تغريبة عاشق المحروسة الكبير فى بلاد العثمانلى

ونواصل الرحلة مع المناضل الذى سبق عصره عبد الله النديم، وكنا قد توقفنا فى الحلقة الأولى عند اختفاء النديم بعد هزيمة عرابى الذى كان النديم أحد أهم رجاله، وقد نجح

ونواصل الرحلة مع المناضل الذى سبق عصره عبد الله النديم، وكنا قد توقفنا فى الحلقة الأولى عند اختفاء النديم بعد هزيمة عرابى الذى كان النديم أحد أهم رجاله، وقد نجح النديم فى الهروب من الخديو توفيق ومن الإنجليز لمدة تقترب من عشرة أعوام متنكرا فى هيئات مختلفة.

عاش النديم فى الريف المصرى فى الدلتا وبالتحديد فى محافظتى الدقهلية والغربية ما يقرب من عشر سنوات مطاردا من الإنجليز الذين رصدوا مكافأة مالية قدرها ألف جنيه لمن يرشد عنه، وفى بداية هروبه وتخفيه شعر النديم بذكائه النادر أن خادمه المرافق له ربما يشى به ويبلغ عنه فأتى بإحدى الجرائد وتصنع قراءتها ثم نظر إلى خادمه قائلا بانزعاج شديد : يا ساتر يا رب .. لقد رصد الانجليز ألف جنيه لمن يرشد عنى .. وخمسة آلاف لمن يرشد عنك فخاف الخادم خوفا شديدا وكان  بعدها أحرص على النديم من نفسه.

وفى بداية هروبه اختار النديم محافظة الغربية وبالتحديد قرية "العتوة" للاختباء بها وأفصح لعمدتها محمد الهمشرى عن شخصيته، فقد أدرك وطنيته وحبه للوطن وأخفاه الهمشرى هو وخادمه وزوجتيهما لمدة ثلاث سنوات كاملة، وكانوا ينامون فى سرداب تحت الأرض، وكان النديم مُصرا على أن يقرأ ويكتب فى كل هذه الظروف الصعبة، فكان يضئ مصباح غاز ليمارس هواية القراءة والكتابة طوال الليل ولم يأبه أبدًا لتوسلات زوجته وخادمه وزوجة الخادم بألا يقرأ ولا يكتب فدخان المصباح كان يسبب لهم اختناقًا كل ليلة.. واستمرالنديم فى اختفائه فى عدد آخر من القرى... وفى تلك الفترة ألف النديم واحدًا من أهم كتبه هو "الاحتفاء فى الاختفاء" غير أن جاسوسًا حقيرًا ومرشدًا للإنجليز تدخل بعد ما يقرب من عشر سنوات من الاختفاء لينهى هذه المغامرة، وكما بدأ النديم هروبه واختفاءه بمحافظة الغربية أنهاه بذات المحافظة.. إذ بعد سنوات طوال من الاختفاء رسا المقام بالنديم فى قرية "الجميزة" التابعة لمحافظة الغربية وكان بها مرشد للبوليس يدعى إبراهيم الفرارجى تعرف على شخص النديم وأبلغ عنه ليتم القبض عليه بعد ما يقرب من عشرة أعوام من الاختفاء.

 سابق عصره

قضى النديم بضعة أيام فى السجن ثم قرر الخديو توفيق نفيه إلى مدينة يافا الفلسطينية التى أقام فيها حوالى عام، ثم مات توفيق فعاد  النديم إلى مصر، ويقرر مرة ثالثة إصدار جريدة أطلق عليها اسم "الأستاذ" استصدر ترخيصها باسم شقيقه عبد الفتاح بينما كان النديم هو محررها المسئول، وكتب النديم فى عددها الأول أنها صحيفة لا تتقيد بفن ولا تقتصر على موضوع معين.. ففيها ما يحسن نشره ويلذ سماعه من المعقول والمنقول مما لا يطعن فى دين ولا يمس شرفا، وكانت تصدر كل ثلاثاء من كل أسبوع.. فى 22 صفحة وفيها كتب النديم ولخص آراءه فى القضية الوطنية ومهاجمة الاحتلال بشكل واضح.. ومما كتب النديم نختار هذه السطور " إن الـتأخر إنما جاء من تعميم الجهالة بإغضاء الملوك عن وسائل التعليم والتضييق على أرباب الأقلام والأفكار وبعد الأغنياء عن الجمعيات وتقاعدهم عن ضروب التجارة والصناعة والزراعة.

