بعد 50 عامًا.. مذكرات «السادات» تبوح بأسـرار مثيرة عن حرب أكتوبر المجيدة

أسباب استجمام «السادات» فى الإسكندرية.. بعد طرده للخبراء السوفيت / المشير أحمد إسماعيل ابتكر تدريبًا عسكريًا.. كان مفتاح النصر على العدو / خضنا الحرب وخزائننا فارغة.. والرهان كان على قدرة الجيش وبأس الشعب / تفاصيل الاجتماع السرى بين «السادات» و«الأسد» فى مدينة برج العرب / لماذا كان الـ30 من سبتمبر يومًا فاصلاً فى قرار خوض المعركة؟
بطل القصة ومحرك أحداثها.. صاحب أعظم خطة خداع استراتيجى عرفتها العلوم العسكرية على مر التاريخ.. مُحطّم أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر.. عبّر بقواته الباسلة خط بارليف المنيع، ودك حصونه تحت أقدام قواتنا المسلحة. إنه بطل الحرب والسلام الزعيم الراحل محمد أنور السادات.
خمسون عامًا مرت على ملحمة النصر العظيم (السادس من أكتوبر 1973)، وما زالت مذكرات «السادات» بشأن حرب أكتوبر المجيدة؛ تحمل الكثير من الأحداث والمواقف التى تحتاج إلى دراسة وتحليل عميق لما فيها من دلالات ومؤشرات على ما تشهده المنطقة من أحداث ومتغيرات فى الوقت الراهن.
لقد ورث «السادات» تركة تعجز عن حملها الجبال؛ فبغض النظر عن الأوضاع القاسية التى كانت تمر بها البلاد إلا أن التحدى الأعظم كان يتمثل فى احتلال الأرض التى بسط العدو الصهيونى يديه عليها بعد الهزيمة فى نكسة 1967، فكان لابد من إعادة بناء الجيش والدولة معًا حتى يمكننا خوض حرب نسترد بها كرامتنا. وعن تلك التحديات يقول «السادات» فى كتابه «البحث عن الذات»: كانت التركة التى ورثتها من «عبد الناصر» فى حالة يرثى لها، فمن الناحية السياسية وجدت أن علاقتنا مقطوعة مع جميع أنحاء العالم ما عدا الاتحاد السوفيتي، بما فى ذلك الكثير من الدول العربية».
الذعر ينتاب السادات..
عن الأوضاع الاقتصادية، يقول «السادات»: كانت التركة التى ورثتها اقتصاديًا أسوأ بكثير من التركة السياسية .... فى سنة 70 قرأت تقريرًا أمريكيًا ـ بعد تحليل لواقع مصر الاقتصادى يقولون فيه» اتركوا «عبد الناصر» يصرخ فسوف يركع على ركبتيه اقتصاديًا فى القريب العاجل..... قرأت التقرير مرات ومرات واستلفت نظرى ما جاء فيه من أن زيادة السكان بمصر وبالتالى زيادة الاستهلاك سوف تجعل الاقتصاد المصرى يصل إلى مرحلة الصفر فى خلال سنتين من سنة 1970 على الأكثر ففزعت ولكنى اعتبرته دعاية من الغرب وأنه ضمن الحملة النفسية التى تشن علينا لكن نسلم لإسرائيل، ولكن بعد أن توليت اكتشفت الحقيقة المرة، فقد استدعيت وزير المالية والاقتصاد الدكتور حسن عباس زكي، وسألته عن الموقف الاقتصادى فقال ببساطة إن الخزينة فاضية وإننا نكاد نكون فى حالة إفلاس.. قلت له: كيف وصل الحال إلى هذا؟ ألم تخبر «جمال»؟، فقال «أنا قعدت ألبس طاقية ده لده ولكن دلوقتى خلاص».
