منى الشيمى: الأدب حياتى.. من أجله ضحيت ولا أزال أضحي

يمثل اسمها -منى الشيمى- علامة على كتابة من طراز خاص، تحتفظ بطريقة خاصة جدا فى البوح، وتشارك القارئ تجربتها وأفكارها وأحلامها، وربما تخفى أوجاعها بين الورق، لتشعر كأنك تلمس جرحا خاصا بك أنت، كما تمتلك جرأة التعبير، وصاحبة موقف عادة ما تعبر عنه بدقة ووضوح.. إنها الروائية منى الشيمى، وهى هنا فى حوار خاص.

يقترن اسمك بالعديد من الجوائز المصرية والعربية المهمة، وأخيرا ترشحك للقائمة القصيرة لجائزة اتصالات بالإمارات، برواية للأطفال.. هل تدعم الجوائز الكاتب؟

بالطبع، ألم يدفعك خبر ترشحى إلى إجراء هذا الحوار؟ الجائزة اعتراف بالعمل، وقيمة مضافة له، سواء أكان رواية أم مجموعة قصصية، أو عملًا إبداعيًا يخص الأطفال، لأنها تلقى الضوء عليه وتزيد عدد القراء الآن كما تعرفين. وفق كل هذه المعطيات، فالجوائز، أو حتى مجرد الترشح لها، دافع للمواصلة. لا أقصد أن استمرار الكاتب مرهون بها، بل هى حافز، وتدخل فى نسيج العمل الأدبى نفسه، كما تهفو روح الكاتب إلى إنجاز عمل جديد، تهفو إلى الحصول على جائزة جديدة، بصرف النظر عن قيمتها المادية. بعد المرة الأولى، ربما يتحول الأمر إلى ما يشبه الغواية، وعلى الكاتب أن يبقيها محمودة، وألا يقدم التنازلات للحصول عليها.

 وما التنازلات التى يمكن أن يقدمها الكاتب لحصول عمله على جائزة؟

ثمة خلطة ترغبها بشدة بعض الجوائز الخارجية، منها مثلا تقديم المجتمعات العربية فى صور استشراقية أكثر منها حقيقية. الشرق كما يحبون أن يعرفوه. خلاف تضخيم المسكوت عنه! خاصة الدينى، أو ما يخص المرأة، وانسحاقها. أحترم هذه الموضوعات، إذا كان  المطروح جادا وليس مغازلة للجوائز كما قلت.

 هل الجوائز شهادة على جودة العمل الأدبى؟

ليس بالضرورة فى بعض الأحيان، المحكمون بشر تحكمهم الذائقة وأشياء أخرى. لكن- وللموضوعية والمنطق- فإن العمل الفائز فى أغلب الأحيان مميز، على الأقل بين الأعمال المقدمة للمسابقة نفسها. فنحن يجب أن نضع فى الاعتبار أن أعمالًا كثيرة أخرى نشرت ولم تشارك لأسباب ما. بخصوصى، لا أملك عينين ملونتين، ليس لديّ إمكانيات كيم كردشيان لأحصل على كل هذه الجوائز. ليس لديّ سوى أفكارى ولغتى.. أنا عزلاء إلا منهما! وهما ما يجعلانى أفوز!

 ما وجه الخصوصية فى الكتابة للطفل عن الكتابة للكبار؟

فى كتابة الروايات والقصص، أستعين عند هيكلة الشخصيات بالواقع المحيط، بمخزونى من الخبرات والثقافة، أحيانا تهيكلين شخصية من نفسك فقط، وأحيانا من نفسك واثنين من صديقاتك أو معارفك.. وأحيانا تكتبين بأوهامك عن بعض الناس، ليس ثمة شخصية خيالية تماما، لابد من بذرة واقعية.. وهكذا. أما الكتابة للطفل فهى فى غاية الصعوبة. هذا الرأس الصغير يحتوى على مساحات شاسعة من الخيال. كان ابنى الأصغر يفاجئنى كثيرا، مرة وهو يقول إنه صعد الدرج إلى السحابة، ونام. فى إحدى المرات سألته:" أى درج؟" قال: "درج من الهواء"،"وماذا إذا أمطرت هذه السحابة وكادت تذوب؟" قال: "أقفز إلى أخرى ثم أخرى حتى أصل إلى القمر!" استعنت بخياله عندما كتبت أولى رواياتى للصغار: "الأشجار تعود للرقص" عام 2014، تلاها: "المانجو المسحورة" كتاب مجلة العربى الكويتية. لا أزعم أننى ناجحة تماما فى هذا الاتجاه. هى محاولات تدفعنى إليها الأفكار التى تحضرنى، خاصة بعدما صرت جدة. لازلت أتعلم أن أكون طفلا حسب معطيات هذه الأيام وإمكانياتها، خاصة مع وجود بنك جوجل المعلوماتى. أن أستخدم اللغة الأنسب، ألا أكون مباشرة أو وعظية، أن أدفع الأطفال للدهشة، على الرغم من المغريات الكثيرة فى الميديا، وإلا ستضل كتاباتى الطريق إلى قلوبهم وعقولهم.

