تورناتورى يرسم بالموسيقى أسطورة عازف البيانو فـى قلب المحيط

من فوائد الحظر والبقاء فى البيت الاطلاع على ما فاتنا من أفلام خصوصا الكلاسيكية، وكان من ضمن الأفلام التى وضعتها فى جدول المشاهدة "سينما باراديسو" للمخرج الإيطالى

من فوائد الحظر والبقاء فى البيت الاطلاع على ما فاتنا من أفلام خصوصا الكلاسيكية، وكان من ضمن الأفلام التى وضعتها فى جدول المشاهدة "سينما باراديسو" للمخرج الإيطالى جوزيبى تورناتورى، المولود فى جزيرة صقلية عام 1956، فهو الفيلم الذى توجه واحدا من أفضل صناع السينما فى ذلك الوقت. وبالتالى قررت أن أتتبع باقى أفلام هذا المخرج العبقرى فصدمت بـ"الأسطورة 1900".. فيلم غاية فى الروعة، ويحمل فكرا فلسفيا فريدا من نوعه، وحالة إنسانية تلمس كل القلوب ويعيشها كل الناس فى كل العالم.

الأسطورة 1900" أحد أفلام تورناتورى التى لا تسأم من مشاهدتها مرات ومرات، فهو لا يقل سحرا عن سابقيه "سينما باراديسو" عام 1988، و"الجميع بخير" عام 1990، الذى قدم فيه مرثية حزينة عن العلاقة بين الآباء والأبناء، و"مالينا" الذى قدم فيه مونيكا بيلوتشى رمزا للجمال الذى تحول إلى لعنة. أما "الأسطورة 1900" فلابد أن تعيد رؤيته مرات ومرات، وفى كل مرة ستستمتع وتكتشف جماليات جديدة، حيث يصعب أن يستوعبها عقل مرة واحدة، إذ يحتمل العديد من التأويلات، ويحمل سعة جمالية قادرة على بعث نسمات مختلفة من الجمال فى كل مرة نشاهده فيها.

إذا كان "سينما باراديسو"، الذى وضع المخرج بين مصاف كبار عباقرة المخرجين، يعتبر قصيدة فى روعة السينما وجمالها، فإن فيلم "الأسطورة 1900" قصيدة مدح كبرى فى روعة الموسيقى وجمال معزوفاتها التى ترتقى بالروح، وتسمو بالأحلام، وتجعل من سفينة بحرية بأبعادها المجردة عالما بلا حدود، يعيش فيه البطل "دانى بودمان تى دى ليمون 1900".

يبدأ الفيلم بسفينة تمر على تمثال الحرية، ويصيح الركاب "إنها أمريكا"، وكأنهم وصلوا إلى غايتهم وتحققت أحلامهم وأمانيهم فى الوصول إلى أرض الأحلام. فى هذه السفينة فى اليوم الأول من عام 1900 يزحف أحد العمال فى الصالة الكبرى، بعد مغادرة الركاب الذين كانوا يحتفلون فى الصالة، باحثا عن شىء يمكن أن يجده من مخلفات الأثرياء منهم، وبدلا من أن يجد بقايا الطعام أو علبة سجائر، يجد رضيعا حديث الولادة تركه الأثرياء خلفهم، ليبدأ هذا الرضيع رحلة حياته على السفينة، ولا تطأ قدمه الأرض حتى يموت فى جوفها.. ولأن الطفل ولد فى مطلع القرن العشرين، فاإ العامل الذى وجده أطلق عليه اسم "دانى بودمان تى دى 1900".

يعيش الصغير على ظهر السفينة، يستقى خبراته من العمال والركاب، خبرات تجعل قدرته على النجاة بحياته أكبر من عمره، وتزيدها خبرات استقاها من الركاب العابرين على ظهر السفينة أثناء توجههم إلى أرض الأحلام، يترقبون أول صيحة لمن سيرى تمثال الحرية حين توشك السفينة أن ترسو على شاطئ أمريكا. يراقب 1900 العازفين على البيانو وأصابعه الـ88، وكيف تخرج منه أصوات ومعزوفات لا حصر لها، ويقرر أن يجرب فتخرج من بين أصابع الطفل معزوفات رائعة، تجعله واحدا من أهم العازفين فى الفرقة الموسيقية التى تعمل على ظهر السفينة، هذه المعزوفات جعلت من وجود 1900 حقيقة وهدفا يقصده الركاب الأثرياء والفقراء، يحملون قصصهم معهم إلى أن يصلوا إلى أمريكا، ليبدأوا حياة جديدة.

