قراءة في "تفسر أعضاءها للوقت" لوليد علاء الدين

في مجموعة قصائد "تفسر أعضاءها للوقت " ينتقل وليد علاء الدين إلى الضفة الأخرى "قصيدة النثر" الصريحة إلى حد بعيد بعد كل التجريب الذي لمسناه في مجموعته

       في مجموعة قصائد  "تفسر أعضاءها للوقت " ينتقل وليد علاء الدين  إلى الضفة الأخرى "قصيدة النثر" الصريحة إلى حد بعيد  بعد كل التجريب الذي لمسناه في مجموعته الشعرية الأولى: "تردني لغتي إلىّٰ"؛ ذلك التجريب الذي أعطى نفسه بالكلية لمنجزات القصيدة الحديثة /الحداثية سواء  على مستوى التقنيات اللغوية والهندسة التشكيلية أو الموضوعات الجمالية، ومثله في ذلك مثل كثيرين من الشعراء العرب في الثلث الأخير من القرن الماضي الذين  أعلنوا القطيعة، دون حسم على الأرجح ،مع الشعرية العربية  بوجهها التفعيلي الخليلي العتيق،  ومنطقها الرسولي الاجتماعي ولغتها التاريخية المنبرية واستاتيكيتهاالجمالية ورؤيتها الدوغماتية الكلية الشمولية  التي تعتمد الخطاب المركزي والمعمار اللغوي الفخيم المزخرف .

           لقد ضرب السكون التاريخي /الحضاري العربي المعاصر  كل أشكال الثقافة العربية السائدة في مقتل وبدا للعيان مدى خواء خطابات تلك الثقافة خاصة حين انكشفت عورات التاريخ العربي السياسية والاجتماعية والاقتصادية متمثلة في أزمات بنيوية طاحنة لم تفلح معها  "حنجورية" الحنجوريين "الحناتير"[1] (مع الاعتذار للريس حنتيرة الأصلي)  ولا شعارية الشعاريين القوميين ولا طوباوية الاشتراكيين الوطنيين ولا شفت منها موروثات السلف (الصالح !!) ولا دعوات المغربين غرباً أو المشرقين شرقاً .

         وفي خضم هذا التيه العام ومن قلب تلك الحالة الوبائية وبمنطق الطبيعة الصرف وجدل التاريخ الغلاب تطرح الثقافة خطاباً آخر يمثل محاولة التجاوز والعبور إلى مرحلة جديدة.  يقول محمود قرني في دراسته  عن قصيدة النثر : "لاشك أن قصيدة النثر جاءت في لحظة مفصلية تتغير فيها ثوابت كثيرة على المستوى المحلي والعالمي في ثورة مابعد الحداثة والمعلوماتية الهادرة من كل مكان وأيضاً في لحظة يتم فيها التشكيك في دور النص الريادي ، ولكن السؤال هل هذه المراجعات مع النص الريادي على مستوى المفهوم تعني أنه يفقد فاعليته؟ وأتصور أن الإجابة بالنفي أو بالإيجاب لن تكون ذات معنى ،لكن المؤكد أن ثورات التحرر في العالم الثالث هي التي "دشنت استرجاع الفرد صوته في الشئون العامة والخاصة ومهدت لتوسيع حدود طبقات اجتماعية مسحوقة وهو الأمر الذي أعطى قيمة رفيعة لمعنى الالتزام في الفن والأدب" .

            ومن هذا المنطلق  لا يمكننا أن نتعامل مع النص الريادي إلا باعتباره أيقونة تستحق الكثير من الإجلال، ولكن هل يمكننا بطريق آخر الجزم بأن الواقع في العالم الثالث تجاوز مأزقه تجاوزاً سلمياً يرتبط بحركات تحديث حقيقية، "تمنح هذه الانقلابات الأخلاقية مبررات الإزاحة" ؟![2] قد يكون ذلك صحيحاً في جانب منه وهو الأمر المتمثل في حالة السأم العمومية التي أصابت المتلقي بفعل الشعر الفاسد الذي طرح مجموعة من الهلوسات والأمراض باعتبارها تجليات لتقدم النص، وقد حدثت في بداية القرن ردود أفعال عنيفة ضد الرمزية وضد كل ماهو ذهني ودعا النقد الغربي إلى الاقتراب من الحياة أكثر أو نحو "الحقيقة الملموسة " وقد شهدت فرنسا بالفعل تياراً يتبنى هذا الشعر الملموس منذ  عام 1910 إلا أن واقع الشعر الأوروبي تغير تماماً بعد الحرب العالمية الأولى ،فقد ظهرت الدادائية والسوريالية لتحطما "قوى النظام والتنظيم الفني تماماً ".  ولكن يبدو أن الكائن في العالم الثالث وصل إلى نقطة اللاعودة ، لا إلى القيمة ،ولا إلى المعنى . وقد يتراجع هذا الشعور إذا ما ارتبط بمشاريع ثقافية وطنية واضحة المعالم حتى لو عملت في إطار من التدويل .

