سيدات النهضة المصرية «45» أبلة فضيلة.. غنوة وحدوتة وأمومة صادقة دامت 50عاما

تدربت فى مكتب محاماة وكانت تنصح المتخاصمين بالتصالح فإقترح عليها الباشا العمل فى الإذاعة
منذ العام 1959، احتلت "فضيلة توفيق" قلوب الأطفال المصريين، القادرين على سماع الراديو، من "السلوم" إلى "أسوان" ومن "رفح المصرية" حتى آخر نجع وقرية على خريطة مصر شرقا وغربا، وسلاحها القوى، صوتها الحنون الدافئ، الصادق النبرات، والأمومة الحقيقية التى شعر بها الأطفال، وظلت أبلة فضيلة فى "الإذاعة" حتى أحيلت للتقاعد، وسافرت بعدها إلى كندا، وفاضت روحها هناك، فى جوار ابنتها "ريم إبراهيم"، وظلت خالدة فى قلوب ملايين الأطفال الذين تعلموا من برنامجها "غنوة وحدوته" ولقائها الأسبوعى فى صباح الجمعة من كل أسبوع، مع الرواد والبارزين من نجوم الفن والسياسة والثقافة وفريق أطفال برنامجها، وعلى مدى خمسين عاما، استطاعت "أبلة فضيلة" أن تربى الأجيال وتغرس فى القلوب الصغيرة الخضراء كل المعانى الإنسانية النبيلة وتعلمها الوطنية والإيمان بالله، وتؤدى دورا كبيرا فى خدمة الثقافة المصرية، وتجعل "ميكروفون الإذاعة" أداة لتشكيل الوعى وبناء الوجدان..
كل المولدين فى ستينات القرن الماضى، يعرفون صوتها المميز الطفولى، الرقيق، الحنون، وكل الأجيال التى شهدت عصر "الراديو" تعرف قدر هذه السيدة النبيلة الجميلة، فضيلة محمد توفيق، التى اشتهرت بلقب "أبلة فضيلة"، و"أبلة" باللغة التركية تعنى "الأخت الكبرى"، ولعل اختيارها هذا المستوى من القرابة أذكى ما حدث فى برنامجها الإذاعى "غنوة وحدوته"، كان بإمكانها أن تسمى نفسها "ماما فضيلة"، ولكنها اختارت أن تكون "أبلة" لأن الأخت هى "أم" لكن بدون "سلطة الرعب" التى تكونت فى وجدان الطفل المصرى، فالطفل المصرى فى المدينة، خاصة فى الطبقات الشعبية، يعرف وسائل العقاب التى تطبقها الأمهات وتتوارثها، ومنها "العض" و"القرص" فى مناطق مختلفة من الجسم، والضرب بالشبشب البلاستيك، وخرطوم أنبوبة البوتاجاز، وغيرها من وسائل العقاب التى تسربت إلى ـ الأم ـ عبر الأسرة التى نشأت فيها قبل أن تتزوج وتصبح أما لأطفال، وفى حكايات الرواد مثل "يحيى حقى" و"نجيب محفوظ" وغيرهما، نجد ظلال الألم ونحسها فى سطور كتبوها عن المدارس الابتدائية "الأهلية" و"الحكومية" التى قضوا فيها طفولتهم معذبين بالكفوف والعصى والفلقات، على أيدى "المعلمين" القساة القلوب الذين كانت تنقصهم الخبرة التربوية والوعى بخطورة القسوة على وجدان الطفل .
