سكينة بنت الحسين.. صاحبة أول صالـون أدبى نسائى فى تاريخ الإسلام

احتفظت سكينة بأحزانها فى قلبها، وربط الله على قلبها الصغير فأنزل عليه سكينة من عنده، لولاها لانفطر ولماتت كمدا كما ماتت أمها بعد شهور من استشهاد زوجها الإمام الحسين
احتفظت سكينة بأحزانها فى قلبها، وربط الله على قلبها الصغير فأنزل عليه سكينة من عنده، لولاها لانفطر ولماتت كمدا كما ماتت أمها بعد شهور من استشهاد زوجها الإمام الحسين فى كربلاء، فما بالك وهى الصبية التى لم تختبر الحياة بعد تجد نفسها فى أقل من عامين تفقد أعز الناس إلى قلبها: أبيها الإمام الحسين، وأمها الرباب بنت امرؤ القيس وعمتها زينب عقيلة آل البيت.
(1)
عادت سكينة من مصر بعد رحيل عمتها زينب، وأقامت فى المدينة المنورة فى رعاية أخيها الإمام على زين العابدين، الناجى الوحيد من عقب الحسين بعد مذبحة كربلاء، وكان لا بد أن تستأنف سكينة حياتها، ومع الأيام استردت كثيرا من نضارتها، ووقف الخُطّاب بباب أخيها يطلبون يد بنت الحسين، ولكن من يكون كفئا لكاملة الأوصاف حسبا ونسبا وجمالا وخُلقا؟!
ومن غيره مصعب ابن الزبير، فأبوه الزبير بن العوام صاحب النبى وابن عمته والمبشر بالجنة، وجدته لأبيه صفية بنت عبد المطلب، وعمته خديجة أم المؤمنين وجدة سكينة لأمها، فما أشرفه نسبا، ثم إنه الفارس زينة الشباب ومضرب الأمثال فى الشجاعة والمروءة والكرم عزة النفس.
والراجح أن مصعبا رأى سكينة لأول مرة فى مكة المكرمة حين جاءت مع أبيها الإمام لتؤدى مناسك الحج قبل أن يشد الرحال إلى كربلاء، وفى تلك الأسابيع التى قضتها سكينة فى مكة فإنها لفتت الأنظار بجمالها وأناقتها ولباقتها وبلاغتها، ووقعت من حينها فى قلب مصعب، وهمّ أن يطلبها من أبيها لولا أن نرى أن الظرف غير مناسب، فالإمام كان يعيش محنة وفى طريقه لمأساة..فلا وقت للحب!
وكتم مصعب حبها فى قلبه سنوات، إلى أن حانت اللحظة المناسبة، فذهب يطلب يدها من أخيها السجّاد على زين العابدين بوصفه ولى أمرها، وقوبل طلبه بالقبول، ولأنه يعرف مقدار بنت الإمام ومنزلتها فإنه قرر أن يكون صداقها (مهرها) ألف ألف درهم، وزاد على هذا المبلغ الهائل أربعين ألفا أخرى قدمها هدية منه لأخيها عندما حملها إليه فى البصرة..
كانت سكينة يومها فى العشرين من عمرها، وكان مصعب يومها أمير البصرة فى الدولة التى أسسها أخوه عبدالله بن الزبير، وامتدت من الحجاز إلى العراق، وكان ابن الزبير ممن رفضوا خلافة يزيد وأبوا بيعته وخرجوا عليه، وعيّن أخاه مصعبا واليا على البصرة، فحكمها بالرشد والعدل وحظى بمحبة الناس، فقال فيه شاعرهم: إنما مصعب شهاب من الله / تجلت عن وجهه الظلماء / ملكه ملك قوة / ليس فيه جبروت ولا به كبرياء/ يتقى الله فى الأمور / وقد أفلح من كان همه الاتقاء.
وكان مصعب قد سبق له الزواج من عائشة بنت طلحة، المرأة التى ضرب بها العرب المثل فى الجمال، وكُتب فيها من الشعر ما حولها لأسطورة، وكانت هى الأخرى صاحبة حسب ونسب، فأبوها طلحة بن عبيد الله صاحب النبى والمبشر بالجنة، وأمها أم كلثوم بنت أبى بكر الصديق، ولكن سكينة لم تنشغل بضرتها إذ كان لديها ما يشغل وقتها وقلبها: ذكر الله.. والعلم.. والبلاغة.
ومن جديد كانت سكينة على موعد مع الحزن الواعر، وكأنه مكتوب عليها مصاحبته، فقد جرد الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان حملة ضخمة لقتال مصعب وانتزاع العراق، وجاءه رسول الخليفة يعرض عليه الأمان والعفووأن يبقى واليا على البصرة مقابل أن يبايع الخليفة، مجرد كلمة يقولها ويحصل بعدها على كل شيء، لكنه رفض كل الإغراءات والإغواءات وأصر على القتال، متمثلا ومقتديا بالإمام الحسين، وهوما تجلى فى قوله يومها لسكينة : ما ترك أبوك لابن حرة عذرا!
