مصر تربك حسابات "بارونات القمح" بقرار الانسحاب من اتفاقية الحبوب الأممية

يحرص الرئيس "السيسي" فى كل مناسبة أن يبعث بمجموعة من الرسائل للداخل والخارج؛ علّها تكون مرشدًا ودليلاً للخروج

من أزمة هنا وهناك، وهاهى الأيام تثبت مدى الرؤية الثاقبة التى يمتلكها الرجل بشأن ما يجرى محليًا وإقليميًا أو حتى دوليًا.

ففى أكثر من مناسبة تناول الرئيس "السيسي" ما يجرى على الساحة الدولية  من صراعات وتشابكات، محذرًا من مغبة ما ستؤول إليها الأحداث مستقبلاً إذا لم تضطلع المنظمات الأممية والدولية بدورها فى حماية شعوب العالم من تطورات الصراعات المنتظرة؛ إلا أن أحدًا من أصحاب القرار المؤثر دوليًا لم يستمع لصوت العقل، ولم يفق العالم إلا على أصوات مدافع الحرب "الروسية ـ الأوكرانية" التى لا يعرف مداها إلا الله.

 رسائل "السيسي".. والاستيعاب المتأخر

لم يستوعب البعض رسائل الرئيس "السيسي" القائمة على الرصد الدقيق والتحليل المعمّق والمعلومات الموثّقة، حينما تحدث فى فبراير (2022) من العاصمة بكين عن خطورة الأوضاع الدولية، وما قد تسببه صراعات القوى الكبرى على شعوب العالم. وكان ذلك خلال مباحثات أجريت مع الرئيس الصينى "شى جين بينج"، الذى أثنى على أهمية الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع مصر، وتعزيز التواصل والتشاور السياسى بين الدولتين حول الموضوعات الإقليمية والدولية.

بعدها بحوالى 10 شهور، وتحديدًا فى ديسمبر الماضي؛ أكد الرئيس "السيسي" على "ضرورة السعى لإقامة نظام عالمى أكثر عدالة"، وذلك خلال مشاركته فى فعاليات القمة "العربية ـ الصينية" التى استضافتها العاصمة السعودية الرياض.

ووقتها قال  الرئيس "السيسي": من بين أخطر ما يواجهه العالم اليوم هو أزمة الغذاء وتبعاتها.. الأزمات العالمية أثقلت كاهل دولنا وموازناتها مما يتطلب "حوكمة" الاقتصاد الدولى ليكون أكثر عدالة"، واصفًا القمة بأنها "نقطة انطلاق جديدة للتعاون العربى الصيني".

فى يناير الماضي، وخلال الاحتفال بعيد الشرطة، ألمح الرئيس "السيسي" إلى المتغيرات الجذرية التى سيشهدها العالم فى موازين القوى الدولية، قائلًا إن "تطورات المشهد الدولي، خلال الأعوام الماضية، حملت للعالم أحداثًا غاية فى التعقيد، والتى بدأت بجائحة كورونا، ثم الأزمة الروسية - الأوكرانية.

وأضاف: هذه التطورات لم تحدث منذ عقود، وباتت تنذر بتغييرات كبيرة، على المستوى السياسى والاقتصادى الدوليين".

 ضربة صينية للنفوذ الأمريكى فى المنطقة

الأحداث الدولية المتسارعة التى شهدتها الأيام القليلة الماضية جاءت لتؤكد صدق نبوءات الرئيس "السيسي" بشأن خفوت قوى ظلت مسيطرة على العالم لأكثر من 8 عقود مضت وإحلال أخرى محلها. وكان الحدث الأبرز فى هذا الصدد هو نجاح الوساطة الصينية فى تنقية الأجواء المتوترة بين إيران والسعودية بإقرار اتفاق بين الجانبين يقضى باستئناف  العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ أكثر من 7 سنوات.

ونص الاتفاق الذى رعاه الرئيس الصينى على "استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران"، كما أكد الاتفاق على "احترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شئونها الداخلية".

وبرعاية صينية خالصة، اتفق الجانبان على "عقد وزيرى خارجية البلدين اجتماعًا لتفعيل ذلك الاتفاق، وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما".

ولاشك أن نجاح الوساطة الصينية فى هذا الملف يعد نجاحًا منقطع النظير على مستوى الدبلوماسية الدولية، ويمنح "بكين" فرصة أكيدة لزيادة دورها فى منطقة الخليج على حساب الدور الأمريكى الذى تسبب فى زعزعة استقرار المنطقة لأكثر من 4 عقود مضت.

ومن المؤكد أن هذا الاتفاق سوف يمنح جمهورية الصين الشعبية الكثير من العوائد الاقتصادية، خاصة أن منطقة الخليج تمتلك ثروات هائلة من الطاقة التى تحتاجها المصانع الصينية، وهو الأمر الذى يزيد من تنافسية منتجاتها فى الأسواق الدولية على حساب المنتجات الأمريكية والأوروبية.