عن مواجهة هذه الأزمة، يضيف «السادات»: أرسلت واقترضت 20 مليون جنيه، ولكن حسن عباس زكى قال لى إن هذا المبلغ لم ينفع كثيرًا، وكنت أشعر بالذعر فعلاً.. عندما أدركت أننا على وشك أن يأتى اليوم الذى لا نملك فيه رواتب الجنود المرابطين على الجبهة ومرتبات الموظفين، فإذا جاء يوم ولم يقبضوا رواتبهم وعرفوا أن أهلهم فى مصر لا يجدون ما يأكلونه فسوف يتركون الجبهة وتنهار مصر.
آليات مواجهة الأزمة الاقتصادية
إذن الأوضاع كانت غير مهيأة على الإطلاق لخوض حرب ضد محتل غاصب للأرض، خاصة أن خزينة الدولة كانت فارغة، والإعداد لإعادة بناء قواتنا المسلحة يحتاج لخزائن مفتوحة، فكيف لدولة منهكة وأوضاعها الاقتصادية فى الحضيض أن تخوض حربًا وتحقق نصرًا مظفرًا شهدت بإعجازه كل المراكز والأكاديميات العسكرية العالمية؟
عن تلك التحديات، يقول «السادات»: كافحت واستعنت بكل مدد يمكن الاستعانة به، ولم أشعر طوال سنتى 1971 و1972 بحقيقة الكارثة، ولكن قبل المعركة بخمسة أيام واجهت مجلس الأمن القومى بحقيقة اقتصادنا وبأنه تحت الصفر، وهذا أمر لو صادف غيرى أو أى إنسان لابد أن يخيفه ولكنى فكرت وقررت، ولا أعتقد أن أحدًا مكانى كان سيجد الشجاعة لإصدار أى قرار ولكننى كنت على ثقة أن مفتاح كل شيء سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا هو أن نصحح هزيمة 1967؛ لكى نستعيد ثقتنا فى أنفسنا وثقة العالم بنا، فلم يكن الوضع الاقتصادى سوى بُعد من أبعاد المشكلة.
وتابع «السادات»: لقد كان محو عار وهزيمة 67 هو الأساس، وكان تقديرى أننى حتى لو دفنت أربعين ألف من أبنائى فى القوات المسلحة ونحن نعبر القناة فسيكون ذلك أشرف لنا ألف مرة من أن نقبل هذا الإذلال وتلك المهانة وستأتى الأجيال القادمة من بعدنا لتقول لنا إنهم ما توا بشرف فى المعركة ولابد أن يكملوها بعدنا.
الاستجمام فى الإسكندرية.. واتصالات السوفيت
اتخذ الرئيس «السادات» قراره بخوض الحرب؛ متحديًا كل الظروف السياسية والاقتصادية المحيطة، بل والعسكرية أيضًا، وكانت ثقته مطلقة فى قواتنا المسلحة التى لم تعبر عن نفسها فى حرب 67، وكان إيمانه كاملاً بالله والشعب المصرى الذى رفض الهزيمة.
عن أيام الحرب، وما سبقها من استعدادات، وما تلاها من أحداث، قال الرئيس «السادات»: لم أذهب إلى الإسكندرية كما كانت عادتى فى كل صيف منذ هزيمة يونيو 1967 إلى سنة 1972، ولكننى بعد أن اتخذت قرار إخراج السوفيت( من مصر) أحسست بشيء من الراحة فقلت أذهب إلى الإسكندرية للاستجمام، وأصدرت أمرًا إلى مكتبى بأنه إذا حاول السوفيت الاتصال إلى أن يقولوا لهم إننى فى المصيف بالإسكندرية، كما اعتاد السوفيت أن يقولوا لنا إن قادتهم فى القرم، ولذلك لا وسيلة للاتصال».
