طرائف ومعجزات الشيخ أبوالعينين شعيشع

هو واحد من أركان دولة التلاوة، وأعمدة القوى الناعمة المصرية، صوته جمع الشامى والمغربى، ومحبته استقرت فى ملايين القلوب المتلهفة لآيات الذكر الحكيم، هو الشيخ أبوالعينين
هو واحد من أركان دولة التلاوة، وأعمدة القوى الناعمة المصرية، صوته جمع الشامى والمغربى، ومحبته استقرت فى ملايين القلوب المتلهفة لآيات الذكر الحكيم، هو الشيخ أبوالعينين شعيشع، الريفى البسيط الذى جاء إلى القاهرة وعمره 17 سنة، ولم تبهره أضواؤها، طاف شوارعها وعاش بين نجوم لياليها، كان يملك قلبا متصوفا وروحا شابة تمتلئ بحيوية الحب، حب القرآن والموسيقى والطرب وكرة القدم.. وحب الأكل أيضا. جمعتنى بالشيخ أبوالعينين شعيشع لقاءات عديدة، كان ودودا ومتواضعا، ولا ينطق اسمى دون أن يسبقه لقب "أستاذ"، رغم أنه أكبر منى بما يزيد عن ضعف عمرى، وكنت محظوظا بأن منحنى الكثير من حكاياته، التقيته فى منزله بمصر الجديدة، وفى المقر القديم لنقابة مقرئى القرآن بالقليوبية، وفى المقر الجديد للنقابة بكوبرى القبة، وداخل مبنى ماسبيرو، وفى كل مرة كنت أفوز بحكايات تزيدنى إعجابا بهذا الرجل العظيم فى كل تفاصيل حياته.
الأب موظف يحب الموسيقى والأخوة 12
كان والد الشيخ أبوالعينين شعيشع موظفا صغيرا فى إدارة الرى بمدينة بيلا التابعة لمحافظة كفر الشيخ، يحب الموسيقى، ويستمع لسيمفونيات بتهوفن، ويعشق صوت موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وكان محبا للحياة، فأنجب 12 طفلا، أكبرهم الشيخ أحمد، وأصغرهم الشيخ أبوالعينين.. آخر العنقود، والأخير التحق بالمدرسة الابتدائية الأهلية فى السادسة من عمره دون المرور بمرحلة الكتاب، وكان صاحب المدرسة وناظرها "منير جرجس"، المسيحى الذى انتبه مبكرا لموهبة هذا الصبى فى تلاوة القرآن، وجعله القارئ الأول للمدرسة فى طابور الصباح، وفى المناسبات، وفى واحدة من الحفلات المدرسية عام 1931 كان من بين الحاضرين أعيان المدينة، وكان الصبى الموهوب فى التلاوة عمره 9 سنوات، ووقتها اتفق الأعيان وناظر المدرسة على زيارة والدة هذا الصبى الذى مات والده فى هذا العام، لإقناعها بضرورة إلحاقه بالكتاب، ونجحت جهوده فى وضع الصبى الموهوب على أولى درجات سلم دولة التلاوة.
حفظ الشيخ أبو العينين شعيشع القرآن الكريم فى كتاب الشيخ يوسف شتا خلال عامين، واحترف القراءة فى المآتم والمناسبات الخاصة بمدينته، والقرى المحيطة بها، وزاد من بريق موهبته تعلمه المقامات الموسيقية على يدى الشيخ سالم السبع فى مدينة شربين، وبعد أن كان أجره خمسين قرشا، أصبح 4 جنيهات.
تفاصيل اختبار أصغر قارئ قرآن فى الإذاعة
جاء الشيخ أبو العينين شعيشع إلى القاهرة وعمره 16 عاما، للمشاركة فى أحد المآتم، وساق إليه القدر أن يكون من بين الحضور الشيخ عبد الله عفيفى موجودًا.. الشاعر وفقيه اللغة العربية الذى تتلمذ على يديه الملك فاروق، وقد أعجبته تلاوته، فطلب منه أن يذهب للإذاعة لاعتماده ضمن قراء القرآن، وبالفعل ذهب الشيخ أبو العينين شعيشع لمقابلة سعيد باشا لطفى مدير الإذاعة، ومستر فيرجسون المدير الإنجليزى، بعدها وجد نفسه أمام لجنة من فقهاء اللغة والتلاوة والموسيقى، وانتهت الجلسة باعتماده ليصبح القارئ الثالث بجانب الشيخين محمد رفعت وعبدالفتاح الشعشاعى، لكن ما كان يميزه وقتها أنه أصغر قارئ للقرآن، ووقتها نصحه المدير الإنجليزى للإذاعة ألا يذكر عمره الحقيقى حين يتحدث للصحافة، بل إنه طلب نشر خبر اعتماده فى جريدة الأهرام للتأكيد على أن عمره 25 سنة.. وليس 17 سنة.