تنتهى قصة الركاب على السفينة، ويظل 1900 قابعا بها، إلى أن يأتيها ركاب جدد وقصص جديدة، بعضها يأسرك بغرابته، مثل قصة المهاجر الإيطالى الذى فقد أبناءه الخمسة وهام فى الدنيا، لكنه قرر أن يعود إلى صوابه، ويبحث عن ابنته السادسه التى لا تزال على قيد الحياة، ليبدأ معها حياة جديدة.

يعزف 1900 حكاية الرجل وهو يستمع إليها، فبالنسبة له قصة الرجل غريبة، لأنه عاد إلى رشده عندما تحدث إلى البحر وسمع صرخته ونداءه ليعيش الحياة.

يسمع 1900 ويعزف ويؤلف معزوفاته المستوحاة من قصص الركاب المسافرين، فنسمع معزوفة موسيقية مصاحبة لقصة المهاجر. ولأن الحياة دائما تحمل مفاجآت، توشك ابنة هذا الرجل أن تقلب حياة 1900، عندما تحكى له أثناء رحلتها، وتحكى كذلك رحلتها لوالدها، فيراها وهى تتحرك، تأسره بجمالها ورقتها وبراءة ملامحها، فيعزف ألحانا يرتجلها من تأملاته فى جمالها ورقتها، حين تظهر وتختفى بين الحشود، فتغدو القطعة الموسيقية التى يعزفها نموذجا لحكاية حياته.

الموسيقى هى اللغة التى يعبر بها 1900 عن مشاعره، ويحكى بها قصة حياته وحيوات الآخرين، يحكى بها عن المدن والشوارع، والضباب الذى يكسو الفراغ فيمنع الرؤية، يحكى بها عن طائر النورس الذى يحط فوق رؤوس المهاجرين إلى أن يحطوا هم بدورهم أرجلهم على أرض الأحلام، يحكى بها قصص ميلاد وثراء وإفلاس. الموسيقى بالنسبة له مدينته وضميره وروحه، فما الذى يمكن أن يدفعه لترك السفينة.

عندما أوشك 1900 على ترك السفينة ليبحث عن حياة جديدة على أرض الاحلام، مع الفتاة التى بهرته برقتها، تأتى لحظة الاختيار التى تحتم عليه ترك السفينة ليواجه العالم الثابت بمبانيه الشاهقة التى لا يعرف نهايتها.. ترك السفينة موطنه ومسقط رأسه، إلى مدينة لا يعرف الحياة فيها، ولا البشر الذين يعيشون عليها.. لا يعرف دهاليزها ولا يأمن مكرها. وما الثمن الذى سيدفعه ليدخل هذه المغامرة، تاركا خلفه مكانه الصغير الذى يعرف حدوده المادية، وحدود حركاته التى تصل إلى كل شواطئ العالم، وتجعله يتحدث مع كل أنواع البشر بمختلف اللغات، لينزل إلى أرض قيل عنها أرض الأحلام.. مدينة ثابتة لا تبحر مثل السفينة، ولا يتغير سكانها؟!

حين يصل 1900 إلى منتصف السلم ليهبط من السفينة، ينظر خلفه ويتأمل المبانى والبيوت الثابتة التى تشبه القبور، فيرفض النزول خلف الفتاة التى تمثل النداهة التى أوشكت أن توقع به فى شباكها، قبل أن تعطيه حتى نصف قبلة كعربون للتغير والجرى خلف ندائها.

قبل أن يعود إلى مقعده وموسيقاه خلف البيانو، يفاجأ بعازف شهير يدعى جيلى رول يهزأ من موهبته ويتحداه، فيقرر ذلك الرجل الذى لم تطأ قدماه أرض اليابسة أن يستمتع باستفزاز الموسيقى العملاق، ليستمتع ولو مرة واحدة بعزف آخرين، فهو لا يعنيه أن يكسب الرهان أو أن يخسره، بقدر استمتاعه لدرجة البكاء وذرف الدموع من روعة المعزوفات التى أداها الموسيقار.