وقبل أن يخرج للحرب دخل مصعب ليودع سكينة، فخانتها دموعها وصرخت ملتاعة كأنما تذكرت أبيها: وأحزناه عليك يا مصعب، كانت سكينة تعبر له بوضوح ولأول مرة عن مدى ما تكنه له فى قلبها، وفوجئ مصعب بكل هذا الحب وسألها فى لهفة: أكان كل هذا الحب لى فى قلبك ؟، وتجيبه سكينة وهى تغالب دموعها: بلى يا مصعب، وما كنت أخفى أكثر، ويقول لها وقد سمع من يستعجله بالخارج: لوكنت أعلم لكان لى ولك يا سكينة شأن آخر!
ويتكرر سيناريو كربلاء من جديد، فيخذله أهل العراق كما خذلوا الحسين، ويجد مصعبا نفسه فى نفر قليل من أصحابه يواجهون جيشا بأكمله، فيقاتل ببسالة إلى أن لا يبقى فى جسده موضعا لطعنة أوضربة، وبكل خسة يقطعون رأسه ويرفعونها على رماحهم ليتفرج عليها الخليفة!
وتتجدد أحزان سكينة، ولا تستطيع أن تكتم غضبها عندما جاءها أهل العراق ليعزوها فى مصعب، فتنفجر فيهم: الله يعلم أنى أبغضكم، قتلتم جدى علي، وقتلتم أبى الحسين، وزوجى مصعب، فبأى وجه تلقوننى؟!، أيتمتمونى صغيرة وأرملتونى كبيرة"، وكما رثت أباها سيد الشهداء بعد كربلاء، فقد رثت زوجها مصعب بعد مقتله، ونُسبت إليها هذه الأبيات:
إن تقتلوه تقتلوا الماجد/ الذى يرى الموت إلا بالسيوف حراما/ وقبلك ما خاض الحسين منية/ إلى القوم حتى أوردوه جماما.
(2)
وتعود سكينة إلى المدينة، تحمل حزنها الجديد فى قلبها وتضيفه إلى رصيدها القديم المتخم، تعتزل الدنيا والناس لفترة تعالج فيها روحها المتعبة، ولأنها كانت فى عز شبابها فلم يكن لها أن توقف نهر الحياة، ولأنها كانت ذات الحسب بنت الحسين فقد جاءها من يطمع فى النسب الشريف، فتزوجت بعد فترة من عبدالله بن عثمان، ورزقت منه بأولادها: عثمان وحكيم ورُبيّحة، ومن جديد تستكثر عليها الدنيا سنوات من الاستقرار والسكينة، فتجد نفسها أرملة!
ثم كانت زيجتها من زيد بن عمرو، حفيد رابع الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وهى زيجة لم تستمر طويلا، إذ طلقها بأمر من الخليفة سليمان بن عبد الملك.
لا نريد أن نقف كثيرا عند الحياة الخاصة للسيدة سكينة، فهناك فى سيرتها ما هوأهم وأبقى، وبينه مثلا صيتها الذى ملأ المدينة المنورة، ليس فقط لمكانتها كدرة من درر آل بيت النبى وابنة للإمام الحسين، ولكن كذلك لمكانتها الأدبية، فقد كانت سكينة صاحبة أول صالون أدبى ثقافى نسائى فى تاريخ الإسلام، سبقت به صالونات ذاع صيتها فيما بعد كصالون ولادة بنت المستكفى فى الأندلس، ومى زيادة فى القاهرة.
وفى صالون سكينة كان يجتمع أمراء الشعر فى زمنها، فى مكانة جرير والفرزدق وجميل وكُثير ونصيب، كانوا يقولون الشعر وينتظرون حكمها، وكانت سكينة تمتلك ناصية اللغة وأسرار البلاغة ومفاتيح البيان، كما أنها نفسها كانت شاعرة مجيدة رغم قلة أشعارها.
ويمكننا أن نقول بلا مبالغة إن السيدة سكينة، بشهادة ثقات من معاصريها، كانت أول ناقدة أدبية عرفها التاريخ الإسلامي، فكانت لها ملاحظاتها الذكية ورؤيتها الواعية، كما كانت حافظة للشعر عارفة ببحوره وأوزانه ومتذوقة لكلماته، ولذلك كان الشعراء الكبار يحسبون حسابا لرأيها وملاحظاتها، ويحتكمون لها فى منافساتهم على إمارة الشعر، والراجح أنها كانت تحضر صالونها من وراء حجاب، وكان لها وصيفة ترسلها لتبلغ عنها رأيها فيما تسمع.