بابا صادق وبابا شارو
كان ظهور "الراديو" فى مصر مرتبطا بالمال والجاليات الأجنبية والمعارك بين الطوائف والتجار، بل إن تاريخ الإذاعة فى مصر، يخبرنا بأن تجارة المخدرات الدولية التى كان يديرها الاستعمار البريطانى، اعتمدت على الإذاعة، فكانت الإذاعات الأهلية تقوم بهذا الدور الخبيث، فمثلا تذيع أغنية "الجورايق وصافى، والبحر موجه موافى" للمطربة "ليلى مراد"، فيفهم تجار المخدرات "القطاعى" أن المخدرات وصلت إلى الشاطئ، وأن عليهم الاستعداد لتسلم الكميات التى يرغبون فى شرائها وإعدادها للبيع فى السوق المحلية، وكان المطربون يتخاصمون ويشتم بعضهم بعضا، عبر موجات الإذاعة، وفى"31 مايو 1934" نشأت "الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية" فى ظل وعى وطنى وثقافى بخطورتها، فأصبحت الطبقة الغنية تقبل على شراء أجهزة استقبال موجات الإذاعة "الراديو"، وتحرص على سماع برامجها الهادفة إلى رفع الوعى والتثقيف وبناء العقول، وحظى "الطفل" باهتمام القائمين على الإذاعة، وأصبح "بابا صادق" يخاطب الأطفال المدركين بأسلوب لطيف محبب يفهمونه، ومنه رسالته يتعلمون الخلق القويم والتعاليم الراقية، وكانت "المرأة" تحظى باهتمام كبير، فكان على خريطة الإذاعة برنامج يسمى "ركن المرأة" مهمته تثقيف المرأة وإمدادها بالخبرات التى تحتاجها فى بيتها وتلزمها لتربية أطفالها وفق القواعد السليمة، وكان الاتصال بين "الجامعة" و"الإذاعة" قويا، فكانت محاضرات أساتذة الجامعة تذاع عبر"الإذاعة" ويسمعها الناس فى المدن والقرى، ومن الأسماء التى لمعت فى تلك الحقبة "طه حسين" وتلميذته "سهير القلماوى" و"زكى المهندس" و"أمين الخولى"، وكانت الإذاعة تختار الإذاعيين من بين خريجى كليات الجامعة، خاصة الآداب، وكان "طه حسين" هو من رشح "محمد محمود شعبان" تلميذه المتميز للعمل فى الإذاعة، وشاءت الأقدار أن يقع حادث يحول دون قيام "بابا صادق" بتقديم برنامجه الموجه إلى الأطفال، فانتدبت إدارة الإذاعة، المذيع صاحب النبرة الهادئة، محمد محمود شعبان، وتدخلت الأقدار، لتجعل "كاتبة الآلة الكاتبة" تكتب اسمه هكذا "بابا شارو" بدلا عن "بابا شعبان"، وقدم "بابا شارو" الحلقة، وفرح الأطفال به وأعجبهم اسمه الجديد، وتلقى منهم الرسائل الدالة على شعورهم الطيب، واعتمد الاسم، فأصبح الجميع يعرف "بابا شارو"، وقليل من العاملين فى الجامعة والإذاعة ومصلحة الأحوال المدنية يعرفون اسمه الرسمى "محمد محمود شعبان" ..
ومن المهم أن نعرف الفارق بين "الإذاعة" التى ظهرت فى "مايو 1934" والإذاعة التى استقبلت "بابا شارو" و"حسنى الحديدى" و"جلال معوض" و"طاهر أبوزيد" و"محمد توفيق" و"يوسف الحطاب" و"أنور المشرى" و"السيد بدير"، والفارق يكمن فى السياسة، فالثلاثينات فى العالم كله شهدت أزمة مالية حادة وانهيارا فى الاقتصاد الرأسمالى، وفى مصر، ظهرت رؤى القصر الملكى والطبقة الحاكمة التى رأت ضرورة القيام بخطوات اقتصادية تستهدف إنقاذ ملاك الأراضى الزراعية، من هذه الأزمة العالمية، واختير "إسماعيل صدقى" وقبله "نسيم باشا" للقيام بهذه المهمة، والاثنان اتفقا على تعطيل الدستور، والقمع المباشر لكل من يطالب الحكومة بتوفير الغذاء وفرص العمل للخريجين، وفى الوقت ذاته اشتعلت الحركة الوطنية، فاندلعت انتفاضة "1935" التى راح ضحيتها عدد من شهداء "الجامعة" من أشهرهم "عبد الحكم الجراحى، على طه" وظهرا فى روايتى "القاهرة الجديدة" للكاتب "نجيب محفوظ" و"الشوارع الخلفية" للكاتب "عبد الرحمن الشرقاوى"، وهذا الحس الوطنى انتقل إلى الإذاعة محمولا فى عقول الإذاعيين المثقفين المتخرجين فى الجامعة المصرية "فؤاد الأول"، وشهدت مصرـ الحرب العالمية الثانية ـ ودفعت الثمن غاليا، بحكم كونها محتلة من قبل الإنجليز، وبحكم التزامها بمعاهدة "1936" التى تفرض عليها منح كافة التسهيلات للحلفاء بزعامة بريطانيا "قوة الاحتلال" بما فيها الأسلحة والأرض والأموال، وكان الإذاعيون يسعون للقيام بالدور الوطنى فى ظل القيود التى يفرضها الاحتلال، وفى العام 1951 اختلف المشهد، بوقوع مذبحة الإسماعيلية التى راح ضحيتها خمسون من رجال الشرطة المصرية وهم يقاومون الجيش البريطانى الذى أمرهم بإخلاء مبنى "محافظة الإسماعيلية" فأمر"فؤاد سراج الدين" الضابط "مصطفى رفعت" بالمقاومة حتى آخر طلقة، واندلع الكفاح المسلح فى "مدن قناة السويس" وانفكت قيود "الإذاعة"، وأصبح الإذاعيون فى ظل "حكومة الوفد الأخيرة" التى جاءت إلى الحكم فى العام 1950، ينقلون للناس وقائع "حرب الفدائيين" ويشعلون الحماس الوطنى فى صدور الشعب، وكانت "فضيلة توفيق" واحدة من ثمار حكومة الوفد الأخيرة، بقرار من "حامد زكى" المحامى الكبير ووزير المواصلات، وكانت الإذاعة تابعة لوزارة المواصلات، وهو الذى أرسل "فضيلة محمد توفيق" المتخرجة فى "كلية الحقوق" للعمل فى الإذاعة..
