المقهى الدبلوماسي - ليبيا.. قصة لم تنته

لي صديق في الجامعة العربية هو المستشار فوزي الغويل ، وهو رجل دمث الخلق ، هادئ الطباع، واسع المعرفة، ليبي المنشأ والهوى ، لا يخلو حديثنا إذا التقينا من ذكر وطنه  العزيز ليبيا

بشجونه وآلامه وأحلامه ، لهذا ظهرت صورته أمامي اليوم ، وصديقي على المقهى الدبلوماسي يسألني كعادته:  "راحت فين ليبيا اللي كنا نعرفها؟"، ووجدتني أبادله السؤال وكأني أريد أن أسمع هذا الكلام من آخرين : "أنت صحيح تعرف ليبيا؟.. كلمني عن ليبيا اللي تعرفها"، فنظر لي صديقي وعلى وجهه علامات الدهشة والاستغراب، ثم قال: "طبعا.. ياه.. أكلمك على طرابلس؟ ولا بني غازي؟ ولا سرت؟ ولا الخمس ولا لبدة الكبرى؟.. ولا إيه ولا إيه؟ ، ولا أكلمك على ليبيا اللي غزتها واستعمرتها إيطاليا في 3 أكتوبر 1911 وبعدين سلمتها ليها الدولة العثمانية بمعاهدة لوزان في 1912 ولغاية ما بقى اسمها ليبيا في 1934، ولا عايزني أكلمك عن عمر المختار اللي حارب الإيطاليين وهو عمره 53 عامًا وفضل يقاومهم لغاية ما أعدموه في سبتمبر 1931 بالرغم من أنه كان عنده 73 سنة ومريضا بالحمّى وفضلت صامدة ليبيا الحرة لغاية ما انتهى الاستعمار الإيطالي في فبراير عام 1943 بعدَ حملة من بريطانيا وفرنسا، اللي نجحت في إخراج إيطاليا وألمانيا من ليبيا، لكن للأسف قسموها هما على بعض فأخذت بريطانيا برقة وطرابلس ، وأخذت فرنسا إقليم فزان وفضل الوضع كدة لغاية 24 ديسمبر 1951تاريخ استقلال ليبيا رسمياً، وقامت المملكة الليبية المتحدة بقيادة إدريس السنوسي؟"..

فتهلل وجهي وأنا أسمع هذا الكلام من صديقي وقلت له محييا: "الله الله عليك هو ده تاريخ ليبيا فعلا، كمل يا صديقي، كلمني بقى عن معمر القذافي وثورة الفاتح من سبتمبر"، فإذا بصديقي يعتدل في كرسيه وعلت وجهه ابتسامة خفيفة تجمع بين النشوة والزهو ثم قال: "شوف ، ثورة الفاتح كانت في 1 سبتمبر عام 1969 وقام بيها الضباط الوحدويين الأحرار في الجيش الليبي بقيادة الملازم أول معمر القذافي ، ووقتها كان الملك محمد إدريس السنوسي بيتعالج في تركيا ، فقام ولي العهد بالتنازل عن الحكم ، وهنا توقف صديقي عن الكلام قليلا ثم قال: لغاية هنا أقدر أحكيلك وممكن كمان أقولك حاجات عن حكم القذافي لكن من 2011 ولغاية دلوقت أنا مش فاهم حاجة ومش عارف إيه اللي بيحصل في ليبيا بالظبط، فرددت عليه قائلا: "والله معاك حق مش أنت لوحدك اللي مش فاهم لكن أقدر أقولك أنه من شهر أغسطس 2011 وقت ما تم إزاحة القذافي عن السلطة بعد حكمه اللي استمر 42 سنة وبعد ما قتلوه في 20 اكتوبر في هجوم على مسقط رأسه مدينة سرت الصورة ما بقتش واضحة وأصبح ما حدش متأكد فعلا مين اللي قتل القذافي وليه".

