كمال عيادى: أدونيس كان يمشى ساعتين حافى القدمين ليذهب إلى«الكُتَّاب»

خلال هذه الأيام يحتفل الشاعر الكبير على أحمد سعيد، والمعروف بـ"أدونيس"، بدخوله إلى التسعينيات من عمره، وإذ نحتفى به، نستغل هذه المناسبة أيضا للقاء أحد عباقرة السرد فى
خلال هذه الأيام يحتفل الشاعر الكبير على أحمد سعيد، والمعروف بـ"أدونيس"، بدخوله إلى التسعينيات من عمره، وإذ نحتفى به، نستغل هذه المناسبة أيضا للقاء أحد عباقرة السرد فى الوطن العربى، ممن تجمعهم بأدونيس علاقة ممتدة، ليحدثنا عنه، ونقصد بذلك الروائى التونسى كمال عيادى الكينج، الذى حكى لنا الكثير من الذكريات التى جمعته به.
هناك صداقة ممتدة بينك وبين الشاعر الكبير أدونيس، كيف تصفه كشخص مقرب له؟
كثِيرونَ الذين يعرفون جيدًا أدونيس الشاعر، من خلال مُجمل منجزه الشعرى أو من خلال منجزه النّقدى. لكن قلة الذين يعرفون على أحمد سعيد إسبر (أدونيس) الإنسان عن قرب. أدونيس الإنسان الطيّب الودود المنطلق المرح المتوقد، هو نفسه الذى اختار ومنذ سنوات شبابه الأولى، وتحديدًا منذ سنة 1948 أن يتوارى خلف لافِتةِ أدونيس الشاعر، المفكر، المهموم، الباحث، الصوفى، الفيلسوف، حتى عاد الجميع يستحضرونه فى ذاكرتهم، كعلامة مميزة للجدية والعمق والنفاذ والحكمة. قليلون يعرفون مثلا، أنه أب رائع لبنتين لؤلؤتين هما أرواد ونينار إسبر التى نشرت معه سنة 2010 حوارات فاتنة، عنونتها بـ:(أحاديث مع والدى أدونيس)، استجوبت فيها والدها على مدى عشر مقابلات حميمة جدًّا، حول نشأته وثقافته وعن الشعر والوطن، وعن المرأة والحجاب والديانات التوحيدية والإرهاب، وقليلون يعرفون أنه أنجبهما من زوجته الكاتبة والناقدة الكبيرة خالدة سعيد، شقيقة الشاعرة سنية صالح زوجة الشاعر والكاتب السورى الكبير محمد الماغوط. وأنه زوج محبّ عاشق، منذ 1956، تاريخ اقترانهما، وأنه أب يفيض رقّة وعذوبة.
كيف كانت طفولة أدونيس؟
فى 1930 وفى عمق إحدى القرى الفقيرة قرب مدينة جبلة فى محافظة اللاذقية، تُسمى القصابين، وهى عبارة عن بيوت طينيّة أو قل هى أكواخ من الحجر المسنون والطين المحروق، وُلد شاعرنا الكبير. وكان يضرب فى الأودية الموحشة، ساعيًا إلى الكُتَّاب، حافى القدمين، مشوّش الذهن، وجلا، ليصل بعد ساعتين ويقرفص مع الصّبية، يفكّ شفرة لغة تبدو متكلّفة وتتفصد مراهم وزيوتًا قبل أن ينتبه إلى كم العذوبة فى صليلها وهسهستها وسقسقتها وعمقها. ولم تكن اللغة العربية الصارمة، لتبيح نفسها بسهولة، وهى التى ترفل فى ثوب خشن من القواعد والصناديق والعلامات والقوانين. وحين يعود معفرًا بالطين والتراب، كانت أمّه تجلسه فى قصعة الغسيل، وحين كان يصرخ ويتملص منها باكيًا وصارخًا من حرقة رغوة الصابون فى عينيه، كانت تشده شدًّا وتقول له بنفاد صبر، وأحيانًا بهدوء ملهم: قلت لك أغمض عينيك عندما أغسل رأسك يا كبدى.