وأضاف: بمجرد وصولى إلى الإسكندرية بدأت الاستعداد للمعركة؛ رغم أن العالم كله، بما فيه مصر فسروا طردى للخبراء السوفيت بأنه قرار بعدم الحرب، فاستدعيت حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومي، وقلت له إن أمريكا بعد هذه القرارات التى اتخذتها لابد أن تتصل بنا، وعليه أن يُعد نفسه للبدائل المختلفة لمناقشتهم، كما استدعيت وزير الحربية وأبلغته أن يجمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى اليوم التالي، ويخطره بأننى قررت أن تكون القوات المسلحة جاهزة للقتال ابتداء من 15 نوفمبر 1972، واستدعيت بعد ذلك سيد مرعى وكان وقتها أمين الاتحاد الاشتراكي، وطلبت منه أن يجتمع بأمناء الاتحاد الاشتراكي، ويبلغهم أن معنى هذه القرارات هو أننا سوف ندخل الحرب لا العكس، وطلبت من ممدوح سالم، وكان وقتها نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للداخلية، ومسئولا عن الدفاع المدني، أن يُعد الجبهة الداخلية ويسد جميع الثغرات فيها.
وواصل «السادات»: قبل أن ينقضى أسبوع على وجودى بالإسكندرية اتصل كيسنجر( وزير الخارجية الأمريكي) وطلب تدبير لقاء على أى مستوى فاتفقنا على أن يلتقى بحافظ إسماعيل فى سبتمبر أو أكتوبر من نفس السنة ولكن اللقاء تأجل عدة مرات، فلم يتم الرد إلا فى فبراير سنة 1973.
تدريب لم يحدث فى تاريخ العسكرية..
يقول «السادات»: طلبت من الجنرال أحمد إسماعيل تصحيح «الخطة الدفاعية 200»، ليكون الساتر الترابى عندنا 20 مترًا، وبأعلى 3 أمتار عنه عند اليهود، واعتمدنا لهذا 20 مليون جنيه.... وفى 30نوفمبر سنة 1972 جاءنى الجنرال أحمد إسماعيل ليبلغنى أن الخطة الدفاعية أصبحت كاملة، وأنه بصدد إعداد تجهيزات الهجوم.
ويضيف «السادات»: فى أوائل يناير 1973 كان الجنرال أحمد إسماعيل وضع الهيكل الأساسى للخطة، وقد قام بشيء لم يحدث فى تاريخ العسكرية من قبل؛ إذ طلب من كل ضابط على امتداد القناة أن يتسلق الساتر الترابى الذى أصبح 20 مترًا وينظر أمامه على امتداد 10 كيلومترات داخل سيناء وأن يحدد على الأرض خطته التى ينفذها بعد العبور، مما أعطى للضباط ثقة فى أنفسهم وجعلهم يشاركون مشاركة فعلة ليس فقط فى العمل، بل وفى التخطيط أيضًا، وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن خطة حرب أكتوبر قد وضعتها القوات المسلحة بأجمعها على كل المستويات.
من المؤكد أن الاستعداد لخوض معركة بحجم حرب السادس من أكتوبر لا يقتصر على التسليح والتدريبات فقط، ولكن الأمر يتطلب تهيئة مسرح العمليات سياسيًا واقتصاديًا قبل أن يكون عسكريًا، فضلاً عن بعض التحركات السرية والتنسيقية لمفاجأة العدو.
الزيارة السرية لحافظ الأسد
عن ذلك يقول «السادات»: فى أبريل 1973، جاء الرئيس حافظ الأسد إلى مصر فى زيارة سرية، وكان الفريق عبد الغنى الجمسى وقتها مديرًا للمخابرات الحربية، فأحضر لنا المذكرة التى دوّن فيها المواعيد المناسبة للعمليات الحربية على مدار السنة من وجهة نظر العلوم العسكرية، وقد كانت(المواعيد) مكتوبة بخط يد «الجمسي» لأنها سرية، وهى ثلاث مجموعات من الأيام.. الأولى فى شهر مايو 1973 والثانية فى أغسطس وسبتمبر، والثالثة فى أكتوبر 1973.. كانت أنسب هذه المجموعات، مجموعة أكتوبر، خاصة أن الجبهة السورية ابتداء من نوفمبر وحتى الربيع غير جاهزة للعمليات نظرًا للظروف الطبيعية.