(3)
والسؤال الآن: هل جاءت السيدة سكينة إلى مصر؟
تقول روايات المؤرخين إن والى مصر الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان، أخو خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز، خطب السيدة سكينة من أخيها الإمام على زين العابدين، طمعا فى حسبها ونسبها، وربما كان من الأسباب التى دعتها للموافقة أنها ستنتقل لتعيش فى مصر، البلد الذى جاءته وهى صغيرة مع عمتها السيدة زينب ولمست عشق المصريين لآل بيت النبى وترحيبهم الشديد بكل من ينتسب لهم، وبالغ الأصبغ فى كرمه وإكرامه لسكينة، فراح يهيئ لها مكانا يليق بها، وأنفق الكثير من المال على البناء والُاثاث، لكنها وهى فى طريقها لمصر سمعت الكثير عن ظلم الأصبغ للناس وجوره وفجوره واستبداده وأنه لا يرعى لله حرمة ولا دين، فأقسمت ألا تكون له زوجة، ودعت الله أن ينجيها من تلك التجربة وألا ترتبط بهذا الرجل الظالم، وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة لدعوتها، فمات الأصبغ قبل أن تصل السيدة سكينة إلى مصر وقبل أن يراها.
ويشير المؤرخون إلى أزمة قلبية ربما كانت السبب فى أن تودى بحياة الأصبغ، فقد سمع عمه الخليفة عبد الملك ابن مروان عن سفه ابن أخيه وما أنفقه من أموال على خطبة سكينة وتجهيزه للزواج منها، فأرسل إليه يخيّره بين سكينة وولاية مصر، فكانت صدمة له لم يحتملها قلبه، وربما كانت دعوة سكينة أسبق!
الراجح أن السيدة سكينة جاءت إلى مصر فى آخر حياتها وعاشت ودفنت بها، وهوما يؤكده الإمام الشعراني، وهومن هومتصوف ومؤرخ، فيقول نصا فى كتابه "الطبقات الكبرى": لما دخلت السيدة نفيسة مصر كانت عمتها السيدة سكينة المدفونة قريبا من دار الخلافة مقيمة بمصر ولها الشهرة العظيمة".
والسيدة نفيسة المقصودة هنا هى نفيسة الكبرى بنت زيد الأبلج بن الحسن السبط، وكانت متزوجة من الخليفة عبد الملك بن مروان، فاختلفت معه على ظلمه للناس ولما طلقها جاءت إلى مصر لتلحق بعمتها السيدة سكينة التى كانت قد سبقتها إلى أرض المحروسة، ونفيسة الكبرى هى عمة السيدة نفيسة الصغرى التى لحقت بهن فيما بعد وذاعت شهرتها وطغت، حتى أن كثيرين لا يعرفون أن بمصر.. نفيستان من آل البيت ومن نسل الحسن السبط.
وكان مسجد السيدة نفيسة فى البداية مجرد بناء متواضع، إلى أن هدمه الأمير المملوكى عبد الرحمن كتخدا وأعاد بناءه على شكله الحالى عام 1173 هجرية، وكتب عليه هذه الأبيات:
حرم يا بنت الحسين مؤرخ/ لسكينة تصبوالمواهب/ ذا مسجد يا آل طه مؤرخ/ شمس هدى بنت الحسين سكينة.. مما يعد دليلا على صحة وجود جسدها الطاهر فى ضريحها داخل المسجد.
وكتب على باشا مبارك عن ضريح السيدة سكينة، فوصفه بأنه مجلل بالبهاء والنور، وعليه تابوت من الخشب، وأوقافه تحت نظر الديوان.
ويذكر المؤرخون أن الضريح فى البداية كان منخفضا عن مستوى سطح أرض المسجد، فلما جدده الخديوعباس الأول سنة 1232 هجرية فإنه رفع الضريح ليتساوى مع مستوى أرض المسجد، كما وضع عليه مقصورة من النحاس شبيهة بتلك الموجودة بمقام السيدة نفيسة..ومن المؤرخين من يؤكد أن السيدة سكينة دُفنت بالمدينة المنورة، وينفى قدومها لمصر من الأساس.. والحق أن سيرة السيدة سكينة بالذات هى الأكثر تعرضا للتدليس والتزوير والتشويه من بين سيدات آل البيت، ويمكنك أن تقرأ عنها ما يتجاوز العقل والمنطق.. والأدب!
أما عن مجيئها ودفنها فى مصر فيمكنك أن تلقى نظرة على عيون المصريين الذين يزورون ضريحها للتبرك بها، فستدرك من فرط الوجد والمحبة والصدق والعشق أن بنت الحسين مدفونة فى قلوبهم!
أخبار ذات صلة
المزيد من ثقافة
How Breakers Prevent Major Electrical Failures
How Breakers Prevent Major Electrical Failures
قصة مصورة - تحت الجردل
على سطح العربة، قرفص "الفواعلى"، منتظراً على نار قطع المسافة الشاسعة التي تفصله عن منطقة العمل.
حسن فؤاد.. الراعى الرسمى للمبدعين.. وجواهرجى الموهوبين
الفنان الذى حوَّل سجن الواحات إلى لوحات اكتشف واحتضن المئات من نجوم الرسم والصحافة وترك بصمته على الجميع رسوماته لشخصيات...
مى حمدى منصور تتحدث عن «عمها» شاعر النصر وصاحب «حدوتة مصرية»
عبد الرحيم منصور رفض طلب السادات بأن يكتب قصيدة هجاء فى الأبنودى والدته هى سر عبقريته.. وماتت بعد رحيله ب...