أبلة فضيلة هدية القدر
فى طفولتى، كان فى بيتنا الريفى فى "كوم العرب" بمحافظة سوهاج، جهاز "راديو" يعمل بالبطاريات الجافة "ستة حجارة ماركة فيكتوريا"، ومن هذا الراديو، اكتشفت العالم الخارجى، عرفت صوت الشيخ "أبو العينين شعيشع" وعرفت "فؤاد المهندس" و"شويكار" و"أم كلثوم" و"أبلة فضيلة"، ومعرفتى للسيدة ـ الأم الحنون ـ ارتبطت عندى بفترة الضحى من كل يوم، وهى الفترة التى تذاع فيها برامج الأسرة، منها "إلى ربات البيوت" المخصص للسيدات، و"أخبار خفيفة" المخصص لتقديم الأخبار التى تهم السيدات أيضا ، وكل أفراد العائلة، و"غنوة وحدوتة" الموجه للأطفال، وكان هذا البرنامج الرائع جذابا لأذنى، بفضل أغنية المقدمة التى تقول "ياولاد ياولاد، تعالوا تعالوا، علشان نسمع أبلة فضيلة، راح تحكى لنا حكاية جميلة.."، وسر نجاح هذا البرنامج كامن فى "أبلة فضيلة " التى استطاعت بصوتها الحنون أن تعرفنا المعانى والقيم، مستخدمة عناصر التراث الشعبى، والحكاية الشعبية، فمازلت أتذكر شخصيات "الطحان" و"شهبندر التجار" وغيرها من الشخصيات التى كانت تعتمد عليها ـ أبلة فضيلة ـ فى توصيل رسالتها إلى الأطفال، وهى تعلم أن "الحكايات" منتشرة فى الريف وأن الوسيلة المناسبة لعقولنا هى "السرد" المشوق، وكانت تفعل هذا بجمال وصفاء روحى، وابتسامة محسوسة، يحسها المستمع، وكان لقاء يوم الجمعة، مختلفا من حيث المضمون، فلم يكن قاصرا على "أبلة فضيلة"، كان اللقاء يشمل أصوات الأطفال المشاركين معها، وهم يوجهون الأسئلة للضيف الذى تختاره فى كل مرة، وتقدمه لنا باعتباره النموذج الناجح فى مجال تخصصه، وكانت حلقات هذا اللقاء تواكب الحياة التعليمية للأطفال، فتقدم الطرق السليمة لحل الأسئلة، والخطوات الصحية التى تجعل الطفل قادرا على تخزين المعلومات واستدعائها فى وقت الامتحان، واستطاعت ـ أبله فضيلة ـ بهذا الصدق أن تكون "قريبة" من قلوب الأطفال، ومن خلال برنامجها "غنوة وحدوته" عرفت صوت المطرب "على الحجار"، و"عفاف راضى"، كانا يقدمان الأغنيات التعليمية، ومما وعته الذاكرة، حديث للشيخ عبد الباسط عبد الصمد مع أطفال أبله فضيلة، وفقرات من برنامج "بابا شارو" الذى كان يقدم برنامجه قبل أن تقدمه "ابتداء من العام 1959"، ومن أشهر الفقرات "عيد ميلاد أبو الفصاد" وهو أوبريت إذاعى، على ألسنة الطيور، فيه معلومات مصاغة بحس فكاهى مناسب للأطفال، ومما أتذكره أيضا أننى رسمت فى "كراسة الرسم" حكاية من حكايات "أبلة فضيلة"، كانت الحكاية عن "السلام والمحبة"، وكان أبطالها من الحيوانات الأليفة، ورغم فشل التجربة، لأن الألوان التى استخدمتها "ألوان مية" لم تكن مناسبة للسطح الرقيق، فباشت الرسومات وتداخلت الألوان، وما قصدته من سرد هذه الحادثة، إيضاح "السطوة الروحية" التى تمتعت بها أبلة فضيلة، وجعلتنى أحاول ترجمة أفكارها بالرسوم والألوان!