ويواصل «السادات»: فى هذا الاجتماع كنت أنا وحافظ الأسد وحدنا فى «برج العرب»، فقلت له «لقد قررت أن أدخل المعركة فى هذا العام، وأعطيت تعليماتى بذلك للجنرال أحمد إسماعيل فما رأيك؟».. قال لي» أنا معاك وادخل وبنجهز نفسنا».. لم أكن أنوى أن أدخل المعركة فى مايو 1973، ولكن كجزء من الخداع الاستراتيجى قمت بحملة فى الصحف عندى وفى الدفاع الشعبى فما كان من الإسرائيليين إلا أن صدقوا وفى الأيام المناسبة للحرب حشدوا جيوشهم؛ بينما كنت أنا فى حالة استرخاء تام.. وفى أغسطس من نفس السنة فعلت نفس الشيء وكان رد الفعل فى إسرائيل هو نفس ما صنعوه فى مايو فأعلنوا التعبئة العامة، ولذلك عندما سئل موشى ديان (وزير الدفاع الإسرائيلي) بعد حرب أكتوبر لماذا لم يُعلن التعبئة فى أكتوبر، قال «إن السادات قد دفعنى إلى هذا مرتين مما كلفنى فى كل مرة عشرة ملايين دولار دون جدوى، فلما جاءت المرة الثالثة ظننت أنه غير جاد مثلما حدث فى المرتين السابقتين ولكنه خيب ظني».
يوم فاصل فى قرار خوض المعركة
كان الـ30 من سبتمبر 1973؛ أى قبل الحرب بستة أيام؛ يومًا فاصلاً فى أمر الحرب من عدمه، خاصة أن الأوضاع الداخلية كانت وصلت إلى مرحلة الغليان بسبب حالة اللاسلم واللاحرب، فضلاً عن أن خطة الخداع الاستراتيجى التى أشرف على تنفيذها «السادات» بنفسه نجحت فى تهيئة الساحة الدولية والإقليمية إلى عدم قدرة الدولة المصرية على دخول الحرب.
وعن هذا اليوم المشهود، قال الرئيس «السادات»: جمعت مجلس الأمن القومى وطلبت من الأعضاء إبداء رأيهم فى الوضع الذى كنا عليه وتناقشنا طويلاً.. طالب البعض بالمعركة وتردد البعض الآخر.. قال وزير التموين إن التموين الموجود لا يكفى معركة طويلة، وبعد أن تحدث الجميع عن المعركة وظروف البلد والتحرك، قلت لهم» كل واحد منكم قال كلمته.. طيب أنا عايز أقول لكم إن اقتصادنا النهاردة فى مرحلة الصفر وعلينا التزامات إلى آخر السنة لن نستطيع الوفاء بها للبنوك، وعندما تأتى سنة 1974 بعد شهرين لن يكون عندنا رغيف الخبز للمواطنين، ولا أستطيع أن أطلب من أى عربى دولارًا واحدًا لأن العرب بيقولوا لنا إحنا بندفع الدعم بتاع قناة السويس وخلاص ولا فيه حرب ولا فيه حاجة.... هكذا أعلمت المسئولين عندى بالموقف ثم أنهيت الاجتماع.
وأضاف: فى اليوم التالى أى أول أكتوبر ـ جمعت المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ووقف جميع القادة أمام الخريطة وشرح كل خطته بالتفصيل ودوره فى هذه الخطة، وقبل أن ينتهى الاجتماع قلت لهم: كل واحد يكون جاهز فى أى لحظة لصدور الأمر.
