أوراق ساحر الكتابة «10» صبرى موسى يغيّر نهاية «قنديل أم هاشم» برعاية يحيى

أول فيلم مصرى يستعين بطبيب عيون كمستشار طبى للسيناريو / لماذا اختار المخرج سميرة أحمد لبطولته ورفض سعاد حسنى؟ / صلاح أبو سيف خطط لإخراجه.. وصاحب القصة اختار كمال عطية

لم يتخيل يحيى حقى عندما نشر قصته "قنديل أم هاشم" فى العام 1944 أنها ستحقق كل هذا النجاح، وهو نجاح من فرطه بدّل فرحته العارمة إلى انزعاج شديد، لأن الناس اختصروه فى تلك القصة، فكأنه – رغم غزارة إنتاجه وتنوعه – لم يكتب شيئا قبلها ولا بعدها، مع أنه هو نفسه كان لديه قصصا غيرها أقرب إلى قلبه على رأسها "صح النوم".

وعبّر يحيى حقى كثيرا عن هذا الانزعاج بأسلوبه الساخر، وهو ما يمكن أن تصادفه مثلا فى كتابه "كناسة الدكان"، فيقول:

"إن اسمى لا يكاد يُذكر إلا ويُذكر معه "قنديل أم هاشم"، كأنى لم أكتب غيرها.. وكنت أحيانا أضيق بذلك، ولكن كثيرين حدثونى عنها واعترفوا بعمق تأثيرها فى نفوسهم، منهم أديب يمنى قال لى: لقد أحسست أنك تصفنى حين أعود من القاهرة إلى اليمن.. وقال لى بائع كتب قديمة: مش القصة اللى فيها واد بياكل بُفتيك فى أوروبا وأهله بياكلوا طعمية فى مصر !".

  (1)

كتب يحيى حقى تلك القصة الطويلة  - التى يصعب أن تسميها رواية - فى حجرة صغيرة استأجرها بحى عابدين عقب عودته إلى مصر عام 1939، بعد نحو عشر سنوات قضاها فى السلك الدبلوماسي، وتنقل خلالها من جدة إلى أستانبول، ثم أخيرا فى روما لسنوات خمس، حيث كان على موعد مع الحضارة الأوروبية الحديثة بكل ما أحرزته من تطور وتقدم واستنارة.. فوجد نفسه غارقا فى عصر النهضة الذى نقل أوروبا كلها من الظلام إلى النور.

ولأنه فى الأصل ابن الحارة المصرية الشعبية، وبالتحديد ابن حى "السيدة زينب" بكل ما فيه من عادات وتقاليد وثقافة شرقية محافظة، تكاد تكون على طرف نقيض مع الثقافة الأوروبية الحديثة ونزعتها إلى المدنية والعلم، فإنه من تلك المفارقة التى عاشها بالتجربة ولدت قصة "قنديل أم هاشم" التى تتناول هذا الصراع الحضارى، أو بمعنى أدق  كما يقول الناقد د. أحمد كريم بلال - أزمة التفاعل مع الحضارة الغربية والموقف المذبذب منها،  وذلك  من خلال  الشاب إسماعيل الذى استوطن أبــوه التاجر الحاج رجب حى السيدة زينب، وكان يتمنى أن يكون ابنه طبيبـًا شهيرًا، لكن ابنه الذى كان دائم التفوق فى سنوات الدراسة لم يوفّق فى الحصول على مجموع كبير يؤهله لدخول كلية الطب التى تمنى أبوه أن يلتحق بها، وضحى الأب بقوت العائلة ليرسله إلى أوروبا لكى يدرس الطب هناك.

 ويرحل الابن إلى أوروبا ليعيش هناك سبع سنوات، ويتفوق فى الطب لدرجة ينال بها إعجاب أساتذته، ويجرى الكثير من العمليات الصعبة بنجاح.

 ويتعرف على الفتاة الجميلة (مارى) التى تعرِّفه بمباهج الحضارة الأوربيّة، ولذاتها المحرمة عليه فى بلاده، ويكتشف أن هناك عالمًا غريبًا عن عالمه الشرقى، وتتغير نظرته إلى الحياة، وتتأثر معتقداته وقناعاته، ويصبح مؤمنًا بالعلم فقط.