والقدر كان رحيما بأطفال مصر، لما أرسل هذه الأم الطيبة لتقف وراء الميكروفون، بدلا عن الوقوف أمام القضاة فى ساحات المحاكم، والقصة حكتها ـ أبلة فضيلةـ للصحفى "محمود سعد" الذى استضافها منذ سنوات على قناة "النهار" فقالت إنها تخرجت فى كلية الحقوق، والتحقت بالكلية بناء على رغبة والدها، حتى تكون فى رعاية شقيقها الطالب بالكلية ذاتها، ولما تخرجت، بدأت مرحلة التدريب على مهنة المحاماة فى مكتب "دكتور حامد زكى"ـ المحامى ووزير المواصلات فى حكومة الوفد الأخيرة، وبلغه أن "فضيلة" تنصح المتخاصمين بالتصالح، وتدعو إلى البر والتقوى وتطلب من "الزبائن" التزام المثل والأخلاق، فوشى بها "زميل" لها، فدعاها "الباشا" إلى مكتبه ووبخها، واقترح عليها العمل فى "الإذاعة" وكانت تحت رئاسته ووافقت، وهناك وجدت نفسها مذيعة تقرأ الأخبار، وتتعلم على أيدى الإذاعى الرائد "حسنى الحديدى" وظلت تقوم بعملها المعتاد، حتى العام 1959 وهو العام الذى تقرر فيه التجهيز لإنشاء "تليفزيون" فى مصر، واستدعى "عبدالقادر حاتم" الإذاعى القدير "بابا شارو" ليكون ضمن مجموعة العمل التى تتولى إعداد مشروع التليفزيون، واستلزم الأمر، البحث عن بديل له يتولى تقديم برنامجه الموجه للأطفال، وتقدمت "فضيلة توفيق" للمهمة، ووافق "بابا شارو"، وطلبت منه أن يقدمها للأطفال، وقدمها بكلمات طيبة، ونجحت "أبلة فضيلة" وتوالت الحلقات، وفرح بها الآباء والأمهات، وبعد فترة قصيرة، عاد "بابا شارو" إلى الإذاعة بعــد وقتـوع خـــلاف بينتـه وبيــن الـوزير "عبد القادر حاتم"، وعرضت عليه "أبلة فضيلة" العودة إلى برنامجه وجمهوره من الأطفال، فرفض رفضا قاطعا، بعد أن تأكد له نجاح "أبله فضيلة".
وهذه "الخلطة الإنسانية" الراقية التى تسمى "أبلة فضيلة" هى حاصل جمع "الأم التركية، والأب النوبى، أمها التركية منحتها الوضوح والصدق والحزم، وأبوها النوبى منحها حنان النهر، وبساطته، ومنحنا أيضا شقيقتها الفنانة "محسنة توفيق" والسبرانو "يسر توفيق" التى لا نعرفها لأنها عاشت فى إيطاليا، معروفة لدى المتخصصين فى الغناء الأوبرالى، أما "محسنة توفيق" فعرفناها من السينما والتليفزيون، ورغم اختلاف التوجهات الفكرية والدراسات العلمية بين "محسنة وفضيلة"، الأولى تخرجت فى "الحقوق"، والثانية فى "الزراعة"، لكنهما تمتعا بحب الناس، كلنا فى طفولتنا أحببنا "أبله فضيلة"، ولما كبرنا وشاهدنا أفلام السينما ومسلسلات التليفزيون أحببنا "محسنة توفيق" فى أفلام "الزمار، العصفور، حادثة شرف"، ومسلسلات منها "ليالى الحلمية"، رحم الله أبلة فضيلة توفيق، وشقيقتها محسنة توفيق..
أخبار ذات صلة
المزيد من ثقافة
How Breakers Prevent Major Electrical Failures
How Breakers Prevent Major Electrical Failures
قصة مصورة - تحت الجردل
على سطح العربة، قرفص "الفواعلى"، منتظراً على نار قطع المسافة الشاسعة التي تفصله عن منطقة العمل.
حسن فؤاد.. الراعى الرسمى للمبدعين.. وجواهرجى الموهوبين
الفنان الذى حوَّل سجن الواحات إلى لوحات اكتشف واحتضن المئات من نجوم الرسم والصحافة وترك بصمته على الجميع رسوماته لشخصيات...
مى حمدى منصور تتحدث عن «عمها» شاعر النصر وصاحب «حدوتة مصرية»
عبد الرحيم منصور رفض طلب السادات بأن يكتب قصيدة هجاء فى الأبنودى والدته هى سر عبقريته.. وماتت بعد رحيله ب...