بداية العد التنازلى قبل دك حصون العدو
وواصل «السادات»: فى يوم 2 أكتوبر سنة 1973، وقعت للقائد العام الجنرال أحمد إسماعيل أمر القتال، وكنت فى سبتمبر 1973 قد أصدرت الأمر الاستراتيجى للقائد العام ووضعت فيه تصورى للهدف الاستراتيجي، وقد كان هذا الأمر الأول من نوعه فى تاريخ مصر الحديث.. بدأ العد التنازلى قبل المعركة بعشرة أيام، كما خرجت القطع البحرية لتتخذ أماكنها فى الحرب قبل ساعة الصفر بعشرة أيام، وكانت مع كل قطعة بحرية ظروف مقفلة تحمل تعليمات العمليات ولا تفتحها إلا بعد أن تتلقى كلمة شفرة محددة وعندئذ ستجد التعليمات المفصلة لخطة عملها.
كان التدريب يستلزم الأيام العشرة أيضًا ـ هكذا أكد «السادات» ـ فالحرب لم تعد خطة توضع وأوامر تصدر للقوات لتنفيذها فحسب، بل يجب التدريب على كل شيء بالتفصيل وكلما كثرت التدريبات وأتقنت زادت فرص النجاح.. كان العد التنازلى للتدريب قد انتهى فى 21 سبتمبر 1973، وكان تدريب آخر لواء من اللواءات المشتركة فى العمليات على الواجب الذى سيقوم به قد تم يوم 23 سبتمبر.
وتابع: يوم الأربعاء 7 رمضان، الموافق 3 أكتوبر 1973 ـ حسب اتفاق مع الرئيس حافظ الأسد فى أواخر أغسطس 1973 ـ استدعيت السفير الروسى وقلت له» أريد أن أبلغك رسميًا أننى وسوريا قررنا بدء العمليات العسكرية ضد إسرائيل، وعندى سؤال أريد الإجابة عنه من القادة السوفيت بصفة عاجلة» ما موقف الاتحاد السوفيتى منا؟».. سألنى عن الموعد فقلت له إننا لم نتفق عليه بعد».. كنت اتفقت مع الأسد على أن يستدعى السفير السوفيتى عنده ويبلغه فى اليوم التالى وهو الخميس 4 أكتوبر ويعلنه بالموعد لأن علاقتى بالسوفيت سيئة.
السفير الروسى يطلب مقابلة عاجلة
فى اليوم التالى 8 رمضان أى الخميس 4 أكتوبر 1973 طلب السفير السوفيتى موعدًا عاجلا معى السادات هو المتحدث ـ فتصورت أنه جاءنى بالرد على سؤالي.. استقبلته فكان أول ما قاله هو:» معى رسالة عاجلة من القيادة السوفيتية.. إنهم فى موسكو يطلبون موافقتك على وصول 4 طائرات ضخمة لحمل العائلات السوفيتية من مصر».. وهذه العائلات السوفيتية هى عائلات المدنيين السوفيت الذين يعملون فى المصانع والقطاع المدنى لأن العسكريين السوفيت وعائلاتهم كانوا قد رحلوا قبل ذلك بعام بعد صدور قرارى بترحيل المستشارين العسكريين السوفيت من البلاد.
وواصل «السادات»: انتقلت يوم الخميس 8 رمضان الرابع من أكتوبر إلى قصر الطاهرة، بعد أن جُهّز كمركز لإدارة الحرب، وفى يوم الجمعة ذهبت لأصلى فى الجامع الذى تعلمت فيه الصلاة منذ خمسين عامًا، وهو زاوية صغيرة، وهناك فى رحاب الله وهدوء الجامع شرد ذهنى فى أيام الطفولة والنقاء.. كنت فى أقصى درجات السلام الروحى فرغم اللحظة التى كنت مقبلاً عليها كنت أرنو إلى الغد موعد المعركة على أنه مجرد يوم قدر الله لى أن أعيشه، ولذلك دخلت المعركة دون أدنى انفعال أو عصبية.
لا شك أن قرار خوض الحرب ليس بالأمر اليسير؛ إلا أن «السادات» كان له رأى آخر، حيث أكد أنه لم يكن يشغله سوى بعض التفاصيل التى لم تكن إلا مجرد رتوش حول المعركة، قائلاً: «قد يعجب الناس إذا عرفوا أن ليلة المعركة كانت من أحسن الليالى التى نمتها فى حياتي، ولذلك عندما استيقظت فى الصباح قمت بالتدريبات الرياضية اللازمة، وسار برنامجى اليومى كالعادة وكان عقلى فى منتهى النشاط والراحة؛ مستعدًا لمسئوليات اليوم الجديد».
