الحدوتة المصرية التى لا نمل سماعها عبد الرحيم منصور.. شاعر النصر

“حدوتة مصرية” ليس مجرد اسم لواحدة من أشهر أغنياته.... لكنها حدوتة مصر وحكايته التى صاغها فى سنوات قليلة؛ حيث جاء وغادرنا وكأنه نسمة عصارى مرت دون أن ننتبه... إنه شاعر الحكمة والصبر والنصر... عبد الرحيم منصور....

 

مارد وفارد ف الجبل طوله

لا حد داق عذابه... ولا حد قال قوله   

أصل الولد شاعر

جواه عذاب واعر...  

حين كتب عبد الرحيم منصور تلك السطور لم يكن يصف أحمد بن شبيب بطل مسلسل مارد الجبل الذى قام ببطولته نور الشريف.... لكنه كان يتحدث عن نفسه... عن عبد الرحيم ابن مدينة دندرة التى تنام فى حجر معبد الآلهة حتحور ربة السحر والغناء.... ذلك الرجل الذى تربى فى حجر سيدة صعيدية تخبز الصبر على نار حطب القطن والشعر فى فرن عيش الشمس....

لم تطلع شمس منصور صدفة... ولم يتعلم الغناء للحبيبة الأم صدفة... فقبل أن يذهب إلى الكُتّاب وقبل أن ينطق حروف الأبجدية علمته هذه السيدة كيف يرقص على الحصى وكيف يصبح فارسا فى مواجهة الريح وليس مجرد عابر سبيل...

أنا مش عابر سبيل لكن بعشق الترحال...

بنده عليكي... عنيكى ما تردش سؤال  

مطرح ما قلبك ينتفض وطنى

مطرح ما ترمى النظرة بتاخدنى

منك أنا وانتى منى...

هى متلازمة مكشوفة لا تحتاج لتفسير... الأم... الحبيبة.. الوطن.... لا يمكن فصل ما كتبه منصور طيلة رحلته القصيرة مع الشعر والحياة عن ثلاثيته الخاصة. 

أسافر... بسافر

بهاجر بهاجر

واه يابا.... يابا عليا

لا دار.... ولا مرسى... ولا صبية.  

جاء منصور إلى القاهره مأخوذا.... بالحلم.... مثله مثل سابقيه أمل دنقل والأبنودي... بلدياته اللذان ذهب لويس جريس إلى قنا خصيصا ليبحث عنهما من أجل أن يقدمهما فى رحلته الصحفية للكشف عن مواهب صعيدية.... لكن الغريب أنه التقى منصور صدفة وهو الذى دله على طريق بيت الأبنودي.... واستشعر الحرج فلم يخبر العم لويس بأنه شاعر مثلهما.... لكن الرجل أدرك ذلك فى طريق عودته فأسمعه منصور ما يكتب ليمنح جريس كنزا ثالثا يضيفه إلى خبطته الصحفية التى نشرها فى «صباح الخير»..... حياء منصور أحد ملامح تجربة هذا الشاعر الكبير وإحساسه بالغربة فى مواجهة مدينة لا تحتويه مثل تلك البلاد التى غادرها هى العنوان الأبرز لتلك التجربة التى أعلن عنها مبكرا وعن تفردها فى ديوانه الأول الذى طبعه على نفقته الخاصه ليس لأن المؤسسات الناشرة رفضت أعماله ولكن لأنه لم يذهب إليها من الأصل... أما الدواوين التالية فقد منعتها الرقابة لأسباب سياسية فقد أغضبه أن تحبس مصر شاعرا يحبها مثل فؤاد نجم... فراح يكتب ديوانا كاملا عن الثورة والعسس.... وليتم القبض عليه لأيام.... وعندما كان يسأله المحقق عن أصدقاء له من اليسار كان يقول إنهم أصحابه وهو الأمر الذى دفع المحقق لأن يصدقه وأن يصدق أنه لا علاقة له بأى تنظيمات... التنظيم الوحيد الذى يعرفه هو الحب.... شعاره... وشعره... وتغريبته... ولذلك لم يكن غريبا أن يخرج من السجن ليكتب لحبيبته الأم:

يا أم الصابرين... تهنا والتقينا

يا أم الصابرين... ع الأمل عدينا

يا أمنا يا مصر.. يا صبرنا يا مصر

يا أرضنا يا مصر.... يا أمنا... يا أم الصابرين...

بكرة يا حبيبي..... يحلو السهر....

يظلم الكثيرون منصور عندما ينسبون نجاح أغانى أكتوبر لبليغ حمدى وحده دون شاعره الأهم فى تلك المرحلة.... أو فى غيرها... ويقلل من لديهم قصر نظر من تجربة هذا الشاعر الفذ عندما نقول إنه حل بديلا لحجاب والأبنودى بعد خلافهما مع بليغ.... لقد كان الأقرب له حتى انه كان يعيش معه بعد زواجه من وردة.... «حيمو» كما كان يناديه كان الأقدر على فهم جملة بليغ الموسيقية البسيطة.... وهذا هو سر عبد الرحيم أيضا  ...بساطة وعمق سيدة الصبر التى ربته فى دندرة... ابنة اسماعيل الخلاوي... ومن يريد أن يعى ذلك عليه أن يدقق فى كلمات أغنيته لوردة تلك التى لحنها كمال الطويل:

....بكره ياحبيبى يطلع القمر

بكره ياحبيبى يحلو السهر

ونعيش ياحبيبي... أنا وانت يا حبيبي... حبايب حبايب... الحب فينا دايب... دايب يا حبيبي...