 كما كتب النديم ملخصًا عن أسس التقدم والنهضة فى وجهة نظره فى : حرية الكتاب فى نشر أفكارهم وتشجيع المخترعين والمبتكرين   ومساهمة أصحاب الأموال فى دفع النهضة والتعليم الإجبارى والمؤسسات الإجتماعية المتميزة  والمجالس النيابية ومشاركة الأفراد فى إدارة الوطن  .. وتؤكد هذه الأفكار على أن النديم  الذى كتبها منذ مائة وثلاثين عاما كان مفكرا سابقا لعصره فهى تصلح لأن تأخذ بها الأمم فى عصرنا الحالى إن أرادت النهضة والتقدم.

وقد كان النديم ضد الانبهار الساذج بحضارة الغرب فقد كتب مقالا  بعنوان.. زعيط يتعلم فى أوروبا.. تصور فيه شابا ريفيا ساذجا اسمه "زعيط" يحب أكل البصل ولا يجيد التعامل إلا مع البهائم، كان أبوه غنيًا من الأعيان فأرسله فى بعثة للدراسة بفرنسا فلما عاد إلى بلده كان أسيرا لما رآه فى الغرب، وانقلب كلية على عادات وتقاليد أهله ونسى حياته الريفية تماما، وحين جاء أبوه ليسلم عليه بالأحضان تراجع عنه ومد له يده وهو يقول: سبحان الله عندكم يا مسلمين مسألة الحضن دى تخلف قوى  قول بون ا ريف وسلم باليد وخلاص، وكان النديم يرى أن المتفرنجين من أبناء الشرق  يحكمون على الفكر الأوروبى من منطلق هو سهم به، وكان للنديم مقالات يهاجم فيها الأوربيين ويستغرب عليهم كيف يندهشون من مقاومة المصريين للاحتلال الانجليزى، وكتب فى ذلك مقالا مهما عنونه بـ" لو كنتم مثلنا.. لفعلتم فعلنا".

وقد كان النديم يدرك عظم ما تصدى للقيام به وصعوبته وقد كتب فى ذلك يقول: وما خلقت الرجال إلا لمبارزة الأهوال ومصادمة النوائب.. والعاقل يتلذذ بما يراه  فى فصول تاريخه من العظمة والجلال.. وإن كان مبدأ الصعوبة كدرا فى أعين الواقفين عند الظواهر وقال فى ذلك أيضا شعرا يقول فيه:

وإنْ الفتى لم ينازل زمانه.. تأخر عنه صاحب وحميم

فردوا عنان الخيل نحو مخيم.. تقلبه بين البيوت نسيم

وشدوا إلى الأطراف من كل وجهة.. فمشدود أطراف الجهات قويم

إذا لم تكن شيئا فكن أرض وطأة.. فليس لمغلول اليدين حريم

وكان النديم يشعر بانتماء شديد لتاريخنا الإسلامى وهو يقول كل من فى الكون الآن من العلماء إنما هم تلاميذ المسلمين.. وفى عنق كل منهم دين للدين الإسلامى إذا كان النديم قد وجَّه نضاله للمسألة الوطنية ومقاومة الاستعمار بالكلية فقد خص الفلاح المصرى  بكثير من اهتمامه، وكان يرى أن نهضة الأمة تبدأ بهذا الفلاح، وقد كتب أبياتا زجلية فى حال الفلاح القاسية يقول فيها:

شرم برم حالى غلبان.. أهل البنوك والأطيان

صاروا على الأعيان أعيان.. وابن البلد ماشى عريان

ما معاه ولا حق الدخان.. شرم برم حالى غلبان.

 خروج إلى الآستانة

 وكان طبيعيًا أن تستفز الأستاذ بما فيها من آراء وطنية عظيمة تدافع عن الوطن ضد الاحتلال، كان طبيعيًا أن تستفز الإنجليز  ليقرروا مرة أخرى نفيه إلى يافا، ولم يستطع الخديو عباس أن يفعل له شيئا، وبعدها يعود النديم لفترة قصيرة الى الاسكندرية ليتوجه  بعدها إلى الآستانة حيث مقر الخلافة العثمانية ليذهب الى هناك  مفعمًا بروحه الوطنية العظيمة آملا فى العودة مرة أخرى إلى المحروسة.

خرج النديم من مصر متأذيًا مجبرًا حزينًا مع أن السلطان العثمانى عبد الحميد خصص له راتبًا خمسة وعشرين جنيها شهريا لكنه كان يود لو استمر يواصل كفاحه فى المحروسة التى أحبها أكثر من نفسه.

فى الثالث عشر من يونيو عام 1893 خرج النديم من مصر إلى تركيا وقد كتب قصيدة حزينة ودع فيها أحباءه فى الوطن يقول مطلعها..