 كررتِ كثيرا أن الكتابة رفيق اغتراب الأشخاص بين عائلاتهم وفى مجتمعاتهم، أو هى وسيلة صد.. كيف تحولين فعل الكتابة إلى حيلة دفاعية؟

لست أنا من قام بتحويل فعل الكتابة إلى حيلة دفاعية، تخيلى أن تكتبى على لسان أبطالك ما لا تقدرين على البوح به. أظن الكتابة نفسها من خلق الحالة من داخلها. الكتابة ليست لخلود الكاتب بقدر ما هى للتواجد: هنا، والآن. لن يستفيد الراحلون مما كتبوا شيئا، التذكر لن ينفع الميت! سينتفع به الأحياء وحدهم. عندما نرثى كاتبًا مات للتو، نرثى أنفسنا فيه، مآلنا. الدفن نفسه قد لا ينتفع به الميت، ما الذى يضره فى حال التهمته الكلاب، أو التهمه الدود؟ الأمر سيان!! الاحتماء فكرة الأحياء.. الكتابة مثل الصلاة، أو التأمل، تنفصلين عن الواقع كلية، وعن الأشخاص، لترى كل شىء من نقطة خارجية، كما أن الكتابة مثل أى فعل فيه خلق، يمنح إحساسًا بالرفعة. وإن كان زائفا، وإن كانت الكتابة نفسها لا ترتقى إلى كتابات العظماء، نحن بحاجة إلى وسائل إنقاذ من كل هذا الهراء وكفى!

 إذن هل تعتبرين البوح بالكتابة علاجا ضد الأمراض؟

ليس تماما، أو دائما، جزء فقط منها هكذا، هناك أشياء أخرى، منها أن الكتابة لا تترك فرصة للضجر، هى كالصلاة تنظم المواقيت. أستيقظ صباحا، تهجم أوجاعى فأوقف هجومها بالانشغال مع أحداث روايتى، أشعر بالوحدة فأستدعى أبطالى، أناقش هذا وأواسى ذاك، وأحتضن الجميع، ويحتضنوننى. يضايقنى الواقع فأهرب منه إلى القرن التاسع عشر. أشعر بالملل من بيتى فأدخل أحد بيوتى المتخيلة.. أنجز فأنسى المرض، أو ينسانى، أبوح بما لا يفهمه المجتمع ولا يقدره، فأظل بمأمن من لا وعيه وإن هاجم بطلتي! الكتابة جِلد آخر يستقبل بدلا منكِ الطعنات. فى أحيان كثيرة أترك جسمى يحيا بينما عقلى وقلبى وروحى هناك، وراء الحجب! لست ممن يتبنى شعارات ضخمة، لأقول إن الأدب رسالة، أحمله وأحمل نفسى المتعبة ما لا طاقة لها به.. الأدب حياتى، ومن أجله ضحيت ولا أزال أضحي !.