ويجب ألا ننسى فى هذا الصدد، أنه تم توقيع 34 اتفاقية بين الشركات الصينية ونظيرتها السعودية للاستثمار فى مجالات الطاقة النظيفة وتكنولوجيا المعلومات وخدمات الحوسبة السحابية والنقل والتشييد وقطاعات أخرى.

 مصر لاعب رئيسى فى المشهد

عند الحديث عن الدور الاستراتيجى الكامل الذى أصبحت تلعبه الصين فى المنطقة منذ عدة سنوات يجب التأكيد على أن هذا لم يكن ليتحقق لولا نجاح الدبلوماسية المصرية فى زيادة تفعيل قنوات الاتصال مع بكين عقب ثورة 30 يونيو 2013.  ولقد حظيت الزيارات المتكررة للرئيس عبد الفتاح السيسى إلى "بكين" بترحاب واسع من جانب الرئيس الصينى ودوائر صنع القرار هناك، وهو ما عكسته قمة الزعيمين التى عُقدت فى قاعة "الشعب الكبرى" هناك، حيث ثمّن "شى جين بينج" ما تشهده الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين من تطور إيجابى على جميع الأصعدة، خاصةً فى المجالات الاقتصادية والتجارية، فضلاً عن تعزيز التواصل والتشاور السياسى بين الدولتين حول الموضوعات الإقليمية والدولية.

وأكد الرئيس الصينى أن بلاده تولى علاقاتها مع مصر أهمية خاصة بالنظر لمحورية دورها فى محيطها الإقليمى على مستوى الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق المتوسط، مشددًا على أن زيارة الرئيس "السيسي" تساهم فى تعزيز العلاقات الثنائية المتميزة بين الجانبين، لاسيما ما يتعلق بالتعاون التنموى المشترك.

وثمّن الرئيس الصيني، ما تشهده الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين من تطور إيجابى على جميع الأصعدة، خاصةً فى المجالات الاقتصادية والتجارية، فضلاً عن تعزيز التواصل والتشاور السياسى بين الدولتين حول الموضوعات الإقليمية والدولية.

 إفلاس أكبر البنوك الأمريكية

من بين الأحداث التى تؤكد صدق الرؤية المصرية بشأن تغير موازين القوى الدولية فى قادم الأيام؛ تلك المتعلقة  بالهزة المصرفية التى ضربت البنوك الأمريكية مؤخرًا بسبب إفلاس مصرف "سيليكون فالى بنك" الذى يعد أحد أكبر بنوك التجزئة الأمريكية.

وخسرت أكبر أربعة مصارف أمريكية 52 مليار دولار فى سوق الأسهم خلال يوم واحد، ثم تعثرت بعدها البنوك الآسيوية ثم الأوروبية. وفى باريس، خسر "سوسييتيه جنرال" 4.49% من قيمة أسهمه، و"بى إن بى باريبا" 3.82%، و"كريدى أجريكول" 2.48%. وفى أماكن أخرى من أوروبا، خسر "دويتشه بنك" الألمانى 7.35%،  و"باركليز" البريطانى 4.09%،  و"يو بى إس" السويسرى 4.53%.

وتعد تلك الأزمة أول أزمة مصرفية حقيقية تواجهها البنوك الأمريكية والأوروبية بعد الأزمة المالية التى ضربت العالم فى العام 2008 بسبب إفلاس بنك "ليمان برازرس" أحد أكبر البنوك الأمريكية على مستوى العالم. ولولا التحويلات الخليجية الضخمة لسقط الاقتصاد الأمريكى إلى غير رجعة. فهل يتكرر السيناريو هذه المرة أم تكون تلك الأزمة هى بداية النهاية لأحد أكبر القوى الاقتصادية العالمية؛ أخذًا فى الاعتبار أن الاقتصاد الأمريكى لم يتعاف بعد من تداعيات الحرب "الروسية ـ الأوكرانية".

 انسحاب مصر من اتفاقية الحبوب الدولية

الحدث الأبرز ـ محليًا ودوليًا ـ على تغيير موازين القوى العالمية، كانت مصر اللاعب الرئيسى فيه، حيث أعلنت القاهرة مؤخراً انسحابها من "اتفاقية تجارة الحبوب" الأممية، بعد أن رأت الدولة المصرية أن تلك الاتفاقية ليست ذات جدوى اقتصادية فى الوقت الراهن، وأن هذا القرار سوف يحررها من هيمنة الدولار.

ولقد كان لهذا القرار صدى واسعً على كافة المستويات الدولية، خاصة أن السوق المصرية تعتبر أكبر مستوردى الحبوب على مستوى العالم. وفى أول تعليق رسمى على قرار الانسحاب، أكدت الخارجية المصرية أن "القرار اتخذ بعد تقييم قامت به وزارتا التموين والتجارة، وخلص إلى أن عضوية مصر فى مجلس الحبوب العالمى لا تنطوى على قيمة مضافة.

