عن فاسدٍ خمسيني ينتصر على الموت بالحياة قراءة في ديوان " أبيض شفاف "

"أبيض شفاف" هو الديوان الثالث عشر للشاعر سمير درويش وهو يتميز كسابقيه برشاقة اللغة وخفتها المحببة لكنه يشكل تجربة خاصة في شعر صاحبه إذ يقدم فيه شاعرنا ما يشبه

"أبيض شفاف" هو الديوان الثالث عشر للشاعر سمير درويش وهو يتميز كسابقيه برشاقة اللغة وخفتها المحببة لكنه يشكل تجربة خاصة في شعر صاحبه إذ يقدم فيه شاعرنا ما يشبه اليوميات الشعرية ( سيرة ذاتية عرضية ) تعتمد الأنا والهنا والآن كأبعادٍ أساسية ، وتتسع مساحة الحركة العرضية خلال هذه الأبعاد باتساع بعد الزمن الذي يمتد لعامٍ تقريبا ، يمر خلاله الشاعر ويأخذنا معه في رحلة حميمة مع  كائناته وموجوداته  ووجوده مرورا رهيفا ليطلعنا على بعض أسراره وانطباعاته وعلاقاته بكل  ما حوله  ويشكل عالمه ( كل شيء تقريبا ) ،وهو الأمر الذي يختلف عن جل دواوينه السابقة التي يغلب أن يغوص فيها طوليا وعميقا في حالةٍ ما وخصوصا في علاقته بآخره الأنثوي التي تكون منطلقا عادة لطرح علاقته بالعالم ، هنا أيضا كان حضور هذا الآخر الأنثوي واضحا وبارزا وعميقا ..لكن كجزءٍ من مشهدٍ كليٍ مفتوح وشديد الاتساع مركزه ذات الشاعر وأطرافه الكون بأكمله .

" أنا الشاعر الذي يعيد توزيع الكائنات "

هكذا يعرفنا بنفسه ، ثم يواصل هذا التعريف :

"لست راغبا في بث رسالةٍ ما لأحد  فقط سرت خطواتٍ قليلةً ناظرا تحت رجلي   رسمت صورةً تشبهني في عريني هذا  ثم أرسلت رسائلي كلها لي ! "

" لست أكتب قصائدي في الظلام عادةً لأرى الأنثى بينما أخلقها   أستقبل العيد مضطجعا دون أليف  ودون أن يعايدني أحد ".

وهو يبادرنا في نصه الأول ( ليس سواي ) 19-5-2014

"  ليس ثمَ موعدٌ مقدسٌ لدي  ولا نوعٌ أفضله من الطعام ولا لون .. ليس ثم امرأة أهديها شيئا ......وليس في نيتي أن أفعل شيئا ما في الصباح سوى أن أكون ما أنا عليه  .. ضوءا يتسلل من النوافذ المغلقة "

يمارس فضيلة الاعتراف بلغة الشاعر اللاهي الساخر العابث التي لا تملك معها مهما بلغ ثقل بعض هذا الاعتراف إلا أن تبتسم .. يعترف ويتهم نفسه بالفساد في غير موضع وبتكرار وإلحاح من يكاد يندهش من نفسه ويبادر باتهامها قبل الآخرين فتتكرر " فاسدا خمسينيا " في أكثر من موضعٍ ، لكنه لا يكاد يعترف بذلك  إلا ليتنصل من هذا الاعتراف " فقط سأعترف أنني لا أكف عن العبث .. الآن ودائما    كأنني شيطانٌ تحت التمرين  أو كأنني طفلٌ لا يكبرُ ، ولا يشبع من الحليب أبدا ".  و كأنه لا يظن رغم التكرار في صدق هذا الزعم بالفساد أو يظن ويستمتع بذلك في طفولةٍ وشقاوة ..

" ربما أحب همجيتي التي نشأت عليها   تخرج دون استئذانٍ فارضةً قوانينها  وتتوغل  وتتوغل       في آخر الليل تعود خائبة دائما    لكن صيدها نادرٌ جدا   وثمين " ، حتى إنه يعنون إحدى قصائده ب " فساد فطري " . فهل هو كذلك أم أنه الواقع والكون من حوله شكله على هذا النحو فمضى كيفما اتفق في حياةٍ لا يقبلها ..

"لست صالحا لهكذا حياة  ولست قادرا على تقبل الكون بصورته هذه  لهذا سأتلاشى بهدوءٍ كما أتيت ".

ورغم هذا الثراء في العلاقة بالآخر على اتساع مفهوم هذا الآخر وشموله لكافة الموجودات والتفاصيل إلا أنه لا يكف عن الشعور بالوحدة ويرصد هذه الوحدة أيضا في أكثر من موضع ..

" وفي النهاية سأصير وحيدًا   سأسير وحيدا "

" ليس شيئا ألا أجد رفيقا واحدا فقط   يتمشى معي وأنا أقهر الدهون الثلاثية    فليس ثم شيء نافعٌ أقدمه لهم   سوى الصمت " .