 لديك قاموس لغوى يخصك، ظهر واضحا منذ روايتك الأولى "لون هارب من قوس قزح"، وتجلى أكثر فى "بحجم حبة عنب"، هل له علاقة بقريتك ومن بعدها مدينتك البعيدة؟

ربما! القاموس اللغوى هو محصلة تجاربنا، وأحلامنا، وثقافتنا، وأقصد بالثقافة: الإدراك وليس حفظ المعلومات وترديدها، ثم إعادتها إلى الدرج بعد عرضها أمام الآخرين.. إضافة إلى البيئة بالطبع، حكايات العمات والجدات، حكايات الدروب الظليلة وجلسات السمر، لكن، دعينى أشرح وجهة نظرى: لديّ قناعة أن الفكرة تأتى بلغتها، لغة الكاتب لا يجب أن تكون جامدة خشبية، هى لينة، تستنبط مفرداتها من داخل المعانى، ومن الحالة، ومن فرادة الشخصيات. كل عمل أدبى هو حالة لغوية خاصة به، جاءت بها الفكرة، دعمتها العوامل السابقة فقط. ربما اللغة شىء غامض، نحن نذهب إلى المجهول لنأتى بالنص، المجهول بكل ما  تحمل الكلمة من معنى، مرات كثيرة تدهشنى لغتى فى هذا العمل أو ذاك، وكأنها ليست لى.. حدث هذا فى "لون هارب من قوس قزح"، وفى ديكومنترى اليهود داخل رواية "وطن الجيب الخلفي". أقسم لك إنها أدهشتنى، ليس لخصوصيتها أو جمالها، لا أحكم على أعمالى ولا أعظمها، بل لأنها ليست لغتي! قد يبدو الأمر مبالغا فيه بالنسبة إليك، فخيالنا نفسه بكل ما فيه من غرائبية لا يعدو أن يكون جزءا منا، هكذا يقول الأطباء النفسيون. لكنه من وجهة نظرى ما قلته لك.. هكذا ببساطة.. فى النهاية اللغة هى مطية الفكرة، خاصة فى السرد. لا يجب أن تكون لغة شاعرة كيلا تثقل عليه..

 أعلنتِ، على صفحتك بالفيس بوك، أنك انتهيتِ من كتابة رواية جديدة عن الأمير يوسف كمال.. لماذا توقفتِ عن الكتابة 5 سنوات؟

لم أتوقف، حاولت الكتابة كثيرا وفشلت، وضعت مخطوطة رواية وهجرتها. وضعت يوسف كمال فى كتاب وهجرته.. لم أكن راضية عن أى منهما. كنت أعانى من الكثير من المشكلات، انتهى معظمها فعادت إلىّ موهبتى (أطلق عليها لفظة موهبة وإن اعتبرها الآخرون كتابة تافهة) ربما عاد جزء منها فقط، لا زلت أحاول إزالة الدوائر التى ظلت مضروبة عليها..

 وما شعورك أثناء التعثر؟

الانكسار، أن تنتزع منك الحاجة الأهم فى حياتك، فهذا يعنى موتك.. كنت، أثناء المراجعة التالية للكتابة لا أقبل حروفى. أستهجنني!! أرض سبخة تتعرقلين فيها، تلطخك الأوحال، تيه لا نهائى، وكوابيس.. كما قلت لك قبل دقائق: الكتابة حياتى. كنت أبكى، وأبتهل أن يعيد الله قدرتى السابقة أو بعض منها إليّ، بلا خسائر. لكن ما شاء الله كان..

 لكن المرحلة لم تخلُ من إنتاج، كتبتِ الكثير من الرسائل أيام كورونا، حملتْ معانى ترجمت مخاوفنا وهواجسنا وآنست العزلة الإجبارية؟

صحيح، كانت تجربة أعتز بها مع الأستاذ أسامة الرحيمى، حتى بعد انفصالنا مؤخرا لن أتنصل منها. وهى بالفعل أنقذتنى وقتذاك، حتى أننى كنت أسميها: "محاولات للتغلب على التوتر والخوف" وكان رد الفعل رائعًا، ربما لإنقاذها الآخرين أيضا من الهواجس، ومن الحجر كما قلت..أعتبرها تجربة مهمة، ألهمت الكثيرين إحياء أدب الرسائل، وكان فى سبيله إلى النسيان. لكنها تظل كتابة حرة، وليست روائية. لا تمنحك ما تمنحه الرواية، لا تنتزعك من الواقع، وتزرعك فى عوالمك المتخيلة.. كنت أكتب الرسالة فور استيقاظى، وأخرج من الحالة، كما لو كنت أعجن خبزا سوف ينتهى بمجرد التهام الآخرين له!

