فى عام 2009 شاهدت تجربة مختلفة لمراد منير مع كاتب كبير من نفس عائلة نجيب سرور وسعدالله ونوس، كاتب من أبرز من
كتبوا المسرح فى النصف الثانى من القرن العشرين، وذلك من خلال نص «على جناح التبريزى» لألفريد فرج، وعُرض للمرة الأولى فى موسم 68-69، ثم طرح شخصية أمير ثرى ذى طابع عدمى أنفق كل أمواله على أصحابه ومن أجل المتعة، ليس المتعة المجانية، لكن المال كان بالنسبة له وسيلة للمعرفة، معرفة كل أسرار الحياة، ثم أفلس وهذه نتيجة طبيعية.
وجوهر شخصية على جناح التبريزى هو منطق أرسطو، ليس فقط لأنه يصرح به فى النص المسرحي، لكن منذ السطور الأولى والتبريزى يقيس الكلمات بالقياس المنطقى الأرسطى، ولديه رؤية عميقة للحياة لا تخلو من الفلسفة، بل الفلسفة عمادها، وإن كان يبدو لاهيا، لكنه فى أعماقه كان حكيما وهذا يتأكد فى كل مشهد. فللوهم منطق وللخيال فلسفة، فإذا ظن البعض أن الجنون أصابه طبقا لظاهر أفعاله، فهو فى تلك اللحظة يعطى درسا عميقا فى الحكمة والمعرفة.
ومنطق أرسطو الذى تتبعه هذه الشخصية والبناء العميق للنص الذى يعتمد على الرؤية الفلسفية لهذه الشخصية يحتاج إلى لغة دقيقة.. كل كلمة محسوبة وكل جملة لا تحتمل الحذف أو الإضافة، وهذا ما فعله ألفريد فرج بمهارة فائقة فى النص الفصيح، من خلال لغة عربية فصيحة بمقوماتها المعروفة مع استغلال كل طاقات اللغة الفصيحة من حيث التراكيب العربية للقاموس الفصيح، وهذا الأسلوب اللغوى يمنح الممثل أن يُسكن أواخر الكلمات فيحتفظ بمقومات وجرس الفصحى، وهذا نص كلام ألفريد فرج نفسه حول مسرحية «حلاق بغداد»، وهو ما ينطبق تماما على مسرحية «على جناح التبريزى»، ويضيف «بذلك أدع للممثل حرية التعبير بالنبرة الفصحى أو العامية حسبما تقتضيه المواقف المسرحية أو طبيعة الشخصية».
ومن يقرأ نص التبريزى الذى عرض فى موسم 68-69 من إخراج عبدالرحيم الزرقانى، وبطولة أبوبكر عزت وعبدالمنعم إبراهيم، يشعر بقدرة ألفريد فرج على تطويع اللهجة الفصحى وجعلها مناسبة للأداء المسرحى المنطوق بلا أدنى عوائق للممثل.
وفى عام 1991 قام ألفريد فرج بكتابة نص «على جناح التبريزي» مرة أخرى باللهجة العامية تحت عنوان «اتنين فى قفة»، وأخرجه مراد منير من إنتاج سمير خفاجى لمسرح القطاع الخاص، بلهجة عامية اعتمدت أسلوب الفارص، ليقدم التطور الثالث لنص ألفريد فرج وأعنى به «سى على وتابعه قفة» عن نص «اتنين فى قفة» التطور الثانى لـ»على جناح التبريزى»، وهو التطور الأول لثلاث حكايات من «ألف ليلة وليلة»، وهى «المائدة الوهمية وحكاية الجراب وحكاية معروف الإسكافى».