فى جولات التحدى يراهن الركاب على فوز عازف الجاز جيلى رول، ويراهن الموسيقيون والبحارة وصديق 1900 الأقرب إليه ماكس على فوزه.. ويوشك 1900 أن يترك رول يرحل حاملا رايات النصر، لكن غرور رول يجعله يهين 1900، ويطلب منه ألا يجلس على المقعد أمام البيانو، لأن هذا المقعد أصبح مقعده، ويبالغ فى الإهانة، مما يضطر 1900 لأن يستعيد كرامته، ويقول له "جنيت على نفسك".

مشهد مهم يبعث برسالة للمشاهد بأن 1900 يختار لأنه قادر وليس لأنه خائف، ويختصر 1900 هذا فى جملة على لسانه، حين يقول "لا اريد من العالم الخارجى شيئا لكنى لن أقبل أن يدهسنى". وهذه هى الحكمة، وأعتقد أنها الرسالة الأولى للفيلم، التى تتلخص فى أن تتسع الأماكن بخبراتنا وكثافة معرفتنا بها، فهى تضيق وتتسع حسب معرفتنا بها.

يظل 1900 يقضى حياته على السفينة، وحين يأتى موعد التخلص من السفينة نفسها يرفض أن يغادرها، وقبيل التفجير فى حوار بينه وبين صديقه ماكس، الذى يحاول أن يقنعه بالنزول إلى المدينه، يقول 1900 مبررا رفضه عنما تراجع وعاد إلى السفينه "كانت المدينة بلا نهاية"، وأعطى مثال لخوفه من المدينة قائلا "لم يوقفنى ما رأيته، بل ما لم أره. فالبيانو له 88 إصبعا. عدد محدود، لكن لا حد للموسيقى المؤلفة منها، أما المدينه فبها ملايين المفاتيح فكيف أعزف عليها؟".. فالمدينة هى المتاهة التى رفض أن ينزل إليها.

الفيلم من علامات السينما، تحفة أخرى لسجل إنجازات تورناتورى.. ويبق السؤال: لماذا لم يشأ تورناتورى أن يترك 1900 ينزل أمريكا، وحعله يرفضها بكل مغرياتها؟.. هل كان لا بد من وجود أشخاص آخرين لا يفتتنون بها ويرفضون الخضوع للنداهة؟

الفيلم بطولة تيم روث فى دور 1900، وفى دور ماكس الممثل بريويت تايلور فينس. وقد حصل على 5 جوائز "ديفيد دوناتيلو" الإيطالية، منها أفضل مخرج لتورنتاري، وحصلت أغنية الفيلم على جائزة معهد الفيلم الأوروبى لأفضل أغنية. وحصلت نفس الأغنية على جائزة "الجولدن جلوب" للموسيقار الإيطالى إينو موركينو، أحد أهم رموز الموسيقى التصويرية الإيطالية.

 


Katen Doe

أميمة فتح الباب

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

المزيد من فن

فى وداع الفنان النبيل لطفى لبيب.. الجندى المقاتل فى الكتيبة 26

علينا أن نعترف بأن العقل والوجدان المصرى أصابه التلوث السلفى منذ أن تحكم رجال الدين في تفاصيل حيوات الناس،

فى فيلم « F1» براد بيت.. نجم الحلبة الذى يعرف طريقه إلى القلوب

يأتي فيلم F1 في لحظة مفصلية من مسيرة براد بيت، حيث تتقاطع ملامح شخصيته السينمائية مع طبيعة الدور الذي يجسده:...

فى هوجة أغانى الصيف.. البقاء للأصدق

عودة أغانى زياد الرحبانى بعد رحيله .. وحمزة يغرد منفردا

لطفي لبيب .. الضاحك الذى رحل راضياً

رفض تكريم سفارة إسرائيل بعد نجاحه فى «السفارة فى العمارة» قدم دوره فى «عسل أسود» مجاناً.. واشترط ذهاب الأجر كاملاً...