ويكبر على أحمد سعيد، وينجو من النهر الذى كاد مرات أن يبتلعه وهو هائم فى تقدير المسافة الفاصلة والممكنة بين ضفتيه. يكبر وصوت أمه يمسح عن عينيه رغوة الصّابون، مذكرة إياه أنّ عليه أن يُغمض عينيه حين يُغسل رأسه. يكبر، دون أن ينسى الوصية أبدًا، فتعود أن يُغمض عينيه حين تحرقه العبارة أو المعنى، فيراها غير ما نراها، ويستدرجها فتطيع، ويناديها فتحضر، ويلاطفها فتلين، ويشكو لها فتذبل وتتنهد وتهيم.
كيف تغلب على هذه الطفولة الصعبة وانفلت منها؟
عندما بلغ سنّ الثالثة عشرة كان يعتريه نداء ملح أن يواصل تعليمه بمدرسة أكبر وأوسع، ويسمع من بعض من سبقوا أنّ المدارس جدران من الحجر الملوّن ومصاطب مبلطة وألوان بديعة وبنات كالورد وأناشيد وفطور صباح ولكنة أجنبيّة مدوّخة وفاتنة. ولأنّ القدر يستجيب حين نصرّ، ويتهيأ أسبابًا، فقد حدث سنة 1943 أن شكرى القوتلى أوَّل رئيس للجمهورية السوريّة بعد الاستقلال زار منطقة اللاذقية، ضمن برنامج زيارته وتفقده للمناطق السورية ورغبته فى التعرف عن قرب إلى شعبه. وانتهزها الشاب – الطفل الألمعى على أحمد سعيد، ففكّر أن يكتب قصيدة يلقيها أمامه مرحبًا، وكان على يقين مسبق بأنها ستعجبه وأنه سيطلبه ليراه، وحينها سيكون بإمكانه أن يطلب منه مساعدته على الالتحاق بالمدرسة الابتدائية فى القرية المجاورة وراء ذلك النهر المتربّص، وفعلا كان الأمر كذلك، وبعد تقديمه لقصيدة أمام رئيس الجمهورية دعاه الرئيس شكرى القوتلى سائلا إيّاه:
ما الذى تنشد وتريد يا بُنى؟
- أريد أن أدخل المدرسة، أريد أن أتعلم؟ أجاب الطفل الشاعر.
- لك ذلك. أنت جدير بأن تكون مهمًّا فى هذا البلد.
وفعلا، أنجز الرئيس ما وعد، ودخل أدونيس مدرسة "اللاييك" بطرطوس على نفقة الدولة. ثم تابع دراسته الثانوية فى اللاذقية.
متى جاء التحول من اسمه إلى "أدونيس" وما سببه؟
أيّامها، كان قد بدأ كتابة قصائد شعريّة ونصوص نثريّة تفور حماسة وتمور بفورة الشباب والإقبال النّهم على السؤال والاستفسار عن المعنى والجوهر، ويحاور العناصر والأسباب بنفاد صبر واستنكار، وكان يرسل نصوصه كلّ يوم تقريبًا إلى عدّة مجلات ومنابر عبارة عن أركان وملاحق أدبيّة بصحف سياسيّة محليّة، لكنّ صبره نفد وهو ينتظر دون أن يرى نصوصه منشورة. وهذا غاظه. وغير حياته فيما بعد، وحدث أيّامها أن وقعت فى يده مجلة أسبوعية قرأ فيها مقالة عن أسطورة أدونيس: ذلك الفتى الأسطورى الجميل الذى عشقته عشتار وهامت به، وكيف قتله الخنزير البرى، ثم كيف كان يُبعث كل سنة فى فصل الربيع، فأثّرت فيه الأسطورة بشدة ورجّته رجًا وقرر من يومها أن يبادر وفورًا إلى استعارة هذا الاسم الملهم ويوقّع به نصوصه.. وحدّث نفسه، أنّ ما يحدث له شبيه بما يحدث لأدونيس فى الأسطورة، وبأنّ هذه المنابر والصحف التافهة المتعالية الظالمة مثلها كمثل الخنزير البرى، تحاول أن تصرعه وتقتله بهذا التجاهل الموجع. ومن يومها، كان أدونيس.