هذه الحكايات الساحرة القادمة من حكايات «ألف ليلة وليلة «لم يكن لها أن تصعد إلى خشبة المسرح، وتخرج من منطق الليالى الذى لا منطق له إلى منطق الدراما إلا بمعالجة محكمة من ألفريد فرج، ويقينى أن هذا يكمن فى معالجته لشخصية التبريزى الذى تبنى المنطق الأرسطى.. فهناك للخيال منطق وقواعد تبرر أفعال هذه الشخصية.. فلماذا صدق الناس أن لعلى قافلة فى الطريق؟ ومن قبل لماذا هو صدق نفسه ومائدته الوهمية؟ ولماذا غرق الإسكافى فى وهم صاحبه ورآه حقيقة؟ وحدث ذلك من خلال المعالجة الدرامية المحكمة لشخصية التبريزى من المؤلف، وليس عبثا أن يضع حكاية الجراب بين الفصلين والتى تحولت إلى أمثولة يقول القاضى فى نهايتها: «هل هذا الجراب بحر بلا قرار أم هو كوكب جديد سيار؟». ويضع يده فيه ويخرج شيئين، كسرة خبز وزيتونة، حيث تصور الخصمان المتنازعتان أن فى الجراب الدنيا وما فيها، وهذه الأمثولة هى المعادل الموضوعى لأفعال التبريزي، فكما أن الزيتونة هى العالم وما فيه، أيضا خيال التبريزى صار أفعالا غيرت الدنيا، فهذه الزيتونة وفقا للنص فى بطن عمر الخيام تتحول إلى دم يجرى إلى القلب العظيم فيخفق بكل معانى الإبداع العظيم، وأيضاً فى بطن الفيلسوف ابن سينا تتحول إلى نسيج من نسيج عقله وتلهمه الفكر العميق والمدهش، وهكذا خيال التبريزى فعل كل هذه الأفعال المدهشة .
وقدم مراد منير عرضاً كوميدياً مختلفا تماما وفقاً لرغبته فى تقديم مسرح شعبى يعتمد على عناصر الفرجة المسرحية من خلال الغناء والموسيقى والاستعراض، بطولة محمد الحلو ومحمود الجندى ولطفى لبيب وعزة كمال، حيث أدى دور التبريزى محمد الحلو، فكانت للغناء المساحة الأكبر فى هذه الشخصية، وكتب سيد حجاب الأشعار سواء للأغانى أو للاستعراض، ليقدم مجموعة من اللوحات الاستعراضية اعتمدت على نص وأفكار ألفريد فرج لكنها حملت توقيع مراد منير الذى انحاز لفنون الفرجة ومغازلة المشاهد فى العقد الأول من الألفية الثالثة.
وفى عام 2015 قدم مراد منير تجربة مثيرة من خلال نص «عائلة توت» للمجرى اشتيفان أوركينى، حاول من خلاله ليس فقط تسييس النص بل وضعه فى قالب الفرجة، قالب مراد منير، واستدعى رفقاء الرحلة أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، واستعان بأدواته ليصبح الجنرال أمريكيا واسمه نيكسون، وفى المشهد الأول صورة لأوباما فى ملابس ووجه أسامة بن لادن، ويسخر ساعى البريد منه فى أول كلمات يستمع إليها الجمهور، فهو يؤكد له أننا الليلة سوف نهاجم هذا العدو بل ويحدد اتجاه العرض الذى سوف يكون سياسياً بوضوح، خاصة بعد استعارة أغانى الراحلين الكبيرين أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، وهذه الأغانى التى ترتبط فى ذاكرة المشاهد بلحظات سياسية ومرجعية تاريخية، فوضع المخرج المشاهد منذ اللحظات الأولى فى زمن حدده سلفاً وفرضه عليه، فالجنرال أمريكى وهو آت ليستعمر هذه الأسرة يفرض سيطرته عليها، وهو وقح وخائن، وفيه كل العبر ويجب ذبحه، ليتحول العرض إلى هجاء سياسى فى أمريكا، فالجنرال أطلق عليه المخرج اسم نيكسون حتى يغنى له «شرفت يا نيكسون بابا.. يا بتاع الووترجيت.. عملوا لك قيمة وسيما.. سلاطين الفول والزيت».. ثم حين يزداد طغيانا فى أهل البيت، أى عائلة توت، يغنى له «ناح النواح والنواحة على بقرة حاحا».