وتوقفت عن الكلام متوقعا أن يقاطعني صديقيي كعادته باستفسار أو استنكار، ولكني وجدته قد فغر فاه من كثرة تركيزه معي، فأسرعت مواصلا حديثي قائلا: مجلة “الفورين بوليسي” الامريكية نشرت مؤخرا رسائل لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون والمرشحة الرئاسية أمام الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب بعنوان "لماذا سعى حلف الناتو للإطاحة بالزعيم الليبي"، الرسائل قالت ان الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي هو اللي قاد الحرب على ليبيا للاستيلاء على النفط الليبي ، والاحتياطات الهائلة من الذهب والفضة اللي مجمعها الزعيم الليبي وقدروها بحوالي 143 طنا من الذهب و150 طنا من الفضة، وقالوا أن القذافي كان مجمعها بهدف اصدار عملة افريقية تعتمد على هذا الذهب وتفك ارتباطها بالعملة الأوروبية وخاصة الفرنك الفرنسي ، والرئيس الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني اعترف رسميا في حديث لوكالة “اينا” الإيطالية الرسمية انه كان يعرف انها ثورة مفبركة من قبل الرئيس الفرنسي ساركوزي وبدعم من نظيره البريطاني ديفيد كاميرون، وكمان الرئيس الامريكي السابق باراك أوباما أيد كلام رئيس الوزراء الفرنسي، وقال ان التدخل العسكري في ليبيا كان أسوأ قرار اتخذه في فترتي رئاسته، ويندم عليه بشدة وكانت النتيجة نهب مئات المليارات من الأرصدة الليبية ومن العملات الأجنبية واحتياطات الذهب التي تركها الزعيم القذافي، وتحولت ليبيا الى دولة تعبث فيها الميليشيات المسلحة فسادا ودموية، والشعب الليبي البسيط الكريم المتواضع العربي والمسلم، دفع ثمن هذه المؤامرة غاليا من دمائه وثروات بلاده واستقرارها، وما زال، ونصفه بات مشردا مجوعا في دول الجوار وغيرها، ومن بقي مكرها في ليبيا يفتقد لقمة العيش الكريمة والأمان والاستقرار والخدمات الطبية والتعليمية والبلدية الأساسية.

 وهنا يخرج صديقي عن صمته ، ويسألني حائرا : "يعني اللي حصل في ليبيا في 2011 كان ثورة ليبية فعلا ضد ظلم القذافي؟ ولا هو خطة رسمها الغرب علشان يحقق أهدافه ومطامعه في ليبيا؟".

فأجبت صديقي قائلا: "رسائل هيلاري كلينتون اللي كلمتك عنها يمكن قدمت إجابة هذا السؤال.. ولكن خلينا نفتكر مع بعض اللي حصل وقتها..

 في يوم 15 فبراير 2011 وبعد اعتقال محامي ضحايا سجن بوسليم فتحي تربل في مدينة بنغازي خرج أهالي الضحايا ومناصريهم لتخليصه وارتفعت الأصوات تطالب بإسقاط النظام وإسقاط العقيد القذافي شخصيا، فاستخدمت الشرطة العنف ضد المتظاهرين واستمرت المظاهرات لثاني يوم، وعمت المظاهرات أرجاء ليبيا لغاية ما شهدت مدينة البيضاء أول شهيد وبدأ رجال الأمن بإطلاق الرصاص الحي وقتلوا بعض المتظاهرين، وجاء يوم الخميس 17 فبراير2011 على شكل انتفاضة شعبية، وكانت الثورة في البداية عبارة عن مظاهرات واحتجاجات سلمية، لكن مع تطور الأحداث واستخدام الأسلحة النارية الثقيلة والقصف الجوي لقمع المتظاهرين العزّل، تحولت إلى ثورة مسلحة تسعى للإطاحة بمعمر القذافي الذي قرر القتال حتى اللحظة الأخيرة، وبعد ما سيطر المعارضون على الشرق الليبي أعلنوا فيه قيام الجمهورية الليبية بقيادة المجلس الوطني الانتقالي، وفي يومي 21 و22 أغسطس دخل الثوار إلى العاصمة طرابلس، وبعدها بشهر وفي 20 أكتوبر تم قتل القذافي..

ومن وقتها وطوال أكثر من سبع سنوات عانت ليبيا وشعبها ومرت بظروف عصيبة ومازالت، وفي هذه اللحظة ، قاطعني صديقي متململا : "يعني الوضع عامل إيه في ليبيا دلوقت؟"..