لماذا درس الفلسفة بعد ذلك وليس الأدب؟
عندما بلغ العشرين من العمر، قرّر أن تكون وجهته دمشق، فالتحق بكليّة الحقوق منبهرًا بمجد خريجيها وسلاستهم، وظن أنه طريقه المنذور، لكنه لم يصمد بالطبع أكثر من سنة واحدة لم يُكملها، ليدرك أنّ حفظ قوالب القانون الصارم، ومناهج الدراسة المتجهّمة، ليست ما ينشد، فانتقل إلى كلية الآداب، مسجّلا نفسه بقسم الفلسفة، ذلك أنه كان على يقين تام، بأن قسم اللغة العربية أكثر بلادة من أن يحتمله. وأن ما سيضيعه من سنوات فى دراسة الشّعر الجاهلى الذى كان على كلّ حال يلمّ به، سيكون مثله كمثل من يغرف قهوته الساخنة بشوكة ليبرّد حرارتها. فى حين أنّ قسم الفلسفة، كان سيتيح له إجابات عن أسئلة ترهقه وتضنيه. كما أنّ قراءاته الفلسفية أيامها كانت متينة، وأغراه كانط وهيجل وديكارت واستفزه نيتشه وبشلار ومونتسسكيو وألهب السؤال الفلسفى حماسته، فلم يتردد وهمّ بالكتب والملاحق والبحوث، يعبّ منها عبًّا وبنهم، دون أن يهمل الجانب السياسى، فانخرط فى الحزب القومى السورى، وفى هذه السنة، تعرّف إلى زوجته وحبيبته ورفيقة دربه، الباحثة والمفكّرة والناقدة خالدة سعيد التى سيقترن بها بعد التخرّج مباشرة والتى كانت أيامها طالبة من خارج الجامعة وتدرُس أيضًا بدمشق فى (دار المعلمات).
ما طبيعة المشهد الشعرى العربى وقت بداية تفجر موهبته الشعرية؟
فى هذه الفترة، وتحديدًا فى بداية سنة 1955، كانت دمشق تغلى وتمور سياسيًّا وأدبيًّا. كان نزار قبانى قد بدأ يفرض نفسه كشاعر متفرّد يحلّق بعيدًا عن السرب بلغة نافذة وقاموس ليّن كالماء وصلب كالصّخر، ويخطف الدّهشة والإعجاب من الجميع، يتطلّع له الشرق والمغرب العربى كلّه وهو يهمهم، أنّ الشعر هذه المرّة سيبزغ من جديد من هناك. من سوريا. ومن قصور وحدائق وحرائق دمشق. وكان الشّاعر بدوى الجبل يطلّ من علياء، حاضنًا الضمير والرؤية والرؤيا معًا. وكان الشاعر الكبير عمــر أبو ريشة، يعيد تفكيك وترتيب العناصر فى شعره بشكل بديع ومذهل، فى حين الشاعر العملاق نديم محمّد يرسم خطوط مدوّنة ستعيد تشكيل ملامح بنية الشعر العربى الحديث، دون أن ننسى ما كان يصل سوريا من أصوات ثائرة لشعراء أفذاذ مثل الشاعر سعيــد عقـــــــــل وسعدى يوسف ويوسف الخال ويوســــف الصايــــغ وصلاح عبد الصبور وعبد المعطى حجازى وعبد الله البردونى ومحمد الفيتورى وشعراء شبّان عباقرة ألمعيين من مصر والعراق واليمن ومنور صمادح والميدانى بن صالح والقرمادى من تونس وغيرهم.
هل أثر انتماؤه السياسى عليه كمبدع يبدأ مرحلة بزوغه؟
فى هذا الوقت المبكّر من مسيرة أدونيس، بدأ يلفت له الانتباه بعد أن نشر فى مجلّة الجيثار باللاذقيّة، قصيدته الرائعة المطوّلة (الفراغ). ولكن وبسبب انتمائه إلى الحزب القومى السورى المحظور، زجّ به فى سجن القنيطرة، ليقضى به سنة، كانت ضروريّة ليعيد التأمل فى كلّ قناعاته السياسية وليقوم بنقد لاذع للحزب القومى السورى، ليخفت فيه السياسى الجامح المتهور وليعلو فى أعماقه ووجدانه صوت الشاعر المتأمّل الرصين العميق والباحث الألمعى الذى سيربك العالم وهو يحاوره ويجادله بقسوة وحضور بديهى وعمق نادر، متقدمًا وهو يشهر رايتين: منجز نقدى باذخ ومُنجز شعرى مُجدّد مقوّض مُؤسس مُدينًا ومقترحًا فى آن.