هكذا كانت الأوضاع داخل غرفة العمليات
وأضاف: فى الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر السبت 6 أكتوبر؛ حضر المشير أحمد إسماعيل إلى حسب ما اتفقنا، وركبنا العربية الجيب الخاصة بالجيش، وكنت أرتدى الزى العسكري، وتوجهنا إلى غرفة العمليات حيث جلست فى مكانى والقائد العام عن يميني، وكانت التعليمات أن الجميع يجب ألا يلتزموا بالصيام، وقد أصدرنا هذه الأوامر بفتوى من المشايخ، وكنت أتصور أن القادة قد نفذوها ولكننى لم أكن واثقًا من أن هذا حدث بالفعل فسألتهم:» أنتم ما بتدخنوش ليه؟.. ليه ما بتشربوش سجاير؟.. العملية دى عايزة تركيز وانتباه ولاحظت عليهم حرجًا شديدًا فطلبت الشاى لنفسى وأشعلت غليونى ورحت أدخن.. على الفور فعلوا كلهم مثلي.. وفى الساعة الثانية تمامًا وهى إشارة عبور الطيران وصل الخبر بأن طائراتنا قد عبرت قناة السويس وكانت 222 طائرة نفاثة سرعتها تفوق سرعة الصوت انتهت من ضربتها الأولى فى ثلث ساعة بالضبط، فقدنا فيها خمس طائرات فقط، كما فقدت فى تلك اللحظة من الحرب أخى الطيار الشهيد عاطف الذى هو بمنزلة ابنى لأننى الذى ربيته ولكنهم أخفوا على حينذاك نبأ استشهاد أخي.
عن هذه الضربة، قال «السادات»: نجحت ضربة الطيران نجاحًا كاملاً ومذهلا حسب التخطيط الذى وضعناه لها.. مذهلاً لنا فى المقام الأول فقد حققت الضربة نتائج فاقت التسعين فى المائة بخسائر لم تزد عن 2% ومذهلاً لإسرائيل وللعالم كله شرقه وغربه، فقد كان تقدير الاتحاد السوفيتى الرسمى بواسطة خبرائه قبل أن يخرجوا من مصر أنه فى حالة أية حرب مقبلة فإن ضربة الطيران الأولى سوف تكلف سلاح الطيران المصرى على أحسن الفروض 40% من قوته، ولن تحقق نتائج أكثر من 30% . وبالقطع كان هذا التقدير من جانب السوفيت يهدف إلى تعجيزنا وتخويفنا من المعركة .لم يكن لهم ثقة فينا على الإطلاق تمامًا كما فقدنا الثقة فيهم.
الضربة الجوية تحدد مصير المعركة
بزهوة المنتصر، تحدث «السادات»، قائلاً: فى ثلث ساعة فقط أى بعد عشرين دقيقة من ساعة الصفر كانت طائراتنا قد ضربت مراكز القيادة ومراكز إدارة الطيران ومراكز الدفاع الجوي الإسرائيلى.. وحين تحققت من هذه النتيجة وأنا فى غرفة العمليات هنأت قائد الطيران حسنى مبارك الذى خطط ونفذ هذه الضربة، وهنأت جميع القادة فى غرفة العمليات؛ إذ أن هذه الضربة قد حددت بالفعل مصير المعركة بعد ذلك، فقد فقدت إسرائيل توازنها بالكامل ليس للأربعة وعشرين ساعة الأولى الحاسمة بل لأكثر من أربعة أيام كاملة فقدت فيها السيطرة على قواتها فى سيناء وانقطع الاتصال كاملاً بهذه القوات.