فقلت له: "بعد مرور سبع سنوات على ذكرى هذه الثورة في أغسطس 2011 والاعتراف الدولي بشرعية الثورة الليبية والمجلس الوطني الانتقالي اللي اتشكل من كوادر هذه الثورة أقيمت انتخابات جاءت بالمؤتمر الوطني العام كأول مجلس تشريعي منتخب في تاريخ ليبيا في 2012 ، وبعدين شهدت ليبيا انتخابات في 2014 أطاحت بالمؤتمر الوطني العام وجاءت بمجلس النواب، وده لما أصدرت المحكمة العليا بطرابلس حكم ببطلان الانتخابات اللي جابت مجلس النواب وأطاحت بالتيار الإسلامي من السيطرة على المجلس التشريعي وعلى اختيارات أعضاء الحكومة، ثم دخلت ليبيا في مرحلة من الانقسام السياسي ومن تعدد الشرعيات وكمان الصدام العسكري بين معسكر في الشرق وآخر في الغرب، وتوقفت لأرتشف من قهوتي الفرنسية فاستعجلني صديقي : "وبعدين؟" ، فقلت: "طبعا أمام  مشهد الانقسام في ليبيا اتحرك المجتمع الدولي وبالتالي اتحركت الأمم المتحدة في عام 2014 لإقامة حوار سياسي بين الأطراف المتصارعة في ليبيا، وكان ده من خلال المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة برناردينو ليون، وكانت نتيجة محاولات ليون هي توقيع الاتفاق السياسي في مدينة الصخيرات بالمغرب في ديسمبر 2015، وجاء اتفاق الصخيرات بعدد من الشرعيات المؤسسية زي "المجلس الرئاسي" بقيادة فايز السراج، والاعتراف بشرعية مجلس النواب في طبرق، وهي الشرعية اللي كان معترفا بها دوليا بالفعل، وتحويل المؤتمر الوطني العام، والذي لم يكن يحظى بشرعية دولية إلى كيان شرعي تحت مسمى "مجلس الدولة"، وبالتالي دخلت ليبيا منذ بدء مرحلة تعدد الشرعيات في عام 2014 وحتى الآن في عدد من الصراعات العسكرية والسياسية بين الأطراف المتصارعة في الداخل الليبي ، وكمان تداخل عدد من الأطراف الإقليمية والدولية في دعم أطراف بعينها في الداخل الليبي ، ولكن مؤخرا وخلال العام 2017 حصل تمدد للنفوذ العسكري للجيش الوطني الليبي بشدة في كل من الشرق والجنوب الليبي، وهو القوة العسكرية الموحدة اللي ليها ذراع سياسي معترف بشرعيته دوليا، ولكن تبقى القوى العسكرية الموجودة بمدينة مصراتة على درجة عالية من التسليح النسبي في سياق الصراع الليبي، وكمان وجود قوات البنيان المرصوص بوضعها الشرعي بعد اعتراف المجلس الرئاسي بها كقوات تابعة للدولة.

وسألني صديقي : "طيب فين دور مصر والدول العربية والجامعة العربية؟"، قلت له: "شوف، من سنة 2014 حدثت تحركات عربية ففي أغسطس 2014 عقد وزراء خارجية دول جوار ليبيا اجتماعا بالقاهرة بمشاركة دولية لبحث الأزمة الليبية وأعلنوا فيه مبادرة للتحرك العاجل للتعامل مع مستجدات الوضع الليبي ، وفي أبريل 2017 قال مبعوث جامعة الدول العربية إلى ليبيا، صلاح الدين الجمالي إن جامعة الدول العربية تبنت مبادرة دول الجوار، وأنها ستتواصل مع جميع الأطراف الليبية لمواصلة هذا الحوار، وفي ديسمبر 2017 احتضنت العاصمة التونسية اجتماع وزراء خارجية كل من مصر وتونس والجزائر لمتابعة المبادرة الثلاثية حول ليبيا، وفي أكتوبر 2018 أعلن التجمع الليبي الديمقراطي من القاهرة مبادرة لإنهاء الأزمة في ليبيا تدعو إلى تشكيل حكومة طوارئ وتسليم السلطة التشريعية إلى رئيس المحكمة العليا حتى إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية.