كيف كانت مرحلة مجلة "شعر" التى ساهم فى إصدارها؟
التقى بيوسف الخال، ونتج عن لقائهما مجلّة "شعر" التى مثّلت علامة فارقة حرّكت الساحة ورجّتها رجًّا، ودامت ست سنوات، لتتوقّف سنة 1963. ليصدر بعدها مجلّة "مواقف" إثر نكسة 1967، لكنه لم يتحمّس لها حماسته لمجلّة (شعر) ولم يكن الوقت يشجع على أية حماسة فى الحقيقة، كان جميع شعراء الوطن العربى يمرون بفترة إحباط وقنوط ويأس. كانت الهزيمة أعمق من كلّ جرح يمكن تصوره. وكان السبيل الوحيد المتاح للمواساة، هو السكوت والحزن وابتلاع علقم المرارة.
متــى أنجـــــز أطروحتـــــه الشـــهيرة "الثابت والمتحول"؟
سنة 1973 كانت سنة أدونيس بامتياز، فقد عاد فيها بقوّة، من خلال عدّة نصوص شعرية وترجمات وهى السنة التى نال خلالها شهادة دكتوراه الدّولة عن بحث (الثابت والمتحولّ)، وهو الكتاب الذى رجّ العالم العربى أيّامها رجًّا، وما زال إلى اليوم وسيبقى كإحدى أمهات المراجع والمباحث النقدية الجادة فى مدوّنة الشعر العربى.. ومنذ ذلك الوقت، عاش سندباد محاضرًا ومرتحلًا بين جامعات ومراكز البحث فى فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة وألمانيا والنمسا وإسبانيا وهولندا والبرتغال وغيرها، وتلقى عددًا من الجوائز العربية والعالمية وعشرات من ألقاب التكريم، كما تُرجمت أعماله إلى ما يقارب العشرين لغة. حتى انتهى به الترحال إلى عاصمة النور باريس، حيث التجأ إليها مع عائلته، بسبب ظروف الحرب، ليستقر بها منذ قرابة الثلاثين سنة.
متى كان آخر لقاء بينكما؟
خلال ربع قرن، التقيت بأدونيس عدّة مرّات، فى العديد من البلدان العربية والأوروبية، وكان آخر لقاء لى به بباريس. كنت على سفر، وأردت أن أراه لمدّة نصف ساعة، فإذا الوقت يسرقنا، وإذا بى أنسى موعد الباص الذى سيقلّنى لمدينة ميونيخ حيث ابنتى وحيث عشت أكثر من ربع القرن. ساعات وساعات ونحن نضحك كالأطفال. ونتماسك حتى لا تخوننا دمعة، ونحن نتذاكر وضع سوريا والعراق وليبيا واليمن والعالم العربى المعطوب.. وحين تذكرت الوقت، عانقته مستحلفًا إياه ألا ينسى أبدًا أننا نحبه وأننا نراه فى أوطانه وفى منفاه. وأنّنا سنراه ما بقى فى صدورنا نفس يتردد.. ذلك أنّ رأسه برج نار. وأننا نهتدى به كما العلامة بيننا حين تشتدّ ظلمات هذا الزّمن المريب.. وقلت له شكرًا.. نعم... أكيد أننى لم أنس أن أقول له شكرًا.
أخبار ذات صلة
المزيد من ثقافة
مؤسسة منتدى "أصيلة" المغربية تنظم الدورة الخريفية لموسمها الدولي
تنظم مؤسسة منتدى أصيلة، برعاية من العاهل المغربي، الملك محمد السادس، الدورة الخريفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي السادس والأربعين، وذلك...
علاج الحول عند الاطفال.. أ.د. هبة متولي تدعمهم بحملة "متخبيش عينيك"
اختيار افضل دكتور حول اطفال في مصر يعد خطوة تؤثر مباشرة على رؤية طفلك ومستقبله، والخبر الجيد أن مصر تضم...
كيف تختار الحذاء الرياضي الأمثل وتوفّر مع أفضل العروض
ممارسة الرياضة أمر ضروري رائع لصحة الجسم والصحة النفسية ، ولكن عند ممارسة الرياضة يجب اختيار نوع الحذاء الرياضي المناسب...
في بيت يحيي حقي .. كانت لنا حكايات
أنت مكافح ولك مستقبل .. لا أنسى ما حييت هذه الجملة " الوسام " الذي قلده لي يحيي حقي حينما...