عائشة التيمورية.. شاعرة ومصلحة اجتماعية وداعية لتحرير المرأة قبل قاسم أمين

كتبت الشعر باللغات العربية والتركية والفارسية وكان بالنسبة لها الملجأ الذى تحتمى به كلما ضاقت بها الأحوال/ فقدت والدها وبعده بثلاث سنوات زوجها وصارت حاكمة نفسها

تنتمى لعائلة كردية الأصل من جهة الأب وتركية من جهة الأم.. وهى من مواليد "درب سعادة" بمدينة القاهرة.

أجادت العربية والفارسية والتركية.. وكتبت الشعر باللغات الثلاث وكتبت المقالات المدافعة عن حقوق النساء فى صحف عصرها

شقيقها أحمد تيمور باشا مؤلف موسوعى.. من أشهر مؤلفاته "قاموس العامية المصرية" وابن شقيقها "محمود تيمور" كان من رواد فن القصة القصيرة.. رغم أن الأتراك والشركس والأكراد، عاشوا فى مصر عيشة الحكام والعسكر وأصحاب الأطيان، لكن من بينهم نوابغ ومخلصين، منهم: محمود سامى البارودى وقاسم أمين والشيخ محمد عبده، وكانت "العائلة التيمورية" كردية الأصل، لها حضور فى السلطة الحاكمة التى ولدت فى "15مايو 1805"، وهو يوم تولى "محمد على" حكم مصر، برغبة شعبية وإرادة سلطانية عثمانية، فالضابط "محمد تيمور بن إسماعيل بن على كرد" كان من المقربين من "الباشا" وساعده فى القضاء على "المماليك"، وترقى فى الوظائف الإدارية من "كاشف" إلى "محافظ"، وتوفى فى العام 1847، وكان متزوجا من ابنة "عبد الرحمن أفندى الاستنبولى"، الكاتب فى ديوان "السلطان سليم الثالث"، وكانت "عائشة" ابنته محل اهتمامه وتقديره وهو من شجعها على القراءة والكتابة والإبداع..

قبل دخول عالم هذه الرائدة المبدعة "عائشة تيمور" أو "عائشة التيمورية"، من المهم أن نعرف العالم الذى عاشت فيه وأسلوب الثقافة الذى فتح لها باب الخروج على التقاليد القديمة والدعوة لنهضة المرأة، حتى اعتبرها المهتمون بحقوق المرأة واحدة من الرائدات اللاتى سبقن "قاسم أمين"، وكانت لها مقالات منشورة فى صحف عصرها تطالب فيها برفع المظالم الثقافية والاجتماعية والنفسية عن المرأة المصرية، والمعروف أن والدها كان من الضباط الكبار، وكان له دور مهم فى تشكيل النظام السياسى الذى تولد عقب خروج الحملة الفرنسية من مصر فى العام 1801، وظهور "قيادة شعبية" مصرية مكونة من علماء الأزهر والتجار، كان لها الدور الكبير فى عزل الوالى العثمانى "خورشيد باشا" وإرغام السلطان العثمانى على تعيين "محمد على"ـ الجندى فى الجيش العثمانى ـ واليا على مصر، وكافأه "الباشا" باختياره ليتولى مناصب إدارية رفيعة، وفيما بعد، تولى حفيده "إسماعيل أحمد تيمور" مناصب رفيعة داخل "قصر الخديو" وكانت "عائشة تيمور"من المقربات إلى السيدة والدة "الخديو إسماعيل"، وكان مولد ـ عائشة ـ فى ظرف تاريخى يجعل المرأة أسيرة للرجل المهيمن على الأرزاق والمصائر، فكانت الأمهات فى الشريحة العليا، تعلم البنات أشغال الإبرة والتطريز والطبخ، وقواعد العناية بالجسد، لتكون محل تقدير "الزوج"، وتكون الأم المثالية التى تربى أولادا وبناتا مهذبين، ولكن كان والد "عائشة" محبا للقراءة ومجالسة العلماء والمثقفين، ورأى فى ابنته الميل الكبير للكتب والثقافة والكتابة والقراءة، وكانت أمها تريدها ماهرة فى أشغال الإبرة، ووقع الصراع بين الأم والبنت، وحسم الأب المعركة، فطلب من "زوجته" أن تترك "عائشة" لشئون المحابر والأقلام، وتهتم بأختها، وتصنع بها ما تريد، وهيأ الوالد الضابط المحب للفكر والثقافة المناخ المناسب لميول ابنته.