ويعود الابن ليكتشف أن مجتمعه غارقٌ فى الجهل والخرافة، فيكره هذا الشعب بتخلفه وقذارته، ويكره رضاه واستسلامه للعادات والتقاليد المتخلفة، ويغضب كثيرًا، لأن الجهل والخرافة قد امتد ليطول ابنة عمه: فاطمة النبويّة التى تضع لها أمه قطرات من زيت البترول المأخوذ من قنديل أم هاشم فى عينيها معتقدة أنه قادر على شفائها، وعندها يثور الشاب، ويحاول تحطيم قنديل أم هاشم، ويصطدم بالجماهير التى تضربه ضربًا عنيفًا كاد يفقده حياته. وعلى جانب آخر يفشل فى علاج ابنة عمه من المرض، بل ويسبب لها العمى التام؛ رغم أنه عالج حالات أصعب منها فى أوروبا!

 ويقرر الشاب اعتزال المجتمع، ويعيش فترة فى تأملاته وأفكاره، ثم يقوده التفكير إلى طبيعة الشعب المصرى الخالدة التى لا تتغير رغم مرور الكثير من الغزاة عليه، ويعود إليه إيمانه، ويتزايد إعجابه بهذا الشعب. وبعد فترة يتظاهر هذا الشاب بالاندماج مع الخرافات التى يؤمن بها أهله، ويطلب كمية من الزيت يستخدمه فى علاج فاطمة، وينجح بالفعل فى علاجها، ثم يتزوج منها، ويعيشا سويـًا حياة سعيدة.

 ويفتتح عيادة طبيّة يخصصها لعلاج الفقراء والبسطاء، ولا يتقاضى منهم أجرًا كبيرًا، ويكتسب حب الناس شيئًا فشيئًا، وبعد عمر مديد يموت، ويتذكره أهل الحى بالخير، ويستغفرون له، ويقرر راوى القصة (ابن أخى البطل إسماعيل) أن هذا الاستغفار بسبب العلاقات النسائية الكثيرة التى عرفها أهل الحى عن العم إسماعيل، والتى أجبرتهم طيبته ورقته على التغاضى عنها.

ويعترف يحيى حقى أنه استوحى اسم بطل قصته وربما حكايته من صديق له يدعى "إسماعيل كامل"، زامله فى السلك الدبلوماسى وكان آخر منصب شغله هو سفير مصر فى الهند، وكان يمثل فى نظره محاولة المزاوجة بين الشرق والغرب.

والآن، مطلوب من السينارست الشاب صبرى موسى أن يتعامل مع هذه القصة - بكل ما فيها من أفكار وشخصيات وصراعات وفلسفات - ويحولها إلى فيلم سينمائى يصل إلى كل الطبقات والمستويات.

(2)

لم يكن هناك خلاف على صبرى موسى لكتابة السيناريو، إنما الخلاف كان على مخرج الفيلم، إذ كان المخرج الكبير صلاح أبو سيف معجبا بالقصة وينوى تحويلها إلى فيلم من إخراجه، لكن إنشغاله بعمله الإدارى كمدير لشركة "فيلمنتاج" التابعة لمؤسسة السينما جعله يؤجل المشروع، إلى أن قدم استقالته وجاء سعد الدين وهبة ليحل محله.

وقتها كان المخرج الشاب كمال عطية من المغضوب عليهم فى عهد صلاح أبو سيف، وظل ممنوعا من العمل طيلة ثلاث سنوات بسبب خلافات بينهما، وهو الظلم الذى حاول المدير الجديد تداركه، وطبقا لما يحكيه كمال عطية فى مذكراته "السيرة أطول من العمر":

"استدعانى سعد الدين وهبة ليقول لى دون الخوض فيما مضى أنه يريد التعاون معى لأخرج أحد أفلام عهده الجديد.. سألنى إن كنت أرشح موضوعا أحب أن أخرجه فقلت له "قنديل أم هاشم"، تعجب وقال إنى أعرف أن صلاح أبو سيف لديه رغبة فى إخراجه، قلت إن الحكم فى هذا هو يحيى حقى نفسه، وقد كان.. وقال يحيى حقى أن الذى سيخرجه كمال عطية، كما أنى قد تفاهمت معه على ذلك قبل سنوات عدة ووعدته بأنه عندما يجد منتجا له سأعلمه بموافقتى الكاملة، وقد وجد المنتج ووافق يحيى حقى كما وعد".

