حوار عمره 78 عاماً مع «محمد القصبجى»: وجدت فى «أم كلثوم» ما كنت أحلم به

أبى كان جادًا فى تربيتى.. وأنا من قلائل أهل الفن الذين لم يذُقوا الخمر/ بدأت حياتى كمحترف بفرقة «محمد العقاد».. ولحنت لـ «منيرة المهدية» أكثر من 40 طقطوقة
الموسيقار "محمد القصبجى" هو عازف العود الأول فى العالم العربى، كما يلقبه الموسيقيون، فالعود فى يد "القصبجى" له مذاق خاص، حيث أدخل عليه من التحسينات ما جعله يتربع على عزف العود عربياً، ففى عام 1925 صمم "القصبجى" عودا مجوف بعد العنق، وفى عام 1931 صمم عوداَ آخر برقبة طويلة.
ولد "القصبجى" فى 15 أبريل 1892، وحفظ القرآن الكريم بالكتاب، وفى عام 1903 ألتحق بمدرسة عثمان باشا ماهر الإبتدائية بالقلعة، وانتقل إلى الأزهر الشريف ودرس اللغة العربية لمدة عامين والتحق بمدرسة المعلمين ودرس بها أربع سنوات، وبعد أن تخرج اشتغل بالتدريس، لكنه لم يترك الموسيقى التى كانت تسرى فى دمه منذ نعومة أظافره، وكان قد تعلمها من والده الشيخ على إبراهيم القصبجى، فكان منشداً ومقرئاً ومدرسا لآلة العود وله العديد من الألحان التى تغنى بها كبار المطربين، أمثال عبده الحامولى وزكى مراد ويوسف المنيلاوى وسيد الصفطى وصالح عبد الحى و محمد السنباطى والد الموسيقار رياض السنباطى، ووسط الصراع الكبير الذى كان بداخل "القصبجى" بين عمله كمدرس وعمله فى المجال الفنى انتصر الثانى على الأول وترك التدريس للأبد، حيث تفرغ تماما للعمل الفنى، وكانت أول أغنية له من كلماته وألحانه بصوت المطرب"زكى مراد" بعنوان "ما ليش مليك فى القلب غيرك" وكان عمره وقتها 13 عاما، وكان أول عمل تلحينى احترافى له هو دور "وطن جمالك فؤادى يهون عليك ينضام" من كلمات الشاعر "أحمد عاشور" عام 1920، واتجه القصبجى لتلحين الطقاطيق، فلحن لمنيرة المهدية 40 طقطوقة و6 روايات، منها المظلومة وحياة النفوس وحرم المفاش وكيد النسا كلهم من كلمات يوسف القاضى، كماعلم محمد عبدالوهاب العزف على العود.
وفى عام 1923 استمع القصبجى لأم كلثوم وأعجب بمديحها، وكانت تنشد قصيدة فى مدح الرسول، وتعاون معها فى 1924 بأول لحن وهى أغنية "إن حالى فى هواها عجب" وظل هذا التعاون إلى آخر يوم فى عمره، وبلغت الألحان التى قدمها لها 120 لحن من بين 1250 أغنية لحنها فى مسيرته الفنية ،وفى عام 1927 كون القصبجى فرقته الموسيقية وكان بها عازف القانون العقاد وسامى الشوا عازف الكمان.
قدم "القصبجى" ألحانا كثيرة للسينما وللمسرح الغنائى، كما قدم لمنيرة المهدية عدد من المسرحيات، منها المظلومة وكيد النسا وحياة النفوس وحرم المفتش، وقدم لنجيب الريحانى ثلاثة ألحان فى أوبريت نجمة الصباح، ولم تخلو أفلام أم كلثوم من ألحانه ففى عام 1935 قدم لها بفيلم "وداد" أغنية "ياللى ودادى صفالك" و"أغنية ليه يا زمان" و"يا بهجة العيد" و"يا طير ياعايش آسير"، وفى عام 1936 لحن أغانى فيلم "نشيد الأمل"، كما لحن أغانى فيلم "دنانير" عام 1940، ومنها أغنية "طاب النسيم" و"الزهر فى الروض" و"الشمس مالت للمغيب" و"يا فؤادى"، وفى عام 1942 احن أغنيات فيلم "عايدة"، أما فيلم "فاطمة" عام 1948 فقد قدم من كلمات "بيرم التونسيب" أغنيات "يا صباح الخير" و"ياللى معايا" و"نورك ياست الكل"، وعلى ذلك يكون قد لحن لأم كلثوم من كلماته حوالى 67 أغنية، وقام بتلحين الفصل الأول من "أوبرا عايدة" الذى غنته أم كلثوم فى فيلمها "عايدة".