لكن مرة أخرى أهو الصمت حقاً ؟! أم أنه ذلك السكون المراوغ الذي يسبق العواصف ..

" كل الشرفات التي تحيطني ساكنةٌ   ربما تخبئ ثوراتٍ كالتي أخبئها "

و القصيدة في نظر شاعرنا كانت كما كل شيءٍ آخر عرضه علينا جزءا من وجودٍ خاصٍ بمعنى خاص ..

 " القصيدة ليست امرأة بقميص شفاف أسودٍ دون أكمام   وليست موسيقى رتيبةً ولا كونا مغلقا على إشاراتٍ   ولا لقاءاتٍ سريعة   القصيدة دمٌ في الطرقة الطويلةِ تلك    وعزوفٌ عن الكلام "

أما علاقته بالعالم الحقيقي فهو يصر على طرحها كعلاقة الضيف العابر الذي رغم تورطه في كل شيء إلا أنه يحاول جاهدا الهروب من هذا التورط ويرى نفسه دائما طيفًا مارا قلما ينتمي لشيءٍ بشكلٍ حقيقي رغم يقينه بوطأة ذلك عليه في النهاية..

" اسمي ليس مناسبا لي  لا أمشي في طرقٍ لا آلفها   لا أشتري هدايا لأحد، ولا أقدم تبريرا   لا أقول أحبك لامرأةٍ وأنا أعنيها  كما أنني سأموت على وسادتي ذات ليلٍ  دون أن يشعر بي أحد " .                                                         

وللحديث عن الموت ولحضوره الثقيل مساحةٌ ليست بالقليلة في نصوص الديوان رغم محاولة شاعرنا التعامل مع هذا الثقل بأكبر قدرٍ من الخفة والتعالي ، لكنه يقينٌ مؤرقٌ لا هرب منه ..

" ليس مناسبا حتى أن نقرأ أشعارا  ولا أن نغني عن فراقٍ وشيك .............  ليس أمامنا إذن حين تنكشف الملامح التي نحن عليها   سوى أن نبتسم بلطف ٍ  ونرحلَ دون أغنية وداع ! "

هكذا أخذنا شاعرنا في رحلةٍ خاطفةٍ داخله محاولا رغم استخدامه للأنا المتكلمة أن يتجرد ويبتعد بنا لنرى من خلال عيني روحه مشهد هذا الداخل من مسافة تقينا أو تحاول أن تقينا وتقيه التورط في مشاعر الأسي والحزن على الذات وقد نجح في ذلك رغم ما ينضح به الديوان من وجعٍ وجودي ، نجح بقدرته الهائلة على الحياة أن يختصم الوحدة والموت وأن ينتصر عليهما بالشعر..

" سأغادر الآن حيث محطة قدرية أخرى

أصارع الأجساد التي تحيطني دون أن أراها فعلا

أتفادى المتسولين المنثورين دون نظام

والعباءات المتربة

ومقاعد المقاهي  .. والسيارات المندفعة  وكراتين البطاطس المقلية

وأصعد السلم إلى قبرٍ مكيفٍ ، يخصني " .

 


Katen Doe

وليد طلعت

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

wave
جماليات التشكيل الانزياحي في (الحقايق تتشاف في العتمة)
قراءة في  ديوان " الموتى يقفزون من النافذة " لفتحي عبد السميع
فلسفة المتاهة ..  مدخل لقراءة ديوان" البيوت الصغيرة"
قراءة في "تفسر أعضاءها للوقت"  لوليد علاء الدين
اللغةُ العربيةُ في يومِهَا العالميِّ
ثورَةُ الأنقاضِ
جيرار جينيت: البويطيقا والعلاقات النصية مقاربة نظرية شارحة
قراءة في ديوان ( قصاقيص أحلام ) للشاعر / أحمد زغلول

المزيد من دراسات نقدية

wave
جماليات التشكيل الانزياحي في (الحقايق تتشاف في العتمة)

الصورة الشعرية في الشعر العامي ، ترتكز على الانزياح الفني ، لاسيما في قصيدة النثر العامية ؛ لأنها تهتم بتحقق...

قراءة في ديوان " الموتى يقفزون من النافذة " لفتحي عبد السميع

كم شغلت حقيقة الموتِ الفلاسفة، ومضتْ تؤرقُ مجاز الشعراء على مختلف العصورِ، فتحدثَ الشعراءُ عن الموت كمعادلٍ للفقدِ في معظم...

فلسفة المتاهة .. مدخل لقراءة ديوان" البيوت الصغيرة"

حين تقتني ديوان "البيوت الصغيرة" للشاعر أمجد ريان أحمله برفق وأصغ لنبض حرفه ،فإن كل حرف يحمل في طياته تجربة...

قراءة في "تفسر أعضاءها للوقت" لوليد علاء الدين

في مجموعة قصائد "تفسر أعضاءها للوقت " ينتقل وليد علاء الدين إلى الضفة الأخرى "قصيدة النثر" الصريحة إلى حد بعيد...