ورغم حبى واحترامى لأغانى نجم وإمام فإننى لم أشعر بها فى هذا العرض وشعرت بنوع من الترقيع، كمن يرقع ثوباً جديداً برقع قديمة، كما حدث فى عرض «على جناح التبريزى»، حيث يحاول العرض قراءة اللحظة الراهنة بمفردات من زمن مضى، ناهيك عن الإعداد السياسى المباشر لنص اشتيفان أوركينى الذى يصفه مؤلفه بأنه تراجيكوميدى، كتبه بلغة وصفها النقاد بأنها لغة مسرحية يمتزج فيها الرعب بالفكاهة، والمأساة بالسخرية، وهى تجعل الجمهور حين يشاهدها يتأرجح بين الخوف والضحك والرثاء، لينقل أحداث المسرحية التى تقع عام 1943 فى قرية مجرية أثناء الحرب العالمية الثانية، إلى العرض فى الزمن الحالى.. مع احتفاظ بعض الشخصيات بالسمات الأساسية فى نص أوركينى.. فعلى سبيل المثال جاء قائد المطافئ «توت» الذى أدى دوره رجل مخلص لعائلته، ويعيش لنفسه ولهذه العائلة، طيب الخلق، كسولا إلى حد كبير ويحب الراحة، وهذه الصفات التى احتفظ بها العرض للشخصية يمكن أن تتبينها بصعوبة فى خضم الهجاء السياسى. أما الجنرال الذى أدى دوره والذى من المفترض أنه أمريكى فى العرض فيدخل علينا بملابس عسكرية، وهذا الجنرال فى نص أوركينى من المفترض أنه شاذ فى طباعه يعانى صدمة عصبية، يستثار من أتفه الأمور إلى حد العنف، وقدومه إلى هذه العائلة هو الحدث الرئيسى فى العرض، حيث تتبدل حياة الأسرة ويسعى الجميع لراحته، وتتفانى الأسرة من أجل سعادته حتى ينعكس هذا على ابنهم المجند تحت إمرته، وبالتالى سوف يضعه فى مكان آمن بعيداً عن الجبهة، وذلك من خلال أفعال إنسانية بسيطة لكنها دالة وعميقة، فهذه الأسرة البسيطة تتفانى فى إرضاء الجنرال المجنون الذى بدوره يحاول استعبادها، وهى الفكرة الرئيسية فى النص، ويدعمها أن شخصيات النص مستلبة باستثناء الطبيب النفسانى، فالأم «مسز توت» سيدة بسيطة تتفانى من أجل المبادئ وتدعم زوجها للحفاظ على احترامه لنفسه، وفى نفس الوقت تتخلى عن كل هذا فى سبيل راحة ابنها، وتنصح زوجها بأن يلبى كل نزوات الجنرال، أما ساعى البريد فهو شخصية غريبة، يقرأ الرسائل ويسلم ما يروق له، يمنع الأخبار السيئة عن أصحابها أو ما يعتبره ليس مهماً، وهذا ما يبرر تأجيله لخبر وفاة توت الذى نعرفه فى بداية الفصل الثانى.
وفى النهاية تصاب العائلة بالجنون من أفعال الجنرال المصاب بلوثة، وبعد أن يدمر حياة العائلة يعود مرة أخرى ليقطعه الأب توت على نفس القطاعة التى كان يجبر بها العائلة على أن تسهر كل ليلة حتى الصباح لعمل علب لا معنى لها!.. هذا العبث الذى لا يخلو من رؤية فلسفية تتحول إلى هجاء سياسي، ضد أمريكا وأوباما من خلال لوحات غنائية استعراضية .
وفى نهاية هذه الحلقات وبعد استعراض نماذج من أعمال مراد منير التى تنوعت من خلال نصوص كان حريصاً فى اختيارها، ورغم اختلاف اتجاهات أصحابها المسرحية، فإنها خضعت لرؤيته ومشروعه المسرحى الذى وضع المشاهد فى المقدمة، وكان حريصاً على قوة العلاقة بين الخشبة والصالة، ولم يتخل عن عناصر الفرجة المسرحية الشعبية فى محاولة لطرح أسئلة الواقع على الجمهور وجعله شريكاً أساسيا فى العرض المسرحى.
محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام
حول قصة صبى يتيم اسمه بيتر ينشأ على يد جندى سابق معاق، الذى يعامل بيتر على أنه مجند، ويعلمه أن...
اختار المخرج جمال ياقوت نصاً مسرحياً إسبانياً ينتمى إلى نوع مسرحى حديث هو «الميكروتياترو» ليقدم من خلاله عرضاً
كلنا نحب عبد الحليم حافظ، كلنا بمعنى الأجيال التى سمعت صوته فى مراحل مختلفة وشهدت تحولات الوطن وانعكاسها على صوته،
انتهت فعاليات النسخة 76 من مهرجان كان السينمائى الدولى مساء السبت، التى انطلقت منذ يوم 16 الشهر الماضى بحضور عدد...