لقد استعاد سلاح الطيران المصرى بهذه الضربة الأولى كل ما فقدناه فى حربى 1956 و1967 ومهد الطريق أمام قواتنا المسلحة بعد ذلك لتحقيق ذلك النصر الذى أعاد لقواتنا المسلحة ولشعبنا ولأمتنا العربية الثقة الكاملة فى نفسها وثقة العالم بنا، وأنهى إلى الأبد خرافة إسرائيل التى لا تهزم.
وعن بقية الأسلحة، قال «السادات»: عقب ضربة الطيران بدأت المدفعية المصرية تزمجر بأكبر تركيز شهده العالم بعد معركة العلمين فى الحرب العالمية الثانية؛ إذ انطلقت قذائف أكثر من ألفى مدفع لتقصف بدقة رائعة أهدافها.. وهكذا بدأت 6 أكتوبر والأداء الرائع للجندى المصرى العربي؛ إّذ لم ينتظر جنودنا على القناة أمر العبور وإنما كان مرور 222 طائرة مصرية على ارتفاع منخفض يكاد يلمس رؤوسهم فى وقت واحد كافيًا لإلهاب حماسهم ومشاعرهم المكبوتة منذ وقت طويل فأخذوا يسحبون زوارقهم إلى مياه القناة من خلف الساتر وفى حالة هستيرية اندفعوا يعبرون القناة وهم يصرخون «الله أكبر».
حينما غادر السادات غرفة القيادة
الرئيس السادات، واصل رصد ما حدث داخل غرفة العمليات، قائلاً: فى الساعة الثامنة إلا ثلث أى بعد ست ساعات إلا ثلثا قضيتها فى غرفة القيادة أبلغونى أن السفير السوفيتى يريد مقابلتى فقلت للجنرال أحمد إسماعيل إننى ذاهب إلى قصر الطاهرة، وهو المكان الذى أعددته بأحدث الوسائل التكنولوجية للاتصال بكل أنحاء مصر حتى لو ضربت المدن والمنشآت وأوصيته بأن يبلغنى بتطورات الموقف أولا بأول بعد أن هنأت الجميع فى غرفة العمليات على الأداء الرائع لقواتنا المسلحة وأرسلت لقواتنا أشكرهم على الجبهة فكما قلت كان مصير المعركة قد تحدد نهائيًا.
وأضاف: عندما التقيت بالسفير السوفيتى كنت أظن أنه جاء ليحمل إلىّ رد القيادة السوفيتية على سؤالى الذى سبق أن سألته وهو مما موقف السوفيت منا؟ ولكن خاب ظنى فقد جاء ليقول لى إن الرئيس حافظ الأسد استدعى السفير السوفيتى يوم 4أكتوبر وأبلغه أن الحرب ستبدأ يوم 6 أكتوبر فقلت له نعم أنا أعرف ذلك، وقد كان ذلك باتفاق سابق بيننا، ثم استطرد السفير قائلاً إن حافظ الأسد طلب فى هذه المقابلة منا -أى من السوفيت - العمل على وقف إطلاق النار بعد 48 ساعة على الأكثر من بدء العمليات ، وبناءعلى ذلك فقد جاء ليبلغنى ذلك رسميًا من القادة السوفيت ويطلب منى الموافقة على ذلك.. قلت له:» أنا أشك فى أن الرئيس الأسد قد طلب ذلك هذا قبل المعركة، ومع ذلك فهل أنت تبلغنى هذه الرسالة كمعلومات أو كرسالة رسمية؟.. قال لى « أنا أبلغك هذا كرسالة رسمية من قادة الاتحاد السوفيتى وإذا كان لديك شك فيمكنك أن تتصل بالرئيس الأسد للتفاهم معه».. بعد ذلك سألته عن الرد على سؤالى الذى أبلغته له يوم 8 رمضان عن موقف الاتحاد السوفيتى من دخول المعركة فأجاب بأنه مازال موضع دراسة، وبمجرد مغادرة السفير للمقر كتبت برقية شفرية إلى الرئيس الأسد وأبلغته بنص ما أبلغه السفير السوفيتى وكان ذلك فى حوالى الساعة الثامنة والنصف مساء بتوقيت القاهرة وأبلغت الرئيس الأسد أيضًا ردى على السفير السوفيتي، وهو أننى لن أقبل وقف إطلاق النار إلا بعد تحقيق أهداف المعركة، ورغم خطورة الموضوع جاءنى الرد من الرئيس الأسد يوم 7 أكتوبر، أى بعد 24 ساعة بأن الذى يدعيه الاتحاد السوفيتى لم يحدث.