بسرعة البرق أصبح الشيخ أبو العينين من بين المقربين للملك فاروق، استنادا لشهادة أستاذه الشيخ عبد الله عفيفى، لذا كان من بين قراء القرآن فى سرادق قصر عابدين فى ليالى رمضان، وكانت إدارة المراسم بالقصر تتواصل مع الشيخ الشاب لإبلاغه بأيام تواجد الملك فى السرادق الذى كان الهدف منه إظهار شعبيته فى مواجهاته ضد حزب الوفد، وفى أحد الأيام بشرت إدارة المراسم الشيخ أبو العينين بأن الملك سيمنحه وساما، وكان ذلك فى اليوم السابق لاحتفالات ليلة القدر عام 1942، وفرح الشيخ أبو العينين، ولكن حدث ما لم يتوقعه، فخلال تلاوته بالسرادق.. وبينما كان يردد الآية (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً)، وقتها دخل الملك فاروق، واعتبر أن الشيخ الشاب تعمد استقباله بهذه الآية، فجلس قليلا ثم غادر السرادق، وفى اليوم التالى وبعد أن مضت احتفالات ليلة القدر، وعلم الشيخ أبو العينين أن الوسام أصبح من نصيب كوكب الشرق أم كلثوم.
فوائد دروس العزف على العود فى منزل السنباطى
كان الشيخ أبو العينين عاشقا للموسيقى، وخاصة مقام الصبا أو مقام المراثى والأحزان، وهو المقام الذى اشتهر به كقارئ قرآن، وقد تصادف أن يكون مسكنه الأول فى القاهرة بمنطقة العباسية مجاورا لمنزل رياض السنباطى الملحن الشهير، وسرعان ما تعارفا وأصبحا صديقين، وهجر الشيخ الشاب منزله ليقيم بصحبة الملحن لما يقارب عاما، ليتعلم العزف على العود، مقابل أن يحفظ الملحن الشهير القرآن.
دروس العزف على العود منحت القارئ الشاب فرصة التعرف إلى حسن الإمام المخرج المعروف، وهو ما كان سببا فى ظهور الشيخ أبوالعينين بصورته الحقيقية كقارئ للقرآن فى أفلام: (النائب العام، ابن عنتر، المرأة، بلد المحبوب، غضب الوالدين، آمنت بالله، صحتك).
دروس العزف على العود مكنت الشيخ أبو العينين شعيشع أيضا من دخول المملكة الخاصة بكوكب الشرق أم كلثوم، التى كان يعشق صوتها، ويستمع لألحان أغنياتها قبل أن تسمعها هى، وكانت هى كثيرة السؤال عنه، وعندما اختلف القارئ الشاب مع الإذاعة عام 1948، وتوقف عن التلاوة، بعد علمه بنيتهم رفع أجر الشيخ مصطفى إسماعيل لـ 12 جنيها، بينما كان أجره هو سبعة جنيهات وخمسين قرشا عن كل تلاوة، رغم أنه يسبقه فى الالتحاق بالإذاعة بـ 4 سنوات، ووقتها تدخلت كوكب الشرق لدى رئيس الإذاعة، وأصبح أجر كلا الشيخين 25 جنيها.
معجزة المشاركة فى مراسم غسل الكعبة
سافر الشيخ أبوالعينين شعيشع إلى المملكة العربية السعودية، لتسجيل القرآن المصحف المرتل فى إذاعة جدة، وخصصوا له مرافقا اسمه "محمد" وسيارة بسائق تنقله لأى مكان يريده، فى أحد الأيام بعد أن انتهى من التسجيل قرر التوجه للحرم، وأبلغه المرافق أن اليوم يصادف مراسم غسل الكعبة، والحرس لن يسمحوا له بحرية الحركة إلا إذا كان لديه دعوة من الملك فيصل، لأنه سيشارك فى هذه المراسم، فطلب منهم أن يوفروا له دعوة، لكن محاولاتهم لم تسفر عن شىء، فقرر اللجواء لمسؤولى البعثة الرسمية المصرية، وذهب لمقرهم فى فندق الحرمين، ولم يعثر على أحد، فجلس فى غرفة الاستقبال، وتمنى على الله أن يمنحه شرف المشاركة فى غسل الكعبة، وظل يبكى.. حتى غاب عن الوعى، ولم يستفق من هذه الحالة إلا حين شعر بيد تهز كتفه.. وكأن صاحبها يوقظه من النوم، وحين نظر إليه لم يستطع رؤيته، لأن الدموع كانت تملأ عينيه، لكنه سمعه يقول (دى الدعوة اللى طلبتها)، فأمسك الشيخ أبوالعينين بالدعوة، وكان مكتوبا عليها اسما لا يعرفه، لكنه حين قدمها للحرس، تركه يمر، وفجأة وجد نفسه داخل الكعبة.. فسقط على الأرض ليقبلها، ونظر للسماء.. فلم يجد بينه وبينها سقفا، وظل يبكى.. وتتساقط دموعه على الأرض فيمسحها بملابسه.
