية فى الدورة الـ82 من مهرجان البندقية السينمائى الدولى، اعتلت المخرجة التونسية كوثر بن هنية منصّة التكريم لتتسلّم...
ابن النيل.. من أفلام الصراع الحضارى بين القرية والمدينة فى مصر
من المهم أن نعرف أن الفن ليس انعكاساً مباشراً للحياة، لكنه تعبير عن أزمات الناس، بصورة جمالية، بمعنى أن الفنان...
محمد صلاح العزب: أركز على التحليل النفسى للشخصية المجرمة وليس الجريمة
فى عالم السينما والدراما هناك دائما مبدعون يسعون لكسر التوقعات وخوض تجارب فنية جريئة.. ومن بين هذه الأسماء يبرز المخرج...
ليلى علوى تتولى مهمة الدفـاع عن الفيلم وتعتبره قضية عمرها
30 سنة على معركة «بحب السيما» (2) نص حكم القضاء المستعجل وحيثياته برفض منع الفيلم المبدعون "المسلمون" شكلوا حائط الصد...