أثرى "القصبجى" الموسيقى العربية بالعديد من الأعمال الفنية، وكان سببا فى تطورها؛ فلحن لكل نجوم عصره، مثل لمنيرة المهدية وزكى مراد ونجاة على وصالح عبدالحى، كما لحن أغنية واحدة لكل من حسين حلمى المانسترلى بعنوان "تبيعينى ليه" ومصطفى نجيب بعنوان "الليل أهو طال"، كما لحن للشاعر "على شكرى" أغنية "ينوبك إيه من تعذيبى"، نال "القبجى" العديد من التكريمات، ومنها تكريم الرئيس جمال عبد الناصر عام 1960، حيث أهدى إليه رئيس الجمهورية وسام العلوم والفنون من الطبقة الاولى، كما كرمته أم كلثوم بعد وفاته بأن ظل مقعده ىشاغراً فى كل حفلاتها ووضعت عليه عوده الخاص.
تحدث "القصبجى" فى السطور التالية عن حياته، وكتب بنفسه على صفحات مجلة الراديو المصرى فى عددها رقم 604 المنشور فى 21 أكتوبر 1946 منذ 78 عاما، حيث كتب فى باب "أهل الفن" مقالا بعنوان "حياتى" رصد فيه محطات مهمة فى حياته الفنية، وكان عمره آنذاك 54 عاما.
وفى ذكرى مرور 58 عاما على رحيله؛ حيث رحل الفنان الكبير فى 26 مارس 1966 عن عمر ناهز 73 عاما، نعيد نشر ما كتبه بنفسه منذ 78 عاماً.
ولدت من أبوين فقيرين فى شارع غيط العدة بحى عابدين سنة 1898، وكان أبى رحمه الله جادا فى تربيتى، شديد الحرص على تنشئتى نشأة محافظة صالحة، ولا يزال أثر هذه الشدة باقيا فى حياتى حتى الآن، ولعلى من القلائل الذين يعيشون فى دنيا الفن دون أن يدخنوا أو يذوقوا الخمر طول حياتهم.
اجتهد أبى فى تحفيظى القرآن منذ طفولتى، فما أن أدركت التاسعة من عمرى حتى كنت قد حفظته عن ظهر قلب، ثم التحقت بمدرسة ماهر باشا، وكانت جميع العلوم تدرس فيها ما عدا اللغة الأجنبية، فلما بلغت السادسة عشرة، التحقت بالأزهر الشريف، وقضيت به سنة درست فيها المنطق والتوحيد وعلوم الدين، انتقلت إلى مدرسة عبدالعزيز الأولية للمعلمين بحى عابدين، وكنت متقدما دائما فجاء ترتيبى الثالث فى الشهادة النهائية، وعينت مدرسا بمدرسة بولاق، ثم بمدرسة عبدالعزيز الأولية التى تخرجت فيها..
تلك هى سيرتى الأولى قبل احتراف الفن، بيد أنى لم أكن بعيدا عن دنيا الفن ولا غريبا عليها منذ طفولتى، فقد كان أبى، الشيخ على القصبجى، منشداً معروفا فى عهده، وهو عهد الإنشاد، ومن ساعده فى ذلك العهد الشيخ يوسف المنيلاوى "وكان منشدا ومغنيا فى آن واحد" والشيخ الشنتورى والشيخ خليل محرم، بيد أن أبى كان الوحيد بين المنشدين الذى يتقن النونة الافرنجية ويحذق العزف على العود، ومع ذلك فإنه لم يكن يقبل إحياء الليالى، وكان يكسب قوته من التلحين للمغنين "كالشيخ يوسف المنيلاوى والشيخ سيد الصفتى وغيرهما" مع ألحان الاسطوانات وتعليم الموسيقى. وهكذا نشأت والموسيقى فى دمى، والتلحين وراثة عن أبى، وأدرك فى هذا الميل منذ نعومتى أظفارى، فبدأ تعليمى العود وأنا فى التاسعة، وبعد سنة واحدة، وجدت نفسى أتقن العزف على وجه يستحق الالتفات.
كنت أميل إلى الاستماع لكل ما هو غريب، فانتبهت إلى الموسيقى الغربية وتيقظت لها، وجعلت أرهف لها سمعى واستسيغها على غير شأن أهل الفن عندنا فى ذلك الوقت، فلم أدرك الثالثة عشرة من عمرى حتى أحسست أن قدراتى فى التلحين تتفتح.
هكذا مضيت فى طريقى، آخذ الموسيقى هواية، إلى جانب الدروس والتحصيل، حتى إذا أتممت العشرين، ضاق صدرى بمهنة التدريس بعد أن مارسته ثلاث سنوات، وأحسست شعورا قويا يدفعنى نحو الفن، والفن وحده، فاستقلت من وظيفتى ووهبت حياتى للموسيقى.
بدأت حياتى الموسيقية - كمحترف - عوادا فى فرقة المرحوم محمد العقاد الكبير "جد إسماعيل ومحمد الحاليين" ثم تنبهت لى شركات الاسطوانات، فتعاقدت معى، وسجلت أصوات الشيخ سيد الصفتى والشيخ أمين حسنين ومحمد نور والأستاذ زكى مراد "والد ليلى مراد" وكثير غيرهم من ألحانى.