أودعكم والله يعلم أننى... أحب لقاكم والخلود إليكم

وما من قلّى كان الرحيل وإنما.. دواع  تبدت فالسلام عليكم

وفى الآستانة عمل النديم فى ديوان المعارف ثم عمل مفتشا للمطبوعات فى الباب العالى، وقد كانت هذه الأخيرة وظيفة تتنافى تماما مع روحه النازعة للتحرر من كل قيد فيما يكتب ولأنه النديم الذى تعود على المعارك وخوض غمارها مهما كلفه الأمر فقد دخل وهو فى الآستانة فى معركة كبيرة ضد واحد من سدنة النظام العثمانى ومن أقرب المقربين للسلطان عبدالحميد.. وهو الشيخ أبو الهدى الصيادى.

وقد هاجمه النديم هجوما شديدا وهو الذى كان مسيطرا تماما على السلطان عبد الحميد بل وبعث بطريقة سرية الى مصر كتابا ألفه فى ذمه والهجوم عليه عنونه  بـ " المسامير" وقال فيه شعرا:

هذا الذى قبل دخوله.. دار السعادة مقرفا شحاذا

واليوم صورته تبين أنه أضحى بأقبح حيلة أستاذا

وقد كشف النديم عن دسائس أبى الهدى ومؤامراته وكيف اتخذ الدين ستارا لتحقيق أطماعه وأسماه بالمسيخ الدجال، وكما كان ساخرا سخرية مرة فى تصديه لآفات المجتمع فى مصر انتهج نفس السخرية فى تصديه لآفة الصيادى فى تركيا.

وكما كان هو ذلك المتمرد الثائر ضد الانجليز ومن والاهم فى مصر، كان أيضا هو المتمرد الثائر ضد الشيخ  التركى  المتسلف  أبى الهدى الصيادى الذى كان مستأثرا تماما بالسلطان عبد الحميد الذى أرسل إلى مصر لكى  يجمع ويصادر كتاب النديم الذى يكشف فيه الصيادى ويفضحه، وقيل إنّ من كان يُعثر معه نسخة من كتاب المسامير كان يحكم عليه بالإعدام.

ألف النديم كتبًا فى السياسة والدين والتاريخ منها اللآلئ والدرر فى فواتح السور والبديع فى مدح الشفيع وكتاب المترادفات، وألف وهو فى الآستانة كتاب مكابدة المشتاق فى الحنين الى مصر، وكذلك كتاب كان ويكون وهو أهم كتبه، وكتاب النحلة فى الرحلة بالإضافة الى كتابه القيم الاحتفاء فى الاختفاء.

اشتد الحنين بالنديم للعودة إلى المحروسة وطلب من السلطان عبد الحميد أكثر من مرة أن يغادر تركيا لزيارة مصر ولكن السلطان رفض رفضا قاطعا .. وجاء الخديو عباس زائرا الآستانة واتفق معه النديم ومع بعض رجاله على أن يصحبهم فى الباخرة التى ستقلهم إلى مصر بطريقة سرية، واختبأ بالفعل فى الباخرة قبل مغادرتها ولكن سره يكشف ويأمر السلطان عبد الحميد بنزوله من الباخرة ويقتل حلمه فى العودة الى وطنه.

 وبعدها يزهد النديم فى الدنيا وتسوء صحته ويمتنع عن الطعام والشراب ويصاب بداء السُل ويطلب أن يجئ شقيقه ووالدته لرؤيته قبل موته، وقبل أن يصلا إلى الآستانة يفارق النديم الدنيا فى العاشر من أكتوبر عام 1896 ويدفن فى الأراضى التركية ليعيش هذا الثائر العظيم غريبا ويموت غريبا ويدفن غريبا محروما من الأرض التى نذر حياته وقدم روحه فداء لها ولأهلها.


Katen Doe

محمود مطر

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

المزيد من ثقافة

How Breakers Prevent Major Electrical Failures

How Breakers Prevent Major Electrical Failures

قصة مصورة - تحت الجردل

على سطح العربة، قرفص "الفواعلى"، منتظراً على نار قطع المسافة الشاسعة التي تفصله عن منطقة العمل.

حسن فؤاد.. الراعى الرسمى للمبدعين.. وجواهرجى الموهوبين

الفنان الذى حوَّل سجن الواحات إلى لوحات اكتشف واحتضن المئات من نجوم الرسم والصحافة وترك بصمته على الجميع رسوماته لشخصيات...

مى حمدى منصور تتحدث عن «عمها» شاعر النصر وصاحب «حدوتة مصرية»

عبد الرحيم منصور رفض طلب السادات بأن يكتب قصيدة هجاء فى الأبنودى والدته هى سر عبقريته.. وماتت بعد رحيله ب...