محمود قرنى.. شاعر الغضب «العارم» كيف أصبح «ملاك الرحمة»للمبدعين

ظل يكتب حتى آخر نفس وترك 11 ديوانًا شعريًا/ لعب دوراً بفتح الأبواب أمام الأدباء للنشر فى كثير من الصحف العربية/ أسس «شعراء غضب» و«الفنانين من أجل التغيير» ولم يحصل على جائزة من الدولة

من بين كل الذين التقيتهم فى الوسط الثقافى المصرى يبقى اسم الشاعر الكبير الراحل محمود قرنى فى صدارة تلك "النخبة الذهبية" التى كانت تمثل "القوة الداعمة" دوماً لأى مبدع، خصوصاً من هؤلاء الذين جاءوا إلى القاهرة من خارجها، فقد ولد محمود قرنى فى قرية "العدوة" بالفيوم، وحين حصل على الليسانس فى  القانون من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1985، انتقل للعيش فى القاهرة، لكى يخوض معركته الكبرى مع تلك المدينة بكل ما تمثله من بشر وقيم ومبادئ، وأن يتضامن مع أشباهه من الشعراء والأدباء وأن يقف إلى جوار الموهوبين منهم، وقد كان من أجمل آثار هذه المعركة بينه وبين القاهرة أن كتب الشاعر محمود قرنى مآثره الشعرية تاركاً بصمته الخاصة على ضمير الشعر العربى.

كانت بداية معرفتى بالشاعر الكبير الراحل محمود قرنى (1961 ـ 2023)  فى أجواء عمله مراسلاً ثقافياً لجريدة "القدس العربى" اللندنية، منتصف عقد التسعينات من القرن العشرين، حين كان الزميل حسنين كروم مسئولاً عن مكتبها فى القاهرة، وحين كانت هى و"الحياة اللندنية" حلقتا الوصل بيننا ـ نحن الذين نحب الشعر والرواية والقصص القصيرةـ ومجمل أحداث الثقافة العربية، وقد كانتا ـ فى الوقت نفسه ـ الصحيفتان العربيتان الأكثر انتشاراً وتوزيعاً وتأثيراً فى العالم العربى، بعدما خبت الصحف المصرية الكبرى وتراجعت فيها صفحات الثقافة تراجعاً ملحوظاً وانكفأت على همومها المحلية، حيث لم يعد الشأن العربى والدولى مانشيتاً فى صحفنا الكبرى، لقد كان محمود قرنى بروحه الطيبة ووجهه الــــذى يشع بالأسى يقدم ـ فى هذا الوقت ـ رسائل جادة جداً عن حال الأدب والثقافة فى مصر، يعوض فيها غفلة الصحف المصرية ويطرح ما لا تطرحه من أسئلة مشروعة حول مستقبل الثقافة المصرية فى ظل هيمنة نظام الرئيس الراحل حسنى مبارك.

كان يكفى أن يُعجب بقصائدك محمود قرنى ليتحول إلى أكثر من رئة  تتنفس منها أنت والقصيدة معاً، بعيداً عن محدودية الرؤية فى الصحف المصرية، كان يطلب منى نسخاً من دواوينى لكى يرسلها إلى أصدقاء له من الشعراء العرب فى العاصمة البريطانية لندن، مثلما كان يلح فى طلب قصائد للنشر فى صفحة الثقافة التى كان يشرف عليها فى لندن صديقنا الشاعر العربى الراحل "أمجد ناصر" الذى تعرفنا عليه من خلال محمود قرنى، أنا عن نفسى أعتبره واحداً من ملائكة رحمتى الذين لم يخل منهم الوسط الثقافى المصرى أبداً، رغم كل ما نعانى فيه من آلام وعذابات، لقد كان قرنى بين أبناء جيله كبير الشبه بالشاعر الراحل حلمى سالم من حيث موقعه بين أبناء شعراء السبعينات.