              ونحن نتفق مع الروح العامة لتلك المقولات خاصة ما يتعلق بانخلاع الفرد من أخطبوطية وأصولية الخطاب الجمعي الكلي اليقيني الدلالة واستعادته خطابه وصوته الخاصين في كل مايتعلق بالهموم العامة والخاصة وانسحاب ذلك بالقطع على فضاء الإبداع الشعري وهو الأمر الذي نلمسه بقوة فى مجموعة وليد علاء الدين الثانية "تفسر أعضاءها للوقت".

 

استعادة الخطاب والصوت

 

ولأنه في البدء كانت الكلمة ولأن اللغة هي بيت العالم وبها يوجد كل شيئ وهي تأسيس الوجود واللاوجود فإن شاعرنا وليد علاء الدين يستهل إبداعه الشعري  من فرضية انقلابية تزري بالكائن والمستقر، الطبيعي منه والتاريخي والشخصي إذ يبدأ من كلمة الإخلاء وقول التعطيل ومفردة السلب في نصه الموسوم "بهاء الطبيعة فيكِ" :

تخلي الطبيعة أشياءها :

فلا يستضيف الورق الحبرَ 

ويستعصي الحجر على سن الأزميل 

كذا الأخشابُ ..

ويصد الجِلْدُ شروط الدبغ 

وماء الأصباغ ..

وينتهز لحاء الشجر الوقت ويهجر حكمته ،

الطين يغادر طينته :

يختصم التشكيل ،

ويصحو الحاسب مندهشاً 

 من هول فراغ الذاكرة 

ويسترسل النص في إيراد شواهد العطالة الطبيعية والتكنولوجية والإنسانية  التي تترى في تراكبها وتكاثفها الدلاليين واحدة بخناق الأخرى لتصل في نهاية المطاف إلى برها المعلوم ، بر الذات المحتضنة وعيها التعيس،  والتي تلوذ  بدفاعها الأخير عن معنى الوجود وقيمة الحياة الإنسانية المتلخصين في الحب الذي هو طبيعة لاتتخلى عن أشيائها :

تتراخى الأسلاك فلا تحمل نبضاً أو ومضاً :

تتجمد موجات البرق ،

تتعفن حزمات الضوء 

وتنتحر الألياف ...

تتهاوى أقمار تتكشف صنعتها ..

ويضن الموج بحمل القنينة 

وتضم القنينة أن تقطع رحلتها سابحة ،

وتنوء حمامات المدّ

بضرب شراع الريح 

إلى موئلها ..

فتحلق عبر دوائر ضيقة ..

تتسع ولاتنفتح ..

وتساق الخيل لغير الفتح ..

ويضن رفيقيّ في غربتي عليّ

بحمل رسائل من منفاي 

إليكِ .       

 

جماليات الإبهام

يتوزع النص التالي الموسوم "تويج " على نص مدخل -محاذي وإثني عشر نصاً مرقومين يمثلون المتن . في نص المدخل يبدأ الشاعر  من صورة مركبة لعناصر مادية طبيعية وصناعية مختلفة الدلالة يدور بعضها حول ماهو ديني تبركي كالمسبحة والأيقونة وبعضها الآخر حول ما هو ذي طبيعة مخيفة كابوسية كالمشنقة والأنشوطة والوطواط لتجتمع كلها في صورة نفسية مادية شهوية تتعلق بلعق تويج زهرة والمعلوم أن وظيفة التويج في الزهور هي جذب الحشرات لإتمام عملية التلقيح لكن الصورة بجماعها  تنتهي بسؤال وجودي عن ثنائية الشهوة-اللذة والألم -العذاب :

مدلاةً 

كعنقودٍ،

كوطواطٍ

كمسبحةٍ،كأنشوطة 

كمشنقةٍ،كأيقونة

ك..

...........

ياللشهوة ..

كآخر مرة 

علقت فيها 

تويج زهرة !

الأرواح تتناسخ ...

أم الألم ينسخ الأرواح بروحه ؟

وفي النص -المتن (١) نجد أنفسنا قبالة تبادل الدوال فثمة في "الهدأة "حيث "السكون مطبق ""يتألم الجدار "و"نحن ننصت"  مع  أهمية ملاحظة  الانكشاف الساخر في لفظة "ياللسهو":

هذا الألم ..