    حياة "عائشة" وأحزانها

كانت "عائشة التيمورية" شاعرة موهوبة، تمتلك معارف واسعة، وقدرة على كتابة الشعر باللغات "العربية والتركية والفارسية"، وكان الشعر بالنسبة لها، الملجأ الذى تحتمى به كلما ضاقت بها الأحوال، ومن المؤلم فى حياتها، وفاة ابنتها "توحيدة" فى سن الشباب، فأقامت لها مناحة دامت سبع سنوات، ومما تبقى من قصائد "عائشة" التى كتبتها فى ظل تلك المحنة:

ـ ستر السنا وتحجبت شمس الضحى

وتغيبت بعد الشروق بدور

ومضى الذى أهوى وجرعنى الأسى

وغدت بقلبى جذوة وسعير

طافت بشهر الصوم أكواب الردى

سحرا وأكواب الدموع تدور

فتناولت منها ابنتى فتغيرت

وجنات خد شأنها التغيير

فذوت أزاهير الحياة بروضها

وانقد منها مائس ونضير.

ونحن هنا نقرأ قصة حياتها من مصدرين، الأول سيرتها الذاتية المسماة "نتائج الأحوال"، والثانى ما كتبته عنها "مى زيادة" اللبنانية التى عاشت فى مصر وهزت قلوب رجالها الكبار، ومنهم العقاد وغيره من رواد الصالون الأدبى الخاص بها، و"زينب فواز" وهى لبنانية أيضا، ووجدتا فى "عائشة التيمورية" رائدة للحركة النسوية المصرية، بل العربية، ومما كتبته "عائشة" من فصول حول حياتها فى شبابها:

"كانت أمى تعنفنى بالتكدير والتهديد، فلم أزدد إلا نفورا، وعن صنعة التطريز قصورا، فبادر والدى تغمد الله بالغفران ثراه، وجعل غرف الفردوس مأواه وقال لها:

ـ دعى هذه الطفيلة للقرطاس والقلم ودونك شقيقتها فأدبيها بما شئت من الحكمة

ثم أخذ بيدى وخرج إلى محفل الكتاب ورتب لى أستاذين أحدهما لتعليم اللغة الفارسية والثانى لتلقين العلوم العربية، وصار يسمع كل ما أتلقاه كل ليلة بنفسه.

والمعنى هنا واضح، كانت أم "عائشة " ـ التركية ـ ترغب فى تجهيز ابنتها لرجل، يتزوجها، ولكن الطفلة "أو الطفيلة" وهى تصغير طفلة، رفضت هذا الأسلوب واختارت الإبداع والورق والأقلام والعلوم والمعارف، وتواصل ـ عائشة ـ فى كتابها "نتائج الأحوال" رسم تاريخ حياتها وعصرها:

"وبالرغم مما كان متأصلا فى نفسى من الميل إلى تحصيل المعارف من جهة، والحصول على رضى والدتى من جهة أخرى فإن نفسى ما برحت نافرة من المشاغل النسوية، وكان من دأبى أن أخرج إلى قاعة منزلنا "السلاملك" فأمر بمن يوجد من الكتاب لأصغى إلى نغماتهم المطربة ولكن أمى ـ أقرها الله فى رياض الفراديس ـ كانت تتأذى من عملى هذا فتقابلنى عليه بالتعنيف والتهديد والإنذار والوعيد وتجنح أحيانا إلى الوعود اللطيفة، والترغيب بالحلى والحلل الطريفة، أما أبى ـ رحمه الله ـ فكان يخاطبها بمعنى قول الشاعر التركى "إن القلب لايهتدى بالقوة إلى الطريق المطلوب، فلا تجعل النفس معذبة فى يد اقتدارك" ويقول لها "احذرى أن تكسرى قلب هذه الصغيرة وأن تثلمى بالعنف طهره، ومادامت ابنتنا ميالة بطبعها إلى المحابر والأوراق فلا تقفى فى سبيل ميلها ورغبتها".

وتضيف "عائشة  التيمورية" قولها عن والدها المثقف وأثره فى تشكيل وجدانها:

"ثم وجه خطابه إلىّ قائلا: غدا سآتيك بأستاذين يعلمانك التركية والفارسية والفقه ونحو اللغة العربية فاجتهدى فى دروسك واتبعى ما أرشدك إليه واحذرى من أن أقف موقف الخجل أمام أمك، فوعدت أبى بامتثال هداه ووعدته أن أبذل جهدى لأكون موضع ثقته ومحققة أمله".