ومن أراد أن يستزيد فعليه بفحص تجربته البديعة مع أحمد منيب ومحمد منير منذ لحظة إطلاق صوت منير بداية ثمانينيات القرن الماضي.....

 غنوة أمل للجنود السمر

فى اللحظة التى انطلق فيها صوت الراديو يعلن عن البيان العسكرى رقم واحد بعد عصر يوم السادس من أكتوبر... كان عبد الرحيم منصور يجلس وحيدا فى شقته الصغيرة فى بولاق الدكرور... يفكر فيما سيجهز من طعام لإفطار يوم العاشر من رمضان.. تشده روايح أكل البيوت إلى صينية أمه فى دندرة..   وقلة الماء الفخارية التى تعود أن يبل ريقه منها... لكنه لا يستطيع أن يعود إلى قنا... كان يشعر أنه مهزوم وأن الفرح والنجاح الذى وعد أمه به لم يتحقق بعد.  كان له أخ يحارب على الجبهة لم يعد هو أيضا... وأصدقاء يفتقدهم... كان اليأس يحاصره رغم أن عددا كبيرا من الناس يتغنى بما يكتب... وهو لا يتذكر مما كتب سوي..   عطاشي... هو شعور غريب بالعطش يحاصر الحلوق فيمنع الحناجر عن الصياح.... لقد كتب قبلها بثلاث سنوات مبشرا بالنصر فى مسرحية ياسين ولدى وقال على لسان عفاف راضى إننا سنعبر.... لكن الانتظار طال.    لذا لم يدرك حين نزل إلى الشارع أن الإذاعة تقول إننا هناك على الضفة الأخري... فقط سمع من البقال صاحب التليفون الذى تعود بليغ أن يطلبه من خلاله أن بليغ ذهب إلى الإذاعة ويريده هناك فورا.... لحظات مرت وهو مشدوه لا يستطيع أن يلملم أفكاره.... ربما بكي.... ربما أخذه النشيج إلى سبع سنوات مضت..   هو لا يعرف.... فقط يعرف أن بليغ معه الآن يطلب منه أن يكتب.... أن يقول بسم الله رسالة المصريين للعالم وللجنود على الجبهة أن ينقل زغاريد البلكونات التى تهتف.... الله أكبر... وقد هتف معهم.  

  بسم الله.... الله أكبر بسم الله

الله أكبر.... أذّن وكبر.... ويقول يا رب النصره تكبر..... بسم الله

 وأدان ع المدنة.... بيحيى جهادنا....

كان ذلك الأذان هو أذان مغرب السادس من أكتوبر.... ولأول مرة منذ سنوات ترتجف العروق.... ويذهب العطش.... فيكتب ويلحن بليغ ويغنى حليم الفجر لاح.... ثم يذهب إلى بيته لينام بعد ساعات لم تفارقه فيها الدهشة.... لكن بليغ لا يتركه.... يذهب إليه ليعصره فتخرج كلمات...  حلوة بلادى السمرة... بلادى الحرة.... بلاد الثورة بلادي.... وبعدها يستمر عبد الرحيم ولا تتوقف ربابته عن الفرح والزغازيد.  ..

فقد رأى أنها.... قامت... عليها السلام... وأن مصر العظيمة عبرت هزيمتها فراح يغنى للجندى البطل على لسان موفق بهجت ويدعو الله بلسان وردة.

 يحرسكم الله يا جنودنا والنبي....

وبعد عودة الجنود.... تم تكريم المنتصرين... وأقيم حفل كبير.. منح فيه الرئيس السادات وسام النصر ورتبة رائد لشاعر النصر.... وبعد انتهاء الحفل ركب الجميع سياراتهم فى طريق العودة إلى منازلهم واكتشف عبد الرحيم أنه لا يملك سياره تعيده إلى منزله وأنه لا يملك نقودا... فقط فى يده الوسام وفى صدره أغنية لم تزل معنا منذ خمسين سنة كاملة.... واعتقد أنها ستعيش طويلا....

Katen Doe

محمد العسيري

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

المزيد من فن

مشاركة مغربية لافتة في ملتقى "أولادنا"

أمين شويرف يهدي مصر أغنية ويُبهر بلون غيواني أصيل

فى ذكرى ميلاد أحمد عبدالحليم.. خمس محطات رئيسية في حياة عاشق المسرح

حياة الراحل أحمد عبد الحليم تميزت بالتنوع والثراء الفكرى، تنوع منحه ملامح يندر أن يحظى بها مخرج مسرحى آخر، إذ...

إسماعيل عبد الحافظ.. سجّل التاريخ فى حلقات بقلم أسامة أنور عكاشة

في هذا الشهر - سبتمبر - تمر الذكرى الثالثة عشرة الرحيل المخرج الفنان إسماعيل عبد الحافظ الذي غادر الدنيا بعد...

حازم إيهاب: المنافسة الشريفة تصنع النجوم

من التردد أمام الجمهور إلى الثقة التي منحتها له التجارب والمنتجون يتحدث الفنان الشاب حازم إيهاب عن كواليس "حكاية هند"،...