 ما ظروف كتابة "عش جديد" المرشحة لجائزة اتصالات؟

فى أحد الأيام قالت لى ابنتى: أنا حامل! لم أصدق، سأصبح جدة، أنا!! يا الله، شعور لا يوصف، طفل سوف يحمل ملامحك، أو بعض منها.. سوف ينتزعك من سنوات عمرك الكثيرة جدا وأنت تجرين وراءه هنا وهناك، سأتعامل معه أو معها بمفهومى عن الجدات الجميلات، سنحكى الحواديت أو نؤلفها معا. الحفيد حياة أخرى يمنحها الله لنا.. الفكرة حضرت آنذاك. لم تكن أول تجربة للكتابة للأطفال كما قلت لك، لكن وبسبب حالة التعثر التى ذكرتها سابقًا لم أكتبها سريعًا، لكننى أصررت على تجريدها من الزوائد، هكذا صارت رواية صغيرة وجميلة. استلهمت فكرتها من عصفورين اتخذا من جهاز تكييف شقتى الصغيرة فى الغردقة مسكنا، وضعت العصفورة بيضها، فكانت فرصة لمراقبة عالمها عن قرب. كنت من شدة شغفى أدخل جوجل لأستبق معرفة مدة الرقاد على البيض، الفترة التى يستغرقها الصغار حتى اكتساب القدرة على الطيران. أضع لها وأفراخها الطعام والمياه، صادقت كل عصافير الحى، وصادقتنى، حدثتها وحدثتنى، مناجاة لا قِبل لى بها.. بوصول هذه الرواية إلى القائمة القصيرة، رُدت إليّ بعض ثقتى، خاصة وأن الجائزة من أهم جوائز الطفل فى الوطن العربى.

 هل تصرحين لى بمعلومات عن الرواية الجديدة وبطلها الأمير يوسف كمال؟

لمَ لا؟ هى عن حقبة تاريخية كاملة، وإن كتبت عن شخص واحد، أية كتابة هى طبقة وعى تضاف للكاتب، بصرف النظر عما سوف تضيفه للقارئ، كل ما فعلته أن وضعت أحداث هذه الشخصية ضمن سياقها التاريخى، واستخدمت قانون السببية، وعلم النفس فى تفسير التاريخ، وهى مناهج لا يتبعها الكثيرون ممن يكتبون التاريخ الآن، خاصة فى الصحافة، يقتطع الصحفيون القصص وينتزعون الأشخاص، يصبح ما يقدمونه لا علاقة له بالحقيقة، كتابة سريعة لا جهد فيها أبدا، ثم يأتى من بعدهم جيل من الصحفيين الصغار يعتمد كتاباتهم ويأخذ منها، وفى غياب المهنية، يتم التكريس للقصص المشوهة غير الحقيقية.هذه. يتم التكريس للطريقة نفسها: القص/ اللصق.. لهذا أعتبر هذه الرواية مرحلة مهمة من مراحل معرفتى بالتاريخ. تعاملت معها وكأنها بحث علمى، لم يخل من أدوات الدراما. أتمنى أن يجد فيها القارئ متعته!

Katen Doe

هانم الشربينى

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

wave

المزيد من ثقافة

wave
قصة قصيرة - فانوس علاء الدين

"فانوس علاء الدين.. ادعكه  وحقق أحلامك!".. يقولها البائع بحماس كلما مر أمامه زبائن محتمَلون، ثم يعود لصمته،

المعركة المجهولة بين الأقباط والعقاد حـول كتابه «عبقرية المسيح»

مفاجأة ليست فى الحسبان يفجرها لنا روبير الفارس عن كتاب "عبقرية المسيح" للعقاد، الذى كنا نحسبه تحية مقدرة من الأقباط...

لطفية النادى.. أول فتاة مصرية تحمل لقب «كابتن طيار» منذ اختراع الطائرات

قصة حياة "لطفية النادى" فيها التحدى، وفيها الثقة بالنفس وحب المغامرة و"الجنون"، فهى ابنة أسرة متوسطة،

مدير تعليم الجيزة يتفقد اليوم الأول لقاعات التدريب في مسابقة 30 ألف معلم

بناءً على تعليمات وزير التربية والتعليم والتعليم الفني الدكتور رضا حجازي، واللواء أحمد راشد محافظ الجيزة؛ وفي اليوم الأول لتدريب...