«السادات» يكتشف الطعم
يُفهم من هذا أن محاولات الوقيعة بين قيادتى مصر وسوريا كانت قائمة حتى وقت الحرب، إلا أن «السادات» لم يكن بالشخص الذى يبلع الطُعم بسهولة، وأنه يمتلك من الذكاء والدهاء ما يؤهله لقراءة ما بين السطور، ويكفى أنه استطاع خداع العالم بأسره حتى تحقق النصر المبين فى أكتوبر 1973.
وعن محاولة الوقيعة بينه والرئيس السورى حافظ الأسد، يقول: فوجئت يوم 7 أكتوبر بالسفير السوفيتى يطلب مقابلة عاجلة فى المساء، قابلته وقلت له: من نصف ساعة فقط تلقيت الرد من الرئيس الأسد وهو أن ما أبلغته لى كرسالة رسمية من القادة السوفيت لم يحدث.. أبيّض وجه السفير فأصبح لون الثلج، وقال: أنا جاى لك برسالة ثانية من الحكومة السوفيتية بناء على طلب سوريا للمرة الثانية بوقف إطلاق النار».. قلت له «اسمع.. أرجو أن تقفل هذا الموضوع وتعتبره انتهى عند هذا الحد فأنتم تعلمون منذ الأمس أننى لن أوقف إطلاق النار إلا بعد أن تتحقق أهداف المعركة وأريدك أن ترسل للقيادة فى موسكو بأن يرسلوا إلى دبابات فورًا فهذه المعركة سوف تكون أكبر معركة دبابات فى التاريخ.. وهنا أبلغنى السفير السوفيتى بالكوبرى الجوى الذى قرر الاتحاد السوفيتى إقامته لكى يرسل إلى ذخائر ومعدات؛ كان لابد من تسليمها خلال سنة 1973 وفقًا للاتفاقية التى عقدها معهم المشير أحمد إسماعيل فى أوائل عم 1973 .. رحبت على أى حال بهذا النبأ وقلت له» هكذا يجب أن يكون شكل العلاقة بيننا.
وأضاف: بعد ذلك كان السفير السوفيتى يزورنى يوميًا فى قصر الطاهرة لتبادل المعلومات ولكنه لم يكف عن الإلحاح على وقف إطلاق النار وأنا أنهره وأقول له: ليس قبل أن أحقق هدفى وهو ضرب نظرية الأمن الإسرائيلي.
أخبار ذات صلة
المزيد من سياسة
سفارة المغرب تحتفل بالذكرى ال 26 ليوم العرش الوطنى
بحضور «هنو» و«المسلمانى» أحمد هنو: مصر والمغرب علاقات عميقة وتاريخية وتقوم على الاحترام والتعاون
« ديميترى بريجع»ترامب أطلق الإنذار الأمريكى باتجاه المواجهةالمباشرةضد روسيا
تقليص مهلة وقف الحرب الأوكرانية يضع العالم أمام حرب نووية محتملة تسليح أوكرانيا بصواريخ « أتاكمز» بعيدة المدى هو إحدى...
وزيرالدفاع يلتقى عدداًمن مقاتلى الجيش الثانى الميدانى وكلية الضباط الاحتياط
التقى الفريق أول عبد المجيد صقر القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربى بعدد من مقاتلي الجيش الثانى الميدانى...
الإخوان.. من تل أبيب إلى القاهرة
جماعة تؤدى وظيفة الاحتلال