خلال السنوات الأخيرة التقيت محمود قرنى مرات قليلة بكل أسف، كان شحوب المرض قد أخذ من همته الشىء الكثير، يومها سألته عن كتاب أعده قبل سنوات عن شعراء قصيدة النثر فى مصر وتضمن نصوصاً وشهادات ـ كنت واحداً من المشاركين فيه ـ فرد بأسى أنه لن يصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، كان محمود قرنى يشعر بالحزن لأنه وضع فى هذا الكتاب خلاصة معارفه وذوقه فى اختيار النصوص المشاركة، من أجل تقديم تغطية شافية للمشهد الشعرى المصرى، وهو جهد بحثى دؤوب لا أريد أن أصدق أننا خسرناه للأبد، فلو أن هذا الكتاب لا يزال مخطوطاً فى أحد دواليب الهيئة المصرية العامة للكتاب لكان بالإمكان إصداره احتفاء بالشاعر الراحل.

لقد فتح لنا صاحب "هواء لشجرات العام" أبواب النشر فى واحدة من أوسع الصحف العربية انتشاراً فى ذلك الوقت، أواخر التسعينات وحتى ثورة 25 يناير و30 يونيو 2013، وانهالت علينا طلبات الكتابة ورغبات النشر من صحف فى بيروت ولندن ودول الخليج، حين كان الحديث عن قصيدة النثر خطيئة فى صحيفة "الأهرام"، كان هو يحاول أن يقرأ مشهد الشعراء الجدد فى مصر، ففى ذلك الزمان كان من الممكن أن تكتب مقالاً نارياً فى جريدته التى تصدر فى لندن بمحررين فلسطينيين ولبنانيين، فتصبح مطلوباً للكتابة فى الصحيفة التى تنافسها مهنياً "الحياة اللندنية" التى تصدر من مكتبها الرئيسى فى بيروت، بينما الصحف المصرية الغارقة فى محليتها لا تزال تتآكل مساحات الثقافة فيها يوماً بعد يوم.

 مصالحة بين الأجيال

من بين كل شعراء جيل الثمانينات، يبدو اسم الشاعر محمود قرنى متميزاً بعدة سمات أسلوبية وشعرية وشخصية تخصّه، حيث كان من ذلك الجيل الذى سقط بين جيلين كبيرين، فى القصيدة الجديدة "جيل السبعينات"، بكل ما قدمه شعراؤه من عطاءات فى قصيدة الشعر التفعيلى إلى أن انقلبوا عليها وتمردوا بكتابة قصيدة نثر متميزة، و"جيل التسعينات"، هؤلاء الذين بدأوا مشوارهم الشعرى بكتابة قصيدة نثر عارية من كل الزخارف اللفظية وكل أدوات البلاغة القديمة، يكتبون قصائد تنتمى للحياة اليومية وتحاول أن تقدم العادى والهامشى وأن تكسر الشكل والروح التقليديين فى الشعر العربى.

أقول إن جيل الثمانينات الذى سقط بين جيلين كبيرين استطاع أن يقوم وأن يقدم صوته ورؤيته وعطاءه الشعرى من خلال قيادة مسيرة قصيدة النثر، سواء فى شعر الفصحى أو العامية، وأقصد بجيل الثمانينات من الشعراء والكتاب مثل: مجدى الجابرى وعلاء خالد وفاطمة قنديل وإبراهيم داوود وهشام قشطة ومسعود شومان ويسرى حسان وطاهر البرنبالى وعبدالحكيم حيدر وشحاته العريان وسمير درويش وعاطف عبدالعزيز وفتحى عبدالله وشريف رزق ومحمد السيد اسماعيل وغيرهم كثيرون، وهم الجيل الذى وقع عليه عبء التغيير وشارك فى قيادته وكتب قصيدة النثر، لكن محمود قرنى هو الذى امتاز على كل أبناء جيله بأن امتلك إلى جانب الفداحة الشعرية العارمة قدرة على تبنى أحلام وهموم أكثر عمقاً فى كتابة الشعر وفهمه، وتجنب السقوط فى ركاكة العادى والهامشى.

إلى جانب كل ذلك كان محمود قرنى هو "المثقف العضوى"  الذى يقول عنه الكتاب (دفاتر السجن) للمفكر الإيطالى انطونيو جرامشى، فقد أسس حركة "أدباء وفنانين من أجل التغيير" عام 2005، ثم أسس جماعة "شعراء غضب" وشارك فى تأسيس "ملتقى قصيدة النثر" فى القاهرة، لدورتين متصلتين 2009 و2010، بمشاركة أكثر من أربعين شاعراً عربياً، وهو الحراك الذى حقق الكثير من المكاسب للقصيدة العربية، وأجبر مؤسسات الثقافة المصرية على استيعاب قصيدة النثر ولعب دوراً أساسياً فى وصول قصيدة النثر إلى جوائز الدولة، فيما بعد، علماً بأن محمود قرنى لم يحصل شعره ـ هو نفسه ـ سوى على جائزة القراء، وهنا يكمن نبله فلم ينتفع بشىء من قصيدة النثر، التى انتفع من ورائها قليل من المنتفعين، وهجرها من أجل كتابة الرواية كثيرٌ من المهاجرين، وهو الأمر الذى لم يفعله قرنى أبداً.