أما بالنسبة لصبرى موسى فقد كان يحيى حقى موافقا ومتحمسا بعد النجاح المدوى الذى حققه السينارست الشاب معه فى "البوسطجي"، ولم يكن المخرج كمال عطية أقل حماسا من صاحب القصة، وربما لا يعلم كثيرون أن صبرى موسى وكمال عطية جمعتهما قبل "قنديل أم هاشم" تجربة سينمائية لم يُكتب لها أن تخرج للنور، فقد حدث أن تعاقدت فيلمنتاج مع كمال عطية على فيلم اسمه "الجسر الغربى"، وبسبب الخلافات بينه وبين مدير الشركة صلاح أبو سيف تعرض الفيلم لمضايقات وعثرات متعمدة، بدءا من السيناريو الذى تحدد له 300 جنيه أجرا، ومع تواضع المبلغ لم يجد كمال عطية بدا من الاستعانة بصديقه السينارست المغمور كامل عبد السلام، وأما الحوار فقد أسنده صلاح أبو سيف بنفسه إلى صبرى موسى وحدد له 1000 جنيه أجرا.

ولما انتهت كتابة الفيلم وعُرض على مراجع السيناريوهات بالشركة السينارست المعروف على الزرقانى ليقرر صلاحيته للتصوير، فإنه - كما يحكى كمال عطية- رفض السيناريو بتأشيرة دمها خفيف، إذ قال إن السيناريو على مستوى عال يجعله لا يحقق ربحا للشركة، وقد تقاضى على ذلك مبلغ تسعمائة جنيه نظير هذه التأشيرة، التى كان الجميع يعرف سببها! 

وامتد الحماس لصبرى - كاتبا لسيناريو وحوار "قنديل أم هاشم" - إلى المخرج محمد عبد الجواد الذى كلفه سعد الدين وهبة بالإشراف على شئون الانتاج بالشركة، وشرع صبرى فى الكتابة، ولأن السيناريو كان يتطرق إلى أمور طبية دقيقة خاصة بأمراض العيون فإنه استعان فيها بواحد من أشهر أطباء العيون وقتها وهو الدكتور إبراهيم شكرى، الذى قام بدور المستشار الطبى للفيلم، وظهر اسمه على التترات بتلك الصفة، وهو أمر كان جديدا على السينما المصرية، ولفت نظر عديد من النقاد الذين كتبوا عن الفيلم، فقال عاصم الإدفوى مثلا :"إنه فيلم يستحق الاحترام لسبب مهم، وهو أن للفيلم مستشارا طبيا يقف وراء كل المعلومات الطبية التفصيلية لأمراض العيون مثل التراكوما، وأعتقد أنه لأول مرة يناقش الفيلم المصرى تفصيلات العمل فى أى مهنة".

ورغم وضوح القصة وشخوصها وأفكارها وخطوطها، ورغم الأمانة الكاملة مع النص الأدبى الذى كتبه يحيى حقي، فإن صبرى موسى قدم تعديلات درامية خدمت النص ولم تخرج عن روحه، ونتوقف هنا أمام نموذجين:

الأول يتعلق بالسبب الذى دفع والد إسماعيل إلى سفره لدراسة الطب فى ألمانيا، ففى القصة الأصلية فإن الوالد جاءه "هاتف" فى المنام يدعوه لسفر ابنه إلى الخارج، وهو أمر بدا غير منطقى مع تدين الأب وتزمته وإيمانه بالخرافات، فكيف لرجل بتلك المواصفات أن يرسل ابنه لتلقى العلم فى أوروبا، وكان الحل الأقرب لمنطق الدراما أن تكون هناك رغبة قديمة ملحة لدى الأب لإلحاق ابنه بكلية الطب، فلما لم يحصل على الدرجات الكافية وكاد حلمه يضيع فإنه يتحمل تلك التكاليف الباهظة لإرساله إلى أوروبا ليعود بشهادة الطب.

والثانى يتعلق بمشهد النهاية، حيث جاءت خاتمة الفيلم أكثر اتساقا مع جوهر القصة، فإذا كانت الفكرة الرئيسية للقصة - كما يقول الباحث السينمائى المعروف د. ناجى فوزى - تقوم على الصراع بين العلم والخرافة.. فإن الفيلم قد احترم الاتجاه الفكرى لمؤلف النص الأدبى الأصلى للقصة، وفى نفس الوقت تصرف فى النص الأدبى سينمائيا.. بما فى ذلك تعديل نهاية القصة الأدبية، لأنها لا تتفق مع الخط الدرامى لسير القصة.. حيث كانت النهاية أن إسماعيل "قد ذاب فى سائل الجهل" وتكيف معه.. وبذلك نستطيع أن نقول إن إسماعيل فى الفيلم قد انتصر بعلمه على الخرافة.