 وتزوجت "عائشة" التى كانت تحمل اسم "عصمت" على عادة مجتمعها فى تلك الحقبة التى كان فيها الناس يسمون المولود اسم تدليل واسما يدون فى الورق الرسمى، وأصبحت متمكنة من العروض والعلوم العربية ونظمت الشعر، ومنحها الله طفلة جميلة أسمتها "توحيدة"، وصفتها فى "نتائج الأحوال" بقولها:

"بعد انقضاء عشر سنوات، كانت الثمرة الأولى من ثمرات فؤادى "توحيدة"، نفحة روحى وروح أنسى، قد بلغت التاسعة من عمرها، فكنت أتمتع برؤيتها تقضى يومها من الصباح إلى الظهر بين المحابر والأقلام وتشتغل بقية يومها إلى المساء بإبرتها فتنسج بها بدائع الصنائع".

وتقول الكاتبة "مى زيادة" فى مقالة لها خصصتها للحديث عن "عائشة التيمورية" المكافحة من أجل حقوق المرأة، مشيدة بنضالها الرائد، موضحة الحزن الذى هز وجدانها بوفاة ابنتها "توحيدة":

"قضت توحيدة، فأقامت لها الأم مناحة دامت سبعة أعوام متوالية، فأضعف البكاء نظرها وأصابها الرمد، وتقول ـ عائشةـ "أصبح جسمى الضعيف كأنه فاقد الحياة لكثرة أتعابى وأوصابى، ثم أنعم الله علىّ بالشفاء وأشرقت ظلمة كآبتى بنور وجود ابنى "محمود" فكان فرحة بين الحزن"، والشائع أن "باحثة البادية" كانت أول مصرية عالجت الموضوعات الاجتماعية، وسبق أن أيدت هذه الفكرة، قبل الاطلاع على نثر"عائشة التيمورية" فأستدرك اليوم لأسجل الأسبقية لعائشة، التى كتبت فى هذه الموضوعات فى صحف عصرها وفى رسالتها "مرآة التأمل فى الأمور" وهى رسالة وجيزة فى ست عشرة صفحة من القطع الكبير، ليس لهذه الرسالة من تاريخ يؤقتها إلا أن كاتبتها ختمتها على طريقة ذلك العهد بامتداح لسمو الخديو السابق عباس حلمى باشا، فقد نشرت بعد توليه، أى بعد العام "1892"، فى السنوات العشر الأخيرة من حياة "التيمورية".

ويقول "محمود تيمور" عن عمته ـ شقيقة والده ـ الرائدة "عائشة التيمورية":

"نشرت مقالاتها فى جريدة "المؤيد"، ومن مثال ذلك مقالها المعنون "لاتصلح العائلات إلا بتربية البنات".

وفى رسالتها التى أشارت إليها "مى زيادة" وعنوانها "مرآة التأمل فى الأمور" دعت إلى إشراك المرأة فى الأعمال لأنه "طبيعى من حكم بارئ النسمات وموحد المخلوقات، ولأنه الأساس الأصلى لصيرورة مدار عمران هذا العالم على الزوجين، ولو أمكن الانفراد لخص عالم الأسرار أحدهما دون الآخر"، ومعنى القول هنا، ضرورة التعاون بين الرجل والمرأة فى كافة الأمور والأعمال النافعة، لأن الله عز وجل خلق الذكر وخلق الأنثى، وجعل ـ الحياة ـ تولد من اتحادهما، لا بانفراد كل طرف بحاله وشأنه، ولم تكتف بالدعوة إلى المساواة، بل قدمت الدروس التربوية للمرأة وللرجل بما يضمن للبيوت السعادة والاستقرار.