 

ومؤخرا، وفي الخميس 29 نوفمبر 2018 اجتمع وزراء خارجية دول الجوار الليبى "السودان ومصر وتونس والجزائر" ومعاهم سفير تشاد وقنصل النيجر فى الخرطوم، ومعهم الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا ومبعوث مفوضية الإتحاد الأفريقي إلى ليبيا والمبعوث الخاص للأمين العام للجامعة العربية إلى ليبيا، وأصدروا بيان أكدوا فيه ترحيبهم بكل المبادرات التى تمت لجمع القيادات الليبية المدنية والعسكرية من أجل توحيد الوحدة الوطنية وإيجاد مخرج للأزمة الليبية بما فى ذلك جهود توحيد المؤسسة العسكرية.

وشدّد المجتمعون على الحفاظ على وحدة وسيادة ليبيا وأراضيها، واحترام الاتفاق السياسى الموقع فى الصخيرات فى 17 ديسمبر 2015 باعتباره إطارا لحل الأزمة والدفع نحو تطبيقه بواسطة الليبيين أنفسهم على أساس التمسك بالخيار السياسى، ورفض كل تدخل خارجى فى الشئون الداخلية لليبيا.

 وفي هذه اللحظة، وجه لي صديقي بضعة أسئلة قائلا: "يعني هيحصل استفتاء على الدستور وانتخابات تشريعية ورئاسية؟ والفصائل الليبية هتقبل المصالحة الوطنية؟"، ولكني لم أستطع إجابة صديقي على أسئلته، وصمت عاجزا أمامه.. لأن إجابة هذه الأسئلة وغيرها مما يتعلق بمستقبل ليبيا السياسي والعسكري لا يعرفها أحد ولا حتى الليبيين أنفسهم..!

ووجدتني أردد قول الشاعر الليبي سليمان الباروني

وداعا يا ديار العز حتى       .. أعود إليك في أهنا نهار

ألا يا قوم قد نمتم طويلا      .. وهمتم بالجهالة في البراري

فهل من يقظة تشفي غليلا    .. وتمحو ما استوى من سحب عار

فهموا واصدقوا فالصدق فيكم.. عريق واحفظوا حق الديار

 

 

 

Katen Doe

حمودة كامل

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

wave
المقهى الدبلوماسي - قمة مجموعة السبع.. والمشاركة المصرية
المقهى الدبلوماسي - القمة الإسلامية الـ 14 والدعم الكبير
المقهى الدبلوماسي - عودة مصر الأفريقية
المقهى الدبلوماسي- الشهرة تطمس الحقيقة.. اللاعب مانجا وضحاياه
المقهى الدبلوماسي - أوزباكستان التي لا يعرفها أحد
المقهى الدبلوماسي.. فرنسا على صفيح ساخن
المقهى الدبلوماسي..هل انسدل الستار على قضية الصيدلي المصري ؟!
المقهى الدبلوماسي ـ غزة تستغيث.. ومصر تستجيب

المزيد من أقلام

wave
بكل صراحة - الثانوية .. حالة طوارئ

اقتربت امتحانات الثانوية العامة وصارت على أبواب الأسر المصرية ولابد أن حالة طوارئ واحتشاد توجد الآن فى عدد هائل من...

صورة - الثقافة والحوار الوطنى

للحوار الوطنى أهمية خاصة فى هذه المرحلة التى تشهد تحولات كبرى فى العالم كله، ومن الطبيعى أن يكون هناك آليات

بروح رياضية - كرسى فى الكلوب

فى الوقت الذى حققت فيه بعثة مصر للمصارعة فى بطولة أفريقيا بتونس إنجازات عظيمة، جاء شاب يدعى بغدودة

همسة قلم - موقف لا أنساه مع الراحل محمود بكرى

كنت طالبًا بكلية الإعلام وأتنقل بين مكاتب الصحافة العربية مثل عمال التراحيل.. هنا موضوعات سياسية وهناك