وكأنه ينبت من ...

من ..

من.......نا..

 

ياللسهو :

نحن ..

الجدار .

ويمعن النص -المتن (٢) في استبطان الأزمة الوجودية بتشكيل قائم على ذات التكنيك (تبادل الدوال) وإبراز المفارقة لكن هذه المرة عبر محاولة اصطناع علاقة ماهية بين الرجال وقشور الموز مستخدماً آلية المسح الضوئي للتوصل إلى أفضل وأدق صورة  لتصل ذروتها في السطر :"القشور رجال" في تناص واضح مع قصيدة "الرجال الجوف"  الحداثية الشاعر الأمريكي/البريطاني  الأشهر  تي. أس. إليوت.  يقول إليوت : " نحن الرجال الجوف/ حُشينا بالقش / نميل معاً/ وقد امتلأت رؤوسنا بالقش، وأسفاه!" [3]  

وهكذا ربما يمكن تلمس دلالة ما هنا وربما يتعثر التلمس الاستدلالي وإن ظللنا أمام إيحاء بتفاهة الرجال تذكرنا ولو في سياق مختلف  بالرجال الجوف لإليوت .

 

 

 



[1] نسبة إلى (الريس حنتيرة)  السار  الأوحد في المقطع  الشهير من أوبريت (الليلة الكبيرة) للشاعر المصري  صلاح جاهين. يحسب للصحافي المصري  يسري فودة أنه  أول من استخدم لفظة (الحناتير) في إشارته  الرمزية   لكل مذيع تلفازي  مصري فاشل جاهل متخلف معتوه (وما أكثرهم في هذا الزمان) أوكل إليه  (أو إليها)  بلا منازع مهمة الظهور منفرداً على شاشات الفضائيات الخاصة ليتحدث وحيداً  كالببغاء الأبله إلى الجمهور بلغة  ركيكة منحطة تثير الاشمئزاز  عن قضايا  تافهة  لاتهم أحداً . هؤلاء الحناتير   هم  مهزلة العصر وهم عار على الإعلام المصري العريق وهم بقايا  عهد لقيط نتمنى الفكاك من براثنه.  (المؤلف).

[2]  أنظر دراسة محمود قرني " قصيدة النثر من الانفلات إلى الشعرية الرسولية". مقدمة كتاب غير دوري معني بقصيدة النثر العربية، العدد الأول ديسمبر 2007، ، ص. 43-44.

[3] أنظر . تي. أس . إليوت. الأعمال الشعرية الكاملة . نيويورك : فيبر وفيبر. 1970.


Katen Doe

د. صديق جوهر

محرر بالموقع الموحد للهيئة الوطنية للإعلام

أخبار ذات صلة

جماليات التشكيل الانزياحي في (الحقايق تتشاف في العتمة)
قراءة في  ديوان " الموتى يقفزون من النافذة " لفتحي عبد السميع
فلسفة المتاهة ..  مدخل لقراءة ديوان" البيوت الصغيرة"
اللغةُ العربيةُ في يومِهَا العالميِّ
ثورَةُ الأنقاضِ
جيرار جينيت: البويطيقا والعلاقات النصية مقاربة نظرية شارحة
قراءة في ديوان ( قصاقيص أحلام ) للشاعر / أحمد زغلول
عن فاسدٍ خمسيني ينتصر على الموت بالحياة قراءة في ديوان " أبيض شفاف "

المزيد من دراسات نقدية

جماليات التشكيل الانزياحي في (الحقايق تتشاف في العتمة)

الصورة الشعرية في الشعر العامي ، ترتكز على الانزياح الفني ، لاسيما في قصيدة النثر العامية ؛ لأنها تهتم بتحقق...

قراءة في ديوان " الموتى يقفزون من النافذة " لفتحي عبد السميع

كم شغلت حقيقة الموتِ الفلاسفة، ومضتْ تؤرقُ مجاز الشعراء على مختلف العصورِ، فتحدثَ الشعراءُ عن الموت كمعادلٍ للفقدِ في معظم...

فلسفة المتاهة .. مدخل لقراءة ديوان" البيوت الصغيرة"

حين تقتني ديوان "البيوت الصغيرة" للشاعر أمجد ريان أحمله برفق وأصغ لنبض حرفه ،فإن كل حرف يحمل في طياته تجربة...

قراءة في "تفسر أعضاءها للوقت" لوليد علاء الدين

في مجموعة قصائد "تفسر أعضاءها للوقت " ينتقل وليد علاء الدين إلى الضفة الأخرى "قصيدة النثر" الصريحة إلى حد بعيد...