وبدأت شهرتى بتلحين الطقاطيق، فلحنت للسيدة منيرة المهدية أكثر من أربعين طقطوقة، أذكر منها "بعد العشا" و"بعد 13 سنة" و"شال الحمام" وغيرهما، كما لحنت لها أربع روايات لقيت نجاحا مقدورا فى ذلك العهد، وهى "المظلومة" و"حرم المفتش" و"كيد النسا" و"حياة النفوس".
غير أنى فى كل هذا الإنتاج لم أكن كثير الرضى عن نفسى، فقد كنت أحس أننى باستمرارى فى تقديم اللون السائد فى ذلك العهد، لا أخدم الموسيقى ولا أقدم شيئا جديدا يترك لى شيئا من الفضل، بيد أنى كنت أحلم بالصوت الذى يستطيع أن يعيننى على أداء الرسالة الجديدة التى تختلج فى نفسى.
وحدث ذات يوم أن التقيت فى إحدى شركات الاسطوانات بفتاة ملهمة الصوت، تغنى لى، دون أعرفها أو أراها، بعض ألحانى ومنها أغنية "قال إيه حلف ما يكلمنيش".
وكانت تلك الفتاة السمحة الملهمة، هى الآنسة أم كلثوم، وكانت هذه الأغنية هى سبب تعاوننا، ذلك التعارف الذى بدأت به صحيفة جديدة من حياتى، إذ وجدت فيها الصوت الذى أحلم به.
فقدمت إليها شيئا جديدا لم يكن معروفا فى ذلك العهد، هو المونولوج، ونجحت الفكرة نجاحا أعده فرحة حياتى.
كلفتنى أم كلثوم بأن ألحن لها، فكان أول ما بدأنا به أغنية "إن جالى فى هواها عجب" للشاعر أحمد رامى، ومضيت معها فى ذلك الطريق السعيد الجديد حى غنت لى إثنى عشر لحنا، منها "أخذت صوتك من روحى" و"ياريتنى كنت النسيم" و" صحيح خصامك ولا هزار".. وكلها لرامى.
ثم اشتغلت أم كلثوم على التخت لأول مرة، فأقبلت على المغامرة الكبرى التى طالما جاشت بصدرى، وقدمت لها ذلك اللحن الذى كان فجرا جديدا فى حياتى "إن كنت أسامح وانسى الأسية" كنت مشفقا على ذلك اللحن من الناس واختلافهم فى الأمزجة والأذواق، أسائل نفسى هل يتقبلونه فأمضى فى طريق جديد، أم يأبونه بأعود إلى ما كنت عليه.
ولكن رحمة من الله وسحرا من أم كلثوم شاءا أن يرفعا ذلك اللحن إلى الأوج، وأن يصبح حديث الخاص والعام بين يوم وليلة!
ومن ذلك اليوم انهالت على الأصوات المختلفة تطلب إلى أن أقدم لها مثل هذا اللحن، وبدأ أهل الغناء فى تقليد هذا اللون، ومنذئذ ارتبطت مع أم كلثوم برباط لا تنفصم عراه، فى صداقة وعمل وإخلاص.
وتبدأ سيرتى فى السينما بعد ذلك، وأرى الناس يختلفون فى السينما، فقوم يقولون إنها قد جنت على الموسيقى وقوم يقولون إنها خدمت الموسيقى، وكلا الرأيين صحيح، ففى استطاعة السينما أن تسدى إلى الموسيقى أعظم الأيادى لو اختار المنتجون لأفلامهم العناصر الصالحة فى التأليف والتلحين والغناء. وفى استطاعة المنتجين أن ينزلوا بالموسيقى إلى الحضيض إذا ما اسأءوا الاختيار.
أخبار ذات صلة
المزيد من المجلة زمان
فى ذكرى رحيل عبد المنعم مدبولى الـ 19 نعيد نشر مذكرات بابا عبده
رغم ميولى الكوميدية فأنا أجيد التراجيديا زكى طليمات شغلنى «كومبارس» فى مسرحية «المنقذة» وقال لى: «اقطع دراعی لوخدت الدبلومة» المسرح...
سلوى حجازى: أنا متصوفة.. وأداوم على زيارة السيدة زينب وسيدنا الحسين
فى ذكرى رحيلها الـ 55 نعيد نشر حوار نادر معها.. أردد فى الصباح والمساء «إن مع العسر يسرًا» الخير كجزيرة...
مصطفى أمين فى حوار عمره 38 عاماً: الكسالى ليس لهم حقوق إنسان
فى ذكرى ميلاده الحادية عشرة بعد المائة لم أعش طفولتى.. ولم يكن لى شباب.. وكانت لى شيخوخة مبكرة جيلى كان...
حوار إذاعى عمره 37 عاماً أم كلثوم: أحب من إيد أمى الحمام بالفريك والمهلبية
والدى ألبسنى العقال لأكون أٌقرب للولد من البنت الناس تعودت صوتى فى الغناء وليس فى الكلام رفضت أن أغنى لسكران...