 عائلة «تيمور» المبدعة

    فى بدايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، عرفت "مصر" العائلات الأرستقراطية، وكانت تنقسم إلى أقسام، يحددها مصدر الثروة، فهناك أرستقراطية تركية وشركسية وكردية، تمثل ما تبقى من دولة المماليك، وهناك أرستقراطية "عربية قبطية" أوجدها "الخديو سعيد" بمنحه أبناء "عمد ومشايخ القرى" حق اللحاق بالجيش، والحصول على "الرتب العسكرية" والحصول على الأطيان، فتكونت شريحة أصولها عربية وقبطية، كان لها الفضل فى دعم الثورة العرابية ودعم ثورة 1919، لأن مصالحها كامنة فى دعم "الوطنية" فى مواجهة "الإمبريالية" أو الاستعمار، وكان رائد هذه الشريحة هو "رفاعة الطهطاوى" الذى ارتبط اسمه بالباشا "محمد على" وخلفائه، وكان من دعاة التنوير والتقدم، وناله الرضا السامى فأصبح يملك ما يزيد على الألف فدان، رغم أنه جاء من "طهطا" ليدرس فى "الأزهر الشريف" على نفقة أخواله، وكان والده فقير الحال رغم انتسابه إلى الدوحة النبوية الشريفة، ومن عهد "صلاح الدين الأيوبى" أصبح الأكراد حكاما على مصر، وهم الذين قضوا على العرش "الفاطمى" الإسماعيلى "الشيعى"، ومن الأكراد نبغ نسل " محمد تيمور بن إسماعيل" وهم: أحمد باشا تيمور، وهو شقيق "عائشة تيمور" ووالد الأديبين "محمد تيمور" و"محمود تيمور" والسياسى البارز فى القصر الخديوى "إسماعيل تيمور"، ومازال المثقفون والباحثون المصريون فى كافة مجالات الفنون والآداب يجنون ثمار منجزات "العائلة التيمورية" المبدعة، ومن مثال ذلك كتاب "قاموس العامية المصرية" ومكون من ستة مجلدات، و"الأمثال الشعبية المصرية" وهما كتابان لهما مكانة كبرى لدى دارسى العلوم الاجتماعية "علم الاجتماع والفولكلور والأنثروبولوجى"، وكذلك كان ولداه "محمد تيمور" المؤلف المسرحى، والقاص الرائد "محمود تيمور" وهو من رواد الرواية والقصة فى مصر، ولم تكن "عائشة التيمورية" مكتفية بكتابة مقالات الرأى الهادفة إلى إصلاح المجتمع والنهوض بأحوال المرأة، بل كتبت الشعر باللغة العربية الفصحى، وكتبت الأدوار بالعامية، وكتبت فى صنف أدبى قديم هو "المواليا"، وهنا نقرأ ما كتبته عنها "مى زيادة" موضحة مدى تجاوبها مع ثقافة عصرها:

"كان الناس فى عصر "عائشة" يتلقفون "الأدوار" و"المواليا"، تلك الأغانى الشعبية التى يفهمها الجميع ويستلذونها بلا إجهاد، لأنها تخاطب ألصق العواطف وتتحدث عنها باللهجة العامية، ومن الأدوار التى وضعتها "عائشة":

"حياتى بعد بعدك نوح

ووعدك ضيعك منى

وليه ترضى البعاد عنى

أنا أحب الحب

نفس الغرام روحى

وصبحت أول صب

الناس ترى نوحى

وتروى "زينب فواز" فى مقالة لها عن "عائشة التيمورية" وعلاقتها بفن الشعر:

"ومرت على الشاعرة فترة فقدت خلالها والدها "1882" ثم زوجها بعده بثلاث سنوات، وصارت حاكمة نفسها فأحضرت اثنتين لهما إلمام بالنحو والعروض، إحداهما تدعى "فاطمة الأزهرية" والثانية "ستيتة الطبلاوية" وصارت تأخذ عنهما النحو والعروض حتى برعت وأتقنت، وصارت تنشد القصائد والأزجال".

Katen Doe

خالد إسماعيل

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

المزيد من ثقافة

قصة مصورة - رجاّلة وسقاّلة

سيبدو لك المشهد غريباً للوهلة الأولى، وربما تحتاج أن تدقق قليلاً قبل أن "تجمع " تفاصيله، لتكتشف أنك أمام غابة...

خيرى دومة: فرحتى لا توصف بـ«التقديرية» لأنها جائزة باسم بلدى

مسيرة علمية كبيرة وباذخة، وعطاءات متعددة في البحث العلمي والترجمة والنقد الأدبى، ومشاركة فاعلة في المشهد الأدبي والثقافي الراهن، كل...

أحمد الشهاوى: أنا ابن القلق.. والكتابة بنت التوتر

أنا حكاء بالفطرة.. والرواية ليست غريبة علىّ أعتبرت «الأهرام» دارًا للعمل.. وليست دارًا لشعرى «التقديرية» مسئولية كبيرة تتطلب منى سعيًا...

شلل الاختيار الأزمة المصاحبة للأسئلة السهلة

حين يقف العقل عاجزًا أمام البديهيات

"الأونروا": المجاعة في غزة "متعمدة"
  • الجمعة، 22 اغسطس 2025 01:46 ص