 مجلة "مقدمة"

بكل هذه النبالة امتاز محمود قرنى على أبناء جيله بتحقيق حضور ملموس على خريطة الشعر العربى، حيث شارك فى مهرجانات شعرية عدة خارج مصر، منها "أصوات المتوسط" فرنسا، "جرش" الأردن، مهرجان الشعر العربى بالمغرب، مهرجان وهران لفنون الصورة والفيلم التسجيلى بالإضافة إلى عدد من المهرجانات الشعرية فى الكويت والعراق والأردن وأبوظبى".

أما على مستوى الصحافة الثقافية فقد كان محمود قرنى موجوداً وبقوة، حيث شارك فى تأسيس مجلة بأهمية "الكتابة الأخرى" مايو 1991 مع مؤسسها الشاعر هشام قشطة، كما شارك فى تأسيس مجلة "العصور الجديدة" التى أصدرتها "دار سيناء" للنشر نهاية عقد التسعينات من القرن العشرين، لكنه أطلق مجلته "مقدمة" التى أسسها بنفسه، كما شارك بكتابة المقالات فى عدة صحف عربية، إلى أن انضم إلى قائمة كتاب جريدة "الأهرام" بعد الثورة وكأحد أعمالها العظيمة، وبالتحديد منذ عام 2013، قبل أن يعتذر الشاعر عن الاستمرار فى الكتابة للأهرام عام 2015.

هكذا كان محمود قرنى زاهداً فيما يتكالب عليه الصغار، فمن هذا الذى يعتذر عن كتابة مقال فى واحدة من أقدم وأعرق الصحف العربية على الإطلاق، ثم لا يتوقف أبدا عن الاعتذار عما لا يعجبه، فقد انضم إلى عضوية مجلس أمناء "بيت الشعر" التابع لوزارة الثقافة ثم استقال منه بعد ذلك، بينما كان شاعر من أبناء جيله هو السبب فى تراجع أداء "بيت الشعر" لسنوات طويلة بسبب سوء الإدارة، وبسبب هذه الروح المتمردة ظل محمود شاعراً غزير الإنتاج الشعرى حتى آخر لحظات عمره، وكان مثل كل الشعراء الكبار يتحدى فى كل ديوان جديد نفسه، لكى يكون قادراً على تقديم رؤيته الشعرية عبر تحولات كبيرة فى الأسلوب وزوايا الرؤية، وخلال رحلته أصدر 11 ديواناً: "حمامات الإنشاد"، "خيول على قطيفة البيت"، "هواء لشجرات العام"، "طرق طيبة للحفاة"، "الشيطان فى حقل التوت"، "أوقات مثالية لمحبة الأعداء"، "قصائد الغرقى"، "لعنات مشرقية"، "تفضل هنا مبغى الشعراء"، "ترنيمة لأسماء بنت عيسى الدمشقى"، "أبطال الروايات الناقصة" مختارات شعرية.

Katen Doe

محمود خيرالله

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

المزيد من ثقافة

How Breakers Prevent Major Electrical Failures

How Breakers Prevent Major Electrical Failures

قصة مصورة - تحت الجردل

على سطح العربة، قرفص "الفواعلى"، منتظراً على نار قطع المسافة الشاسعة التي تفصله عن منطقة العمل.

حسن فؤاد.. الراعى الرسمى للمبدعين.. وجواهرجى الموهوبين

الفنان الذى حوَّل سجن الواحات إلى لوحات اكتشف واحتضن المئات من نجوم الرسم والصحافة وترك بصمته على الجميع رسوماته لشخصيات...

مى حمدى منصور تتحدث عن «عمها» شاعر النصر وصاحب «حدوتة مصرية»

عبد الرحيم منصور رفض طلب السادات بأن يكتب قصيدة هجاء فى الأبنودى والدته هى سر عبقريته.. وماتت بعد رحيله ب...