بيلا.. مدينة الأحرار
كان الشيخ أبوالعينين شعيشع شديد الاعتزاز بجذوره الريفية، لذا شارك فى الكثير من المناسبات المتعلقة ببلدته "بيلا"، وتصادف أن يكون من بين رموزها البكباشى محمد على المنشاوى أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، وضابط الشرطة صلاح الدسوقى، الذى اختاره جمال عبدالناصر ليكون محافظا للقاهرة بعد ثورة يوليو، وكلا الضابطين كان سببا فى إقامة أول سرادق فى بلدتهما لاستقبال "عبدالناصر" عام 1954، وأحيى هذه الليلة الشيخ أبوالعينين شعيشع، ومنذ هذا التاريخ عرفه الزعيم، وحين أصيب القارئ الشهير بمرض لم يقوَ معه على تلاوة القرآن فى الإذاعة، أصدر "عبدالناصر" قرارا بإعادة بث تسجيلاته طوال فترة مرضه، على أن يحصل على أجره مثل أى قارئ.
مدينة "بيلا" كانت سببا أيضا فى تشجيع القارئ الشهير للنادى الأهلى، لسببين، الأول أن رئيس النادى "بلدياته" البكباشى صلاح الدسوقى خلال فترة توليه منصب محافظ القاهرة، والثانى أنه كان يحب كرة القدم، رغم أنه لم يمارس هذه الرياضة.
كان الشيخ أبو العينين شعيشع محبا للحياة بكل فنونها، وملذاتها، ولا يخجل من إعلان حبه لأكلات اللحوم والسمك المشوى والفطير المشلتت بالسمن البلدى، بل دائما ما كان يقول (الأكل الكويس يطلع بنى آدم كويس، احنا كان عندنا عباقرة فى كل المجالات.. لما كان أكلنا كويس)، والغريب أننى سألت مرات عديدة عن سبب غياب الأصوات الجيدة فى قراءة القرآن منذ سنوات، كنت أسمع منه إجابة واحدة لا تتغير (انتو بتاكلوا بلاستك.. علشان كده صعب تطلعوا قارئ كويس أو مطرب كويس أو لاعب كورة كويس.. لما تاكلوا كويس هتبطلوا تسألوا).
الشيخ أبو العينين شعيشع كان نجما لامعا.. يسعى إليه الملوك والرؤساء، ويتهافت على قربه ملايين المعجبين بموهبته فى التلاوة، ومكانته المرموقة لم تفقده بساطته وصدقه، وانحيازه لما يؤمن به طوال حياته، وإلى أن فارق الدنيا فى 23 يونيو 2011 عن عمر ناهز 89 عامًا، كان محبا لزوجته.. ولم يغضبها أو يطلب منها ارتداء الحجاب، كان يجالس أبناءه ويعزف لهم الموسيقى، ويغنى ويلعب معهم، فنفعهم بعلمه ومحبته، فأصبح الابن الأول محمد حسام أبوالعينين طبيبا بالولايات المتحدة الأمريكية، الابن الثانى محمود أبو العينين وكان مديرا عاما بالبنك الزراعى، أما الابنة الثالثة فهى منى أبو العينين فعملت مترجمة فورية.
أخبار ذات صلة
المزيد من ثقافة
قصة مصورة - رجاّلة وسقاّلة
سيبدو لك المشهد غريباً للوهلة الأولى، وربما تحتاج أن تدقق قليلاً قبل أن "تجمع " تفاصيله، لتكتشف أنك أمام غابة...
خيرى دومة: فرحتى لا توصف بـ«التقديرية» لأنها جائزة باسم بلدى
مسيرة علمية كبيرة وباذخة، وعطاءات متعددة في البحث العلمي والترجمة والنقد الأدبى، ومشاركة فاعلة في المشهد الأدبي والثقافي الراهن، كل...
أحمد الشهاوى: أنا ابن القلق.. والكتابة بنت التوتر
أنا حكاء بالفطرة.. والرواية ليست غريبة علىّ أعتبرت «الأهرام» دارًا للعمل.. وليست دارًا لشعرى «التقديرية» مسئولية كبيرة تتطلب منى سعيًا...
شلل الاختيار الأزمة المصاحبة للأسئلة السهلة
حين يقف العقل عاجزًا أمام البديهيات