فى المقابل، قال أرنو بيتي، المدير التنفيذى للمجلس الدولى للحبوب، المشرف على "اتفاقية تجارة الحبوب": لقد حدث هذا الانسحاب دون سابق إشارة، وهناك عدة وفود من الدول الأعضاء فى المجلس تشعر بالاندهاش والحزن إزاء القرار، مضيفًا: إن عدداً من الأعضاء سيطالبون مصر بإعادة النظر فى قرارها.. وبقراءة متأنية لهذا القرار، نتوصل إلى أنه كان بمثابة ضربة قاصمة للدول الكبرى المنتجة للحبوب، وفى مقدمتها  الولايات المتحدة ومجموعة من الدول الأوروبية المسيطرة على إنتاج الحبوب على مستوى العالم.

ويفهم من خطوة الانسحاب أيضًا أن الدولة المصرية لم تجن أى فائدة طوال فترة انضمامها لهذه الاتفاقية، حيث يبدو أن الاشتراك لم يمنحها أى مزايا إضافية تخص عملية تسهيل حركة التجارة أو غيرها من المزايا، التى تتيحها الاتفاقية باعتبارها اتفاقية تتبع الأمم المتحدة.

 وظهر ذلك بوضوح خلال الأزمة الاقتصادية التى سببتها الحرب الروسية - الأوكرانية، حيث حدث خلل فى سلاسل إمداد السلع وارتفاع أسعار للحبوب بشكل كبير، وتأثرت مصر بذلك تأثراً كبيراً لكونها أكبر مستورد للقمح فى العالم وبلداً مستهلكاً للحبوب، وهو ما أثر على حياة المواطن المصرى بالسلب، ولم تستطع تلك الاتفاقية وقف الضرر عن مصر، أو مواجهه التأثير السلبى للآثار التى تضررت منها.

كما أن الاتفاقية لم تؤمن سلاسل إمداد الحبوب لمصر، ولم تسيطر على أسعار الحبوب التى ارتفعت كثيراً، وهى آثار تضررت منها مصر كثيراً.

 الموقف الروسى من القرار المصري

مصادر روسية اعتبرت أن الانسحاب المصرى من اتفاقية الحبوب تسبب فى ارتباك كبير فى الأوساط السياسية والاقتصادية الأمريكية والأوربية، مرجحة أن يكون الاتصال الأخير بين الرئيس "السيسي" ونظيره الروسى فلاديمير بوتين تطرق إلى قرار الانسحاب من اتفاقية الحبوب.

وفى تعقيب على قرار الانسحاب، قالت السفارة الروسية بالقاهرة: "لن يحقق الغرب أهدافه.. على سبيل المثال، فشل الأمريكيون والأوروبيون فى تعطيل إمداد مصر بالقمح الروسي.  ورغم كل العوائق التى خلقها الغرب، فقد نمت هذه الإمدادات ويمكن أن تصل إلى 8 ملايين طن فى العام الزراعى 2022-2023.     

المشهد الراهن، يبرهن على أن هناك تحولات جذرية على مستوى موازين القوى الدولية، وما الخطوات التى خطاها الرئيس "السيسي" بالدولة المصرية على مدار السنوات الثمانى الماضية إلا استعداد للمتغيرات المنتظرة، والتى ستكون مصر لاعبا رئيسيا فيها بلا شك. والمدقق للمشاهد التى استعرضناها سلفًا سوف يتأكد من محورية الدور الذى تلعبه الدولة المصرية على الساحة الدولية والإقليمية فى الوقت الراهن.

 

Katen Doe

مسعد جلال

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

wave

المزيد من سياسة

wave
قيادات فلسطينية تكشف أسباب مشاركة حكومة نتنياهو فى مسيرةالأعلام الإسرائيلية

خالد سعيد: التصعيد الإسرائيلى محاولة من نتنياهو لإنقاذ مستقبله السياسى/ أيمن الرقب: تصريحات سموتريتش تؤكد تزايد التصعيد الاسرائيلى فى ظل...

د رياض المالكى: نرحب بإعلان جدة وننتظر تنفيذ القرارات على أرض الواقع

نالت القضية الفلسطينية كالعادة باعتبارها  القضية الأم والمركزية لكل العرب وأولى الأولويات  اهتماما خاصا فى كل

إشادات دولية بحسن استضافة مصر ل 9 ملايين لاجئ

ضربت مصر أروع الأمثلة في الإنسانية، في التعاطي مع قضية اللاجئين، ففي الوقت الذي ترفض فيه دول أوروبا وأمريكا استقبالهم،

الرئيس "السيسي" يحدد خارطة تنمية أفريقيا ومحاور حل الأزمة السودانية

الزعامة ليست لفظًا يُطلق على كل من تولى سلطة أو مسئولية، ولا تقتصر كذلك على تسيير شئون الناس والمؤسسات،