دل السيناريو إذن على فهم عميق للقصة ووعى حقيقى بفكر يحيى حقي، وكذلك معرفة تامة بتلك الأجواء الشعبية التى تدور فيها الأحداث، وهو ما عبّر عنه ناقدا بقيمة رؤوف توفيق عندما كتب:

"يدخل هذا الفيلم تجربة سينمائية شاقة، هى تجربة تسجيل الحياة فى حى شعبى، ومن خلال هذه الحياة نقترب من شخصيات تبلور فى النهاية قصة درامية، المكان فيها هو البطل أساسا، لأنه يشكل الأحداث ويعطيها طعمها الخاص، المكان هو حى السيدة، وقد برع يحيى حقى فى تصوير هذه الأماكن عموما، ثم جاء صبرى موسى ليحول إحدى قصصه القصيرة ( 50 صفحة من الحجم الصغير) إلى سيناريو فيلم يعتمد على الدقة الشديدة فى رسم المكان وتأثيره على الأشخاص، وعلى أفكارهم ومعتقداتهم ومستقبلهم. وللحقيقة أقول إننى شعرت بأقدامى تغوص فى حى السيدة، وأننى أشم رائحة البخور والعرق،  وأن أكتافى ملتصقة بالدراويش وأصحاب الحاجة.. كل النماذج التى يمكن أن تصادفها فى هذا الحى قدمها الفيلم".

(3)

هذا الفيلم البديع الذى صار من أيقونات السينما المصرية شارك فى بطولته شكرى سرحان (بطل البوسطجى) وسميرة أحمد وأمينة رزق وعبد الوارث عسر وصلاح منصور وعزت العلايلى وماجدة الخطيب، وكان عرضه الأول فى 4 نوفمبر 1948 أى بعد نحو 7 شهور فقط من عرض "البوسطجى".. لن تصدق ما تعرض له من مشاكل وأزمات أثناء تصويره وبعده كادت أن تعصف به وتقضى عليه.. ولن تصدق كيف خرج هذا الإبداع فى ظل تلك الأجواء والعواصف .

ربما كان أهونها أزمة اختيار بطلة الفيلم، فقد كان سعد الدين وهبة ومساعديه فى مؤسسة السينما يميلون إلى ترشيح سعاد حسنى، فقد كانت وقتها فى عز وهجها وتألقها واسمها أكثر جذبا فى شباك التذاكر، ولكن مخرج الفيلم أصر على سميرة أحمد، لأسباب فنية وموضوعية تتعلق بشخصية "فاطمة"، فلن يصدق أحدا أن فتاة فى جمال وسحر سعاد تقبل أن تظل مستكينة ومستسلمة فى انتظار عودة شاب مهما كان شأنه، المنطق أن تتمرد على ظروفها، وبالتالى فإن حبسها فى دور فاطمة لن يقنع الجمهور، أما سميرة بجمالها الهادئ المطيع سيكون أكثر إقناعا، وهو ما حصل فعلا.

لكن العواصف الأخرى كانت أكثر خطرا، كان منها تهديدات بالقتل لصبرى موسى!

Katen Doe

أيمن الحكيم

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

المزيد من ثقافة

How Breakers Prevent Major Electrical Failures

How Breakers Prevent Major Electrical Failures

قصة مصورة - تحت الجردل

على سطح العربة، قرفص "الفواعلى"، منتظراً على نار قطع المسافة الشاسعة التي تفصله عن منطقة العمل.

حسن فؤاد.. الراعى الرسمى للمبدعين.. وجواهرجى الموهوبين

الفنان الذى حوَّل سجن الواحات إلى لوحات اكتشف واحتضن المئات من نجوم الرسم والصحافة وترك بصمته على الجميع رسوماته لشخصيات...

مى حمدى منصور تتحدث عن «عمها» شاعر النصر وصاحب «حدوتة مصرية»

عبد الرحيم منصور رفض طلب السادات بأن يكتب قصيدة هجاء فى الأبنودى والدته هى سر عبقريته